قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
بيت العنكبوت
 ظل المتابعون للشأن السياسي في الوطن العربي يصفون الإحتقان السائد في كثير من البلدان العربية بأنه المقدمة الطبيعيـــة للثورات التي ستعقب هذا الإحتقان ولكنهم اختلفوا في مقدار الزمن اللازم لحدوث أي تغيير كما اختلفوا في تقدير درجاته من بلد إلي آخرغير أنه كان من شبه الحاصل أن أحداثا كبرى ستحدث في بلدان مرشّحة قبل غيرها لزلزال اجتماعي وسياسي لم يعد منه بد. 
وصلت الأمور في مصر وفي ليبيا وفي سوريا مثلا الي الحدّ الذي لم يعد من الممكن السكوت عليه، حيث بلغت الأنظمة السياسية الحاكمة في هذه البلدان قدرا كبيرا من الشيخوخة والفساد والقمع وصل ببعضها حد توريث الحكم عنوة ومن دون الإلتفات الي رأي الشعــب فى هذا التوريث، فكانت هذه البلدان الثلاثة المرشّحة قبل غيرها لحدوث الثورات. غير أن المفارقة الكبري كانت قيام الثورة في تونس ونجاحها السريع في انهاء ديكتاتورية بغيضة جثمت على صدور الناس لأكثر من عقدين. فهل كانت تونس حقا أرضا خصبة لحدوث زلزال سياسي كالذي حدث ؟ وهل كان الشعب التونسي يعد لثورته على مهل أم أن ما حدث كان مفاجئا حقا للنظام وللثوار والنخب على حد السواء؟ من هنا يبدأ الإختلاف. 
بدأ المخلوع حكمه ببيان أصدره يوم تولّيه نسجه كما ينسج العنكبوت بيته وعد فيه الناس بعهد جديد، فخرج الكثير منهم مهللين لهذا العهد الذي لا ظلم فيه ولا حيف ولا بقاء مدى الحياة ولكن سرعان ما انكشف المستور وبدأ النظام الجديد يحوّل خيوط العنكبوت الى بيت منسوج بإحكام.  سنوات قليلة مرت ليجد المهللون أنفسهم من جديــد فى قبضة نظام مستبد أتقن لعبة التحالفات وأطبق على المعارضة وأزال من أمامه كل العقبات، ولم يعد هناك صوت يعلو فوق صوته وهكذا يوما بعد آخر وسنة بعد أخرى والهوّة بينه وبين الشّعب تزداد حتى تحولت الي قطيعة، فتململ هنا وهناك، فثورة عاصفة أطاحت به في أقل من شهر و «إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت» .
لا يوجد أي شكّ عند المتتبعين المتبصّرين ليوميات الثورة في كون النطام سقط بسرعة ولم يصمد بالقدر المطلوب من نظام أتقن البقاء لمدة عقدين من الزّمن لم يعرف فيهما هزّات تذكر باستثناء انتفاضة الحوض المنجمي ولعلّ ذلك من الأسباب التى أدت بالكثيرين الى الشّك في أن الثورة حدثت أصلا، ومنهم من يتحدّث الى الآن عن شيء ما حدث هو الذي أدّى الى فــرار المخلــوع بتلك السرعـــة، معتقديــن أنه لم يحم كرسيه بالقدر الذي يتطلّبه طول التنعّم بالكرسي مما يعني فى المحصلة أنه دُفع الى الفرار دفعا من جهة مجهولة هي من تولّت بعده مهمة إدارة الأمور. ومثل هؤلاء يغفلون فى نظرنا أن طول البقاء بلا كلفة تذكر، لا يعني أبدا أن النظام كان يحكم البلد بأريحية ولا أنـه لم يكن نظاما غبيا يحكم من خلال توليد الكذب بعضه من بعض، غافلا عن كون الكذب وتدليس الأرقام وطمس الحقائـــق وتضخيم القليــل من المنجز لا يستطيع وحده أن يطيل البقاء
لسنا ممن يستبعد تدخل الخارج في الشأن الداخلي، فالخارج لم يكن بعيدا عن البداية. فلا مجال إذن لاستبعاده من رسم النهاية السريعة ولكن هذا الخارج لم يكن يعمل مع النظام المنهار فقط وإنما كان يمدّ خيوط الوصل مع النّخب المعارضة ومع اللاّعبين الرئيسين والثانويين فى المشهد السّياسى التّونسى حتى لا تخـــرج الأمــور عن سيطرتــه بعد أن وعى جيدا الدّرس الإيراني ولم يعد من الجائز السماح بتكراره، غير أننا نرى أيضا أن ما حدث كان مفعما بعبقرية الشعوب التائقة للمجد والحرّية والتّقدم، وأن الشعوب إذا أرادت إنجاز شيء فإنها تنجزه على النحو الذى تراه وفى المدة التى تهتدي إليها . وهذه العبقرية لا تصنع فى المخابر ولا تنشأ بين يوم ليلة وإنما هى المحصلة الطبيعية لطول المكابدة والمعانات وهي الثمرة الزكيّة لكل التضحيات المبذولة قرنا بعد قرن وعهدا بعد عهد وجيلا بعد جيل، فكم عاني التونسيـون من حكم البايات ومن كان قبلهم وكم قاسوا من ظلم المستعمـر الوافد حتى جاءت دولة الإستقلال بغير ما كانوا يرجونه منها، وصارت أشدّ عليهم ممن كان قبلها، فلا غرابــة إذن أن تجتمـــع الإرادة الكليـــة على رأي هو الثورة على الطاغوت وقطع حبل الكذب نهائيـا ونعم ما كان.
المصريون والليبيون والسوريون واليمنيون كانوا سواء فى توقهم للحرية والكرامة والإنعتاق وهم كانوا الأقرب للثورة من غيرهم ولكن تفاصيل الأشياء كالجغرافيا والمحيط وطبيعة الأنظمة السائدة من حيث حجم العنف الذي كانت تمارسه على هذه الشعوب، كلها عوامل أدّت الى بعض التأثير مما أتاح للشعب التونسي أن يكون له شرف السبق ولكن العبقرية واحدة وإن اختلفت منجزاتها .
ثارت هذه الشعوب كلها بكلفة كانت عند بعضها أشد إيلاما من المتوقع ومن هذه الثورات ما أسقط بتدبير ومنها من لم يكتمل مخاضها بعد وقد يجري إسقاطها هي أيضا، ولعل هذا ما يدعونا للتأمل بدقة في مسار هذه الثورات من البداية الى اللحظة الراهنة لعلنا نستطيع أن نتبيّن الأخطار التى تحفّ بهذه الثورات وبالعبقريات التى أنجزنتها حتى لا تحولها النخب الفاسدة والمتناحرة الى بيوت أخرى من بيوت العنكبوت وحينها سوف نندم جميعا حين لا ينفع الندم .