بلا حدود

بقلم
نعمان العش
في الثورة: يقولون « ثورة » في تونس مريضة، قلت ...
 لن نتملّك القدرة على وصفه فاقدا للمناعة كلّ قول أو رأي أو موقف يسبق التّفكير في موضوع، وسوف نعجز عن وصفه بالوجاهة كلّ قول أو رأي أو موقف عبّر أو وصف أو تقرّر وهو فاقد لمقوّمات منهجية تجعله وجيها، فهل يمكن أن نستبيح ساحة الحدث منذ 17 ديسمبر 2010 فنصفه بالثّورة؟ وهل لنا أن نبطل موقف من يعنّ له أن يصفه باللاثورة؟ إنّ الميل إلى أحد الرأيين أو الإقرار به لن يكون، في واقع الحال، مختلفا عن كلّ ميل يسبق الإقرار بكليهما، فمالّذي يبرّر لنا هذا الموقف؟
ثمّة تصوّرات بعضها يستمدّ من أنساق فكرية أو فلسفية وبعضها الآخر تدعمه نصوص دينية وكثير منها لا يفارق الدّغمائية والكليانية الموصولة بإيديولوجيات لم تكن بنيتها المرجعية إلاّ مؤسّسة لبؤس الاستبداد. كلّ ذلك يبطل القدرة على تحديد صارم لمفهوم الثّورة، ولكن هل عسانا نتراجع نكوصا لنصف الحدث بأنّه بعيد عن الثّورة الّتي كان الشّعب يطمح إليها وهو في الآن نفسه يسعى للكشف عن شروط تحقّقها، ومن عناصره من يتهيّأ لقيادتها بإعداد لـ:
*   أفكار تستمدّ من مرجعياته الفكرية أو الإيديولوجية أو الدينية وتصوّرات مناسبة لشكل الثّورة المرجوّة وأطروحات وبرامج ورؤى حول طبيعة الثّورة وأهدافها الّتي يجب تحقيقها.
*   أسلوب إنجاز الثّورة الّذي يجب أن يوافق المرجعيات الفكرية أو الإيديولوجية أو الدينية ويعكس أفكار الثّورة وأهدافها.
1.    بنية الثّورة الأساسية أو هيكلها الثّوري
نحاول، بدءا، أن نحصر رهانات الحدث الّذي نسمّيه ثورة شعبية، في هدفين رئيسيين وهما:
* تخلّص الشّعب من هيمنة الاستبداد السّياسي بأسلوب حركة سلميّة.
*  إقامة نظام سياسيّ ديمقراطيّ يحتكم فيه إلى القانون والانتخاب العامّ لتحقيق العدالة الاجتماعية والتّوزيع العادل للثّروات ولمواطن الشّغل مع ترسيخ احترام الحرّيات العامة.
هل يمكن، وفق هذا السّياق، أن نؤكّد أنّ الحراك الثّوري السّلمي في تونس، مثلما هو الشّأن في بقية البلدان العربية الثّائرة:
* مثّل إستراتيجية ثوريّة مستحدثة تخلّصت من غموض مفهوم الثّورة حسب الأنماط الفكرية الّتي كانت قد أسبقت له سياقات نظرية أوثقتها بشرط القيادة والحزب الثّوريين لدى بعضها، لتكون إستراتيجية معتمدة على أساس وثيق هو إرادة الشّعب، إرادة لخّصها الشّعار الّذي أجمعت عليه مجمل الشّعوب العربية المسلمة الثّائرة « الشّعب يريد » فأصبحت هي البديل الموضوعي للقيادة الجامعة،
* ومثّل بنفس الدّرجة استدعاء لمجتمع النّخبة بشقّيها الفكري والسّياسي لتلتزم بمراجعة مرجعياتها الفكريـــة أو الإيديولوجيـة أو الدينية وتصوّراتها الثّورية السّابقة مراجعة قد تصل إلى درجــة استئصــال كلّ واحدة تستنكف عن أن تكون موافقة للقيادة الحقيقية لما سمّي بالثّورة وهي الشّعب وإرادته،
*  وحقّق تنازلا دوليا، عن منظومة دعم الاستبداد فكريا وسياسية واقتصاديا وعسكريا. تنازل تجسّد في إقرار بأحقّية الشّعوب الثّائـرة في تحقيق مصيرها وتملّك حقّها في الأمن والسّيادة في محالات عدّة لعلّ أهمّها يتمثّل في الأمن والسّيادة الغذائية.
* وبشّر بالفصل بين قيادة كانت تفرض ذاتها كقيادة تاريخية مؤبّدة تحتكر لديها كلّ عناصر القوّة والهيمنة والجبروت وقيادة مؤمنة بقيم الحرّية والعدالة والمساواة وبديمقراطية ذات نمط جديد يؤسّس بموجبها لحقّ إرادة الشّعب في إرساء خيار التّأصيل الملتزم بإطاره الثّقافي الّذي يتبنّاه ويدافع عنه وهو ما به يحقّق ذاته الوطنية كشعب صاحب إرادة لا تنفصل عن تاريخ تؤبّد فيه إرادة التّجديد والإصلاح. هذه القيادة هي الشّباب الّّذي اختبر كثير من أفراده لؤم الاستبداد وعقم تأبيد القيادة الّذي تتّكئ عليه قيادات الاستبداد. ألم يمثّل الشّباب المتعلّم والجامعي قيادة حقيقية للحراك الطلاّبـــي طيلـــة العشريـــة الأخيــرة من سنين الحكم البورقيبي وعشريتين من حكم بن علي.
* وكشف بكل وضوح ونقاء عمّا أسميناه « لؤم الاستبداد وعقم تأبيد القيادة » ليكون الشّباب/القيادة الجديدة عاطلا عن العمل أو يعيش في وضع اجتماعي متدنٍّ. إنّ شبكة التّواصل الاجتماعي أفصحت عن نفسها كـ« محبرة » لكتاب الثّورة الّتي كتب بها الشّباب عبارات الرّفض للواقع المأزوم والمنبوذ وقرّر عبرها عدم المرور بوساطة الأحزاب السياسية.
* وتميّز الشّباب/القيادة بالتّحرّر من قيود الأيديولوجية ليختزل رهانــــه الاستراتيجــــي الأوّل في شعـــار مركزيّ مجمع هو شعار « ارحل».
2.    الدّولة: صورة مطابقة للأصل أم مناقضة للأصل
عبارة الفيلسوف الانجليزي « إنجلز » يعبّر فيها عن أنّ « الدولة إذن ليست بحال سلطة مفروضة على المجتمع من خارجه، كما أنها ليست كذلك « تجسيدا للفكرة الأخلاقية » « وصورة وحقيقة العقل» كما يدّعي هيغل »([1]) تبين في بعض ملامحها عن الاستقلال والسّيادة لدولة يكون أساسها ما يثبّت أحقّية إرادة الشّعب ووجوب فرضها على تسلّط السّلطة الخارجية المفروضة من الخارج وفيها ما يبيّن أيضا الخلاص من التّبعيّة والتّحرّر لأجل الأمن والسّيادة كرهانين متحقّقين كما تبين في ملامح أخرى الخلاص من الدّغمائية الشّمولية المفسدة، حال هيمنتها على الدّولة، للحرّية والعدالة. إنّ العقل، وإن اختزل آلية إنشاء منظومة القوانين المدنية إلاّ أنّه بنفس الدّرجة في واجهة أخرى يفهمه المستبدّون آلية للإجهاز على المخالفين وبه يبرّرون إقصاءهم واستئصالهم.
« الدّولة بالأحرى هي نتاج للمجتمع عند درجة معيّنة من تطوّره، الدّولة هي اعتراف بأنّ هذا المجتمع قد توّرط في تناقض مع ذاته غير قابل للحلّ، وأنّه قد تصدّع إلى تناقضات لا يمكن التّوفيق بينها ولا طاقة له بالخلاص منها. ولكي لا تقوم هذه التّناقضات، هذه الطّبقات ذات المصالح الاقتصادية المتصارعة، باستهلاك أنفسها والمجتمع في نضال عقيم، أصبح من الضّروري قيام سلطة تقف في الظّاهر فوق المجتمع، سلطة تهدّئ الصّراع وتبقيه في حدود « النظام »، وهذه السّلطة المنبثقة عن المجتمع والّتي تضع نفسها فوقه وتغترب عنه أكثر فأكثر هي الدّولة » ([2]) قول هو بدوره لإنجلز يضع حدودا للدّولة تفارق في ركن منها إرادة الشّعب حينما تتعالى عليه وتوافق في ركن ثان إرادة الشّعب حينما تبرّر ضمنياتها وجاهة الثّورة على الدّولة المتعالية على إرادة الشّعب. قد يتضمن إبرازا لأهمّية الثّورة الّتي قد يستوجب تحقّقها أن تكون عنيفة، وهو يقول في ذلك « فالعنف، على أيّ حال يقوم كذلك بدور آخر في التّاريخ (غير دوره كقوّة وحشية) بدور ثانوي، وبتعبير ماركس العنف يقوم بدور المولّدة لكلّ مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد وهو الأداة التي تشقّ الحركة الاجتماعية بواسطتها الطّريق لنفسها  وتحطّم الأشكال السّياسية المتحجّرة والميّتة ([3]).
 3.    ثورة النّخبة أم نخبة الثّورة
لامناص من إقرار يجب أن تفعم به الدّراسات التّحليلية لرصيد الاندماج في واقع الثّورة وهو إدانة النّخبة التّونسية الّتي خسرت:
*   شوط ادّعائها بقيادة منظومة النّضال ضدّ نظام القمع والاستبداد،
*   وشوط التّمويه من خلال معاشرة الاستبدادَ الخفيّة والتّحالف الوثيقَ الصّامت بين نظام الاستبداد في تونس خلال المرحلة البورقيبية (1956-1987) ومرحلة نظام بن علي (1987-2010) وبين النّخب السّياسية.
كلّ ادّعاء بأن ما حدث منذ 17 ديسمبر 2010 يمثّل ثورة حقيقية هو ادّعاء غير مكتمل الشّرط لأنّ سياقات الثّورة تشترط التّحقّق المكتمل والمتكامل وكلّ ادّعاء بأنّ ذلك الحدث لا يمثّل ثورة حقيقية هو ادّعاء متجنّ لأنّ إبطاله واجب يشترط اعتباره مبشّرا بثورة عمقها سوف يكون ثقافيا بالإضافة إلى أعماقه الأخرى السّياسية والاقتصادية والاجتماعية والتّنموية وعمق العمق سوف بكون الثّورة في وعي شعب يراهن بصدق على ديمقراطية لن تكون إقصائية.
4.    الهوامش
[1] و [2]- (إنجلز «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»، ص 177-178 من الطبعة الألمانية السادسة).
[3] - (أنجلز «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»، ص 193 من الطبعة الألمانية السادسة).