وجهة نظر

بقلم
طه كعنيش
الثورة التونسية بين عفن الموروث و معلمة الكهنوت
   بعد ثلاث سنوات أصبحنا ندرك مقولة المؤرخ الفرنســـي « Jacques Sole» الذي ميّز بين الثّورات الفاشلة والظافرة. (1) فالثّورات الفاشلة لا تستحق في نظره، نعت الثورة لأنها انتهت إلى الفشل؛ لكنها تبقى مع ذلك غنية بالمعلومات عن « الثّوريين الذين حاولوا قيادتها إلى النجاح».  ونحن نقول على طريقتنا: قد بتنا نعرف باليقين من هم الثّوريون الذين يتلبّسون بلبوس الثّورة وأمخاخهم مجردة منها فهم عبء عليها وهم في حكم الموات تاريخيا، ولكن للأسف لم نعرف أضدادهم. أمّا الثورات الظافرة  فهي التي يقودها ثوريّون حقيقيون  وأنا أقول لا معنى للظفر بلا وقود، وقود بديناميات الثورة ومنطق الحقبة ليفضي إلى تغييرات وإلاّ فلنغرد كما غرّد برتراند راسل عمّا أسماه ب «موت الفاعل التاريخي».
لوحة مريرة من تاريخ ثورة
في تونس لم تكن حكومة الغنوشي الأولى (المعيّنة بعد تهريب الرئيس) ولا الثانية (التي أدارها السبسي) من الثورية في شيء. ورغم أنّ الثانية هيّأت للانتخابات إلاّ أنّ ربّانها كانوا بمثابة السّلف الذي عبّد الطريق لمتاعب الخلف، فانبثق  النظام الوليد الذي رشّح عن الانتخابات ولم يكن قادرا على ضمان الاستقرار في البلاد، فبسرعة استرجع «الدّساترة» مواقعهم بعد أن جمعهم الباجي قائد السبسي وبدل أن ينكفئ كما وعد، هيّج مع أتباعه على أعمدة الصحافة ومنابر الإعلام معارك سياسيّة لا مصلحة للشعب فيها، سماتها التنافــــس لضمان  الاستقرار للبلد وتداعياتها بالأساس تطبيق الأجندة الاقتصاديّة والسياسيّة الأمريكية على الوجه الأتعس..
من رحم حكومة الانتخابات وفي غمرة مؤتمرات ومهرجانات الأحزاب المزهوة بنجاحاتها انطمس عن الأعين البديل الخطير المهيّأ له المسمّى بـ « نداء تونس» ثمّ وظّف  اليسار والأحزاب الواهية لبدء التصدير لوهم الثورة الثانية ليصعد أي مولود وديع مستكين للدول المانحة (من سماهم الجبالي بالشركاء) وتظهر الديمقراطية في حلّة مغشوشة قاعدتها التحاور لوأد الماضي الموبوء وانصياع  الأحزاب للمشروع الذي أعدّ على نار صبورة هادئة في مطابخ اخطبوطية تعمل بسقف الدعاية لنظرية «التخطيط الممنهج» بعبارة تشومسكي في إعادة القاطرة ومقطوراتها للبلد «الأمين» والمؤتمن على  رعاية مصالح الولايات المتحدة واللوبي الفرنسي الصهيوني في الوضع العالمي المتقلب. 
وهكذا أصبح «المثلث الصحراوي»  للجنوب التونسي منطقة عسكرية مغلقة لحماية الحقول النفطية (تصريح بن نصر) وذلك قبيل إعلان ليبيا بدورهـا عن اغلاق حدود بلادهــا مع أربــع دول مجــاورة ( تشاد والنيجر والسودان والجزائـر) –ولو بشكل مؤقــت- واعلان جنوب بلادها منطقة عسكرية مغلقة في مواجهة الاضطرابات المتصاعدة. دون أن ننسى أنّ مناطق غدامس في ليبيا (المحاذية للجنوب التونسي) تخضع هي الأخرى لحاكم عسكري للمنطقة الجنوبية بأسرها وله كافة الصلاحيات المخولة للسلطة التنفيذية.
صفحة من دوافع غير مكينة
هل يمكن الحديث اليوم في تونس عن وجود فكر سياسي متأهب للبناء؟ هل توجد رؤية سياسية مكتملة  لتطوير المجتمع بتحديد أزماته وتشخيص مشاكله و تجاوز مرحلة الاستقطابات الاديولوجية والفرز السياسي الناهض على أساس الاصطفاف الضيق للمجموعات السياسية المنغلقة  على نفسها الغافلة عن بوصلة الولاء للوطن وضرورة التقييم الدقيق للإنجازات وإخضاع القادة السياسيين لمشاريعنـــــا القوميـــة لا للمزايدات على بعضهم البعض..
التغيير الحزبي المترهل 
ممارسات بعض قادة الأحزاب ،لا تنبئ أنهم يستشعرون مقتضيات الإصلاح بتنمية الفكر لطرح القضايا الصحيحة والكفّ عن بيع الوعود للناس والتأسيس للممارسة المنظمة والبعيدة المدى بتخيّر أعضاء ملتزمين بالديمقراطية خلقا والاستقامة منهجا وبالمبادئ والقيم عقيدة وموقفا وهكذا بتنا نرى من تتلون مواقفهم بين تصريح وآخر ولتعدو طبيعة الأنشطة الحزبية  محمولة على حذق المناورة وإتقان المراوغة والتزلف للمستبدّ الأقدر وإن كان مفضوح العداوة  للوطن..
هذا في عامة الأحزاب وأعجزها، أمّا الأحزاب الحاكمة فيبدو أنّها فهمت دورها في ضمان دواعي استمرارها وحشد القوى لعرض إنجازاتها حتى وإن كانت تلك الإنجازات مجرد  مشاريع لم تر النور في حيز الواقع  أي إنّها في حكم المأمول لا المتحقق وربّما فهم البعض أنّ الحكم تحذلق وظهور مستمر على الشاشات التلفزية تخندقا في الدفاع عن مكاسب مختلف الهياكل وتوعية للمواطن بحجم التحديات وجبر خاطره عند تعثر الإنجازات (حتى وإن كانت الوزارة المعنية بالإنجاز لا تدخل تحت  أنظار مشمولات الوزير المدعو) أي أنهم لم يولوا عناية كبيرة لتعزيز أركان الدولة وفرض هيبتها لتحديث الترسانة القانونية ومراجعة القوانين المعطلة لدورة الإنتاج وإحياء الأراضي وإحداث ثورة زراعية لتنمية الثروة.. بل عملوا على تطبيق قوانين تناقض حقوق الإنسان (قانون مكافحة الإرهاب) ولم يراعوا حاجات المواطن للمعلومة الدقيقة والفكرة العميقة في تحليل الواقع بالتقدم في إصلاح الإعلام والاستفادة من دروس الماضي في ضرورة تحييد المؤسسة الأمنية،والقضاء، والمؤسسات التربوية بما في ذلك المساجد، عن الصراعات السياسية ولتتصدّر رابطات الثورة والمنظمات المهنية والجمعيات الشرعية والخطابة الدينية المشهد السياسي لإحداث التوازنات والتصدي لتجاوزات بعض الوجوه النقابية و تتقزّم أدوار السياسيين وتتراجع فاعليتهم في التصدي لقضايا الشأن العام بل تصدر أحكام قضائية وأخرى إدارية ضدّ أيمة غاظتهم عودة التجمعيين بل وامتدّت فسحة الزمان لقبر الملفات الخطيرة وغضّ النظر عن ساسة امتهنوا التحريض على جهاز الدولة والتشهير بأعضاء الحكومة وحتى التهكم برئيس الدولة  بحجّة التدرّب على الديمقراطية.
باختصار غابت الحكمة في التقييم وفي التخطيط لقادم الأيام بارتفاع منسوب الاستدانة وهدر المال والمضي في الموازنات الملغومة بالاقتصاد الريعي، وتجافى التّمعن في حل الإشكالات الداخلية والخارجية العالقة وشرّع وطبّق في دهشة المواطنين مبدأ المكافئة لمن هانوا والصفح عمن ولوا المسؤولية وتورطوا والعقوبة لمن عساه أن يقع في الشبهة....
وتبقى الأسئلة  بلا جواب
لماذا لا نحتمل أنّ ما جدّ في تونس وما يجدّ الآن في الدول العربيّة هو مجموعة من الانقلابات المنظمة  في لحظات حرجة على أنظمة مفلسة سياسيا واقتصاديا أجبرت على الرّحيل وغيّرت بأنظمة أخرى في وضع مغشوش... ربّما ليس من السهل أن تستلهم الأوطان والأحزاب الحاكمة فيها بعد، حتى وهي تقول إنّها إسلامية، دقّة المرحلة وتستوعب تقدم مشروع تفعيل الدحر والتقسيم للكيان العربي بصفة لا تعصم من مذاق مرارته ولو لحين أو قل هي أحزاب لقلّة خبرتها بدت  في ترددها وخوفها – كالأحزاب التي سبقتها – متماثلة أداء في الطواعيّة والإذعان لأعداء الأمس و اليوم من القوى الامبرياليّة الصهيونيّة. فهل يشرع بين العفن والكهنوت أن نحلم بزهو المصير إلاّ بدقّ المسامير في النعوش أو بمعانقة التفكير وإتقان العمل...؟
الهوامش
(1) النوعان من الثورات معا(الفاشلة والظافرة )هما موضوع كتاب صوليه Sole›.  أسماه «الثورة بلا ثوريين»