في العمق

بقلم
حسن الطرابلسي
الثورة التونسية وصناعة الحياة
 حري بنا والشعب التونسي يستعد لإحياء الذكرى الثالثة لثورته المباركة أن نلقـــي الضـــوء علــى بعــض خصائــص هذه الثورة التي لا خلاف في أنها كانت نتاجا لأزمات وأحداث عاشتهـــا البـلاد منذ الإستقلال، كما أن مجرد النظرة السريعـــة لتعاقــب الأحـــداث، منذ ما قبل الثورة، تمكننا من استخلاص مجموعة من الخصائص المميزة التي تابعت الحراك المجتمعي التونسي، كان أبرزها أولويّة السّياسي والثقافي وأهميّة التعايش أو التوافق بين مكونات الفاعلين في الحياة السياسيّة والإجتماعيّة والثقافيّة. كما أنه يمكن الجزم بأن أهم خصائص الثورة التونسيّة أنها أضافت أبعادا ومعان جديدة لمفهوم الشعب وبشّرت بالتالي بفعل سياسي منح تونس دورا رياديّا في دعم النهوض والتّحرر العربي والإسلامي. فكانت بذلك صانعة للحياة ملهمة للأمل.
أولوية السياسي والثقافي
رغم عمق الأزمة التونسية واستفحال أمرها، خاصة في حقبة المخلوع بن علي، ورغم التشابك الكبير بين العناصر السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية، فأن للبعدين السياسي والثقافي قصب السبق طيلة العقود الماضية. فالأزمات الإجتماعيّة التي مرّت بها البلاد وخاصة منذ انتفاضة 1978 ثم 1984 و1987 ثم في بداية تسعينيات القرن الماضي كانت أبعادهــــا السياسيّــة والثقافيــة أكبــر. ثم إنّ نضالات الإتحاد العام التونسي للشغل لم تكــــن فـــي تاريخهـــا ذات بعد اجتماعي مطلبي فحسب بل كان للأبعاد السياسيّة والثقافيّة دور لا يستهان به فيها.
التوافق والتعايش بين الفاعلين السياسيين
مع غلبة السياسي والثقافي على طبيعة الأزمة التونسيـــة فإنــه من الملفت للإنتباه أن الفعل السياسي والميداني لم يحقّق نجاحات تذكر إلا إذا تواجد فيها لحمة أو توافق، معلن أو غير معلن، بين الفاعلين السياسيين.
 إن التحركات والصدامات التي قامت بها أحزاب أو تيارات منفردة كان في الغالب مصيرها الفشل. فالمحاولة الإنقلابية التي قادها الشرايطي ومجموعته في 1962 فشلت، ومحاولات اليسار المتكررة في التغيير بعد ذلك بقيت محدودة ونخبوية ولم تصل إلى العمق التونسي ونجح بورقيبة في ترويضها. كما أن قيادة الإسلاميين لعملية التغيير ضد بورقيبة سنة 1987 ثــمّ ضـــد بن علــي منــذ 1990 أدّت إلى انفراد بن علي بهم وهرسلتهم وتشريدهم ومحاولة القضاء عليهم.
وفي المقابل فإن أغلب التحركات التي قامت على التوافق المجتمعي، كان حليفها النجاح.
ففي سنة 1978 وعندما قاد الإتحاد العام التونسي للشغل هذه الإنتفاضة كان مسنودا من التيارات السياسية والفكرية في البلاد. ورغم العنف الأمني في مواجهة هـــذه الإنتفاضـــة ومحاولـــة إخمــاد صوتهــا إلا أنها أثمرت نوعـــا من المرونــة فــي تعاطــي بورقيبــة مع العمل السياسي فاضطــر إلى أن يقـرّ، ولـــو بشكـــل كاريكاتـوري وغير جاد، بمبدأ التعدد الحزبي في بداية ثمانينات القرن الماضي.
  وأما انتفاضة 1984 فإنه أعقبها حوار مجتمعي ومدني هام جاء انقلاب بن علي سنة 1987 ليعيده إلى الصفر بعد أن وأد هذه التجربة في مهدها. ولم يختلف الأمر في عهد المخلوع فالتحركات «ذات البعد الواحد» وئدت في بداياتها وهو ما جعل الفرقاء السياسيين يتنادون إلى صيغة مشتركة للعمل السياسي بدأت منذ أواخر التسعينيات لتتوج بتشكيل مجموعة 18 أكتوبر ولتأسس بذلك لفعل سياسي ومجتمعي قوي نجح في أن يعزل المخلوع ويقلص من نشاطه رغم السند الغربي والدعاية الضخمة التي كان يروجها جهازه الإعلامي داخليا وخارجيا، معتمدا في ذلك على صحفيين وكتاب من تونس ومن خارجها كما كشف لنا «الكتاب الأســـود». ويمكن اعتبــار انتفاضة الرديف إحدى آخر التحركات القوية التي دكت مسمار غائرا في نعش السلطة الإستبدادية ولتتوج هـــذه التحركـــات بثـــورة الحريـــة والكرامــة وفرار المخلوع في 14 جانفي 2011.
وقد تداولت وكالات الأنباء صورا ومشاهد كانت فخرا للثورة التونسية تثبت مبدأ التعايش الديني والثقافي بين فصائل المجتمع السياسي والفكري التونسي.  بحيث أننا كنا نرى أثناء الثورة الفتاة المحجبة وغير المحجبة، الملتحي وغير الملتحي، اليساري والإسلامي، المحافظ واللبرالي، الطالب والأستاذ، العامل والفلاح، المحامي والقاضي وغيرهم كثير يسيرون جنبا إلى جنب ويرددون نفس الشعار «تونسنا حرة... حرة … وبن علي على برة» ولتبدع بعد ذلك شعارا يعلن لأول مرة، بهذه الصياغة والوضوح، في التاريخ العربي والإسلامي وهو «الشعب يريد إسقاط النظام» لتكون فعلا إرادة الشعب هي المقياس الأساسي والحاسم في عملية التغيير .
إعادة صياغة مفهوم الشعب
كان لشعار « الشعب يريد إسقاط النظام» قوة هائلة ودوي كبير استطاع به التونسيين أن يزلزلوا عرش بن علي الأمني ويسقطوه وكان للنصف الأول من الشعار خاصة «الشعب يريد...» مفعوله «السحري» على مسار الثورة التونسية بل على مسار الربيع العربي ككل إذ سرعان ما تلقفه أخواننا المصرييون واليمنيون والسوريون والليبيون وأضافوا إليه إبداعات أخرى ساهمت في نجاح الثورات العربية سنة 2011، بل وتعدى هذا الشعار مستواه العربي ليصل إلى كل الشعوب الطامحة إلى التغيير. فردده اليونانيون والإسبان والمعارضون لهيمنة البورصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
والنقطة المحورية في هذا الشعار هي التأكيد على إرادة الشعب وهو ما يثبت أهمية الشعب في العملية التغييرية. وهذا كان له دور في إضافة أبعاد جديدة لمفهوم الشعب. فلقد قام التعريف الكلاسيكي على اعتبار أن مفردة الشعب تعني «الجمع والتفريق والإصلاح والإفساد» كما يجمل ذلك القاموس المحيط ولسان العرب. ومعنى التفريق يشرحه الأصمعي بقوله: شعب الرجل أمره، إذا شتته وفرقه (لسان العرب، المجلد السابع، مادة شعب)
وأما في معنى الإصطلاح فإن العرب تقول «شعب الصدع في الإناء فهذا يعني إصلاحه وملاءمته» كما يقول ابن منظور ويضيف بأن «الشعب أكبر من القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة» وحتى لا نقع في خطإ منهجي فإن الموسوعة السياسية العربية تنبهنا إلى أنه لا يصح الخلط بين الأمة والشعب لأن الأمة «حقيقة اجتماعية مفادها أن مجموعة من الأفراد تم انصهارهم واتحادهم» وأما «الشعب فلا يعدوا أن يكون عنصر السكان في الدولة» ولكن الشعب «قد يكون أمة واحدة ، حين تكون الأمة قد حققت استقرارها وكونت دولة قومية كما هو الحال في بعض الدول الغربية» وقد يكون «جزءا من أمة موزعة بين أكثر من دولة، وصورتها الأمة العربية» (موسوعة السياسة، الجزء الثالث، 1983)
إن التعريف الكلاسيكي الذي نجده عند ابن منظور والفيروز آبادي، يحدّد مفهوم الشعب في إطار ضيق، وأما الربيع العربي فإنه قام بتوسعة هذا المفهوم ليشمل معان جديدة. فشعار «الشعب يريد...» الذي رفع في تونس ثم انتشر في العالم العربي والإسلامي انتشار النار في الهشيم وأصبح أيقونة الثورات العربية جعلنا ننفتح على أبعاد جديدة تتجاوز مفهوم الشعب في بعده الكلاسيكي ليعبر بوضح وجلاء عن إرادة الأمة. وبالتالي اقترب هذا المفهوم كثيرا من مفهوم الأمة، التي هي مصدر الإجماع لتصبح بالتالي العملية التي يقرها الشعب هي نتاج لإجماع الأمة، أو على الأقل، الجزء الأكبر منها. وثبّت بذلك بعد أصولي مهم وهو الإجماع. وآلية تحقيق هذا الإجماع في مجتمعنا المعاصر تتمثل في الإنتخاب،  ومن ثمة فإن العملية الإنتخابية ليست عملية براغماتية وقتية وإنما هي استفتاء لرأي الآمة ولتوجها العام يعقبه التزام وخضوع لهذا التوجه. ومع الأسف، فإني أعتقد أن أنقلابيي مصر قد تفطنوا لأهمية دور الشعب فوظفوه لتبرير فعلهم الشنيع
العلمانية / اليسار / السلفية
قد ينزعج القارئ العزيز من هذا العنوان لجمعه لمصطلحات متناقضة ظاهريا، ولكني أطمئنه وأهدئ من روعه وأعلمه أني كنت على اقتناع تام بوجود هوّة كبيرة بين هذه التيارات الثلاث إلى أن اندلع الربيع العربي، وخاصة ما حدث في السنتيين الأخيرتين في كلّ من مصر وتونس، فزلزل هذه القناعة وجعلني أجد خيطا يجمع بين هذه التيارات الثلاث المتنافرة أيديولوجيا. وعُقَدُ هذا الخيط ثلاث مبادئ هي: الدغمائية والتطرف والغلوّ.
فالعلمانيون المتطرفون رأووا في التحرر والحداثة المنشودة أن تنزع فتاة ملابسها وتعرض جسدها على الفايسبوك أو في إنتاج فلم لا يعترف بأي مقدس ديني أو دنيوي فرفع شعار «لا ربي ولا سيدي».
وأما اليسار المتطرف فإنه بدعوى أن تقود البروليتاريا وتسود فإنه حرّض العمال ووظّف النقابات للإضرابات العشوائية والعنيفة فكان أول المتضررين من تطرفه البروليتاريا نفسها.
وأما السلفيون المتطرفون، وهم «تيار وافد» كما يقول الباحث التونسي سامي براهم، فإنهم اعتقدوا أن عملية التغيير تكون بالإنعزال عن المجتمع وتكفيره والدعوة إلى تأسيس إمارة إسلامية وإعلان «الجهاد» ضد الحكومة، التي كفروها، رغم أنها شرعية.
ومن هنا فإنني لا أعجب عندما أجد أن بعض  المثقفين والاحزاب الليبرالية المغتربة واليسارية المستلبة والسلفية التكفيرية تحاول من ناحية تعطيل عمل المجلس التأسيسي لكي لا يتوصل الى إنهاء الدستور وتشكيل الهيئة المستقلة للإنتخابات ومن ناحية أخرى تضع يدها في يد الإنقلابيين لأنها رأت أن استفتاء الأمة لن يكون في صالحها ومن هنا خرقت الإجماع بل إنقلبت عليه. وقد تجلى التحالف بين التيارات الثلاث بشكل سافر في مصر أكثر منه في تونس.
وقد رأينا في تونس أن محاولة صناعة دور للشعب لم تنجح لأن شعار «الشعب يريد...» تحوّل مع اليسار المستلب والليبرايين المغتربين والسلفيين التكفيريين إلى عملية توظيف ركيكة لم تنطل على التونسيين والمصريين، فتدخل العسكر في مصر وحاولت النخب المستلبة في تونس أن تسير على نفس الخط الإنقلابي المصري فأسست مجموعة سمّت نفسها «تمرّد» وتشكّلت جبهة أطلقت على نفسها «جبهة الإنقاذ» ولكنهما فشلتا في توافق داخلي يوحدهما. فكيف لها أن تتوافق مع الشعب الذي يريد بناء وتنمية وتعميرا.
إنه من الصعب صناعة الثورات في المختبرات لأن العملية الثورية فعل مبدع وخلاق إضافة إلى أنها عملية تراكم  للتجربة والوعي بها. ثم إن العامل الأساسي للنجاح هو التوافق المجتمعي أو ما أسماه  الفيلسوف التونسي فتحي التريكي «التآنس» والذي يعني عنده «العيش معا» (الصدى، الإربعاء 7 سبتمبر 2011). فالثورة صنعها الشعب ولم يقدها تيار أو حزب معين وبذلك أعادت الإعتبار للشعب باعتباره مصدر السلطات والحارس للديمقراطية والضامن لها.
وقد تجلّى ذلك خاصّة بعد هروب الدكتاتور المخلوع وسعي أجهزته الأمنيّة إلى إدخال البلاد في حالة من «الفوضى العارمة» Status Chaos لإرهاب المواطنين المسالمين ودفعهم إلى الإنقلاب على الثورة .
 ومن المدهش حقا سرعة رد الجماهير الثائرة وقدرتها على التنظم، إذ بادر الثوار مباشرة إلى تأسيس لجان الأحياء لحماية الأملاك والمؤسسات العامة والخاصة وغيرها وتعاونت في ذلك مع الجيش الوطني. وقد بهرت هذه اللجان العالم في قدرتها على سرعة التحرك وردّ الفعل مع إلتزام السلميّة والإنضباط والتنظيم. واستطاعت أن تمتلك شرعية Legitimation أمام المواطن التونسي. وأدّى نجاحها في مهماتها إلى جعل الثورة المصرية تستفيد منها كثيرا وتطورها وتمنحها أبعادا ثقافية وحضارية.
 وهكذا فإن محاولات الدغمائيون من الشيوعيين والعلمانيين والسلفيين وبعض من ساندهم صناعة ثورة في بعض الجهات المحرومة لا يمكن وصفها إلا بالفوضى والعنف.
الجيش حام للثورة وليس مختطف لها
في هذا المستوى يطرح سؤال مهم: أي دور للجيش في العملية الثورية؟
 لئن سعى بن علي إلى تهميش دور الجيش وتفعيل دور المؤسسة الأمنية فإن تبني الجيش الوطني التونسي في اللحظة المناسبة لحماية الثورة ساهم في نجاحها ورفع قيمة الجيش الواقعية والرمزية ليس فقط في تونس وإنما في العالم العربي والإسلامي وأصبح مثالا يقتدى به في وطنيته.
فالجيش التونسي لم يسع إلى اختطاف الثورة كما حصل في مصر. ولم يكن للتصريحات السياسوية التي أطلقها الجنرال عمار بعد تقاعده أي تأثير سياسي أو مجتمعي يذكر.
وهكذا يمكن وصف الثورة التونسية بأنها بمثابة القلب الذي ضخ الحياة والشعور بالأمل ليس لدى التونسيين فحسب وإنما لدى الأمة العربية والإسلامية ووضعت بذلك حجر الأساس للثورة العارمة في الأمة فلحقت بها الثورة المصرية وعمقت هذا الأمل فاندلعت ثورات أخرى في ليببيا واليمن وسوريا. وبالتالي فإن ميزة الثورة التونسية، والثورات العربية، أنها أسست لمفوم الشعب صاحب الإجماع وبالتالي فإنها بشرت بفلسفة للحياة ونفت الموت والعبث وصنعت الأمل وهي ستقود ـ بإذن الله ـ في بعدها الإستراتيجي إلى إعادة شباب الأمة وبالتالي المطالبة بأن يكون للعرب والمسلمين دور في إدارة أمورهم بحرية والخروج من حالة المفعول به والمساهمة بدور فاعل في تشكيل المستقبل.