همسات

بقلم
اسماعيل بوسروال
هل هي ثورة فعلا ؟ هل هي انتفاضة ؟ هل هي مسار ثوري ؟ أم ماذا ؟
 مقدمة 
تحيي البلاد التونسية هذه الأيام الذكرى الثالثة لثورة الحرية والكرامة التي دارت أحداثها بين 17 ديسمبر2010 و14 جانفي2011  وفق التحديد الرّسمي الوارد في توطئة الدستور الجديد الذي تناقش فصوله هذه الأيام ...ولكن من باب التساؤل المنطقي عن التحولات الطارئة في البـلاد أردت أن أطــرح أسئلـــة فرضت نفسهـــا علـيّ: هل هي ثورة اكتملت فعلا صورتها وتوضّحت أهدافها وانخرط «الثوار الجدد» في مشروع جديد مختلف عن النظام السابق؟ أم هي انتفاضة شعبية واحتجاجات في شكل «غضبــة» تجسّدت أهدافهــا في فرار رأس النظام وحلّ حزب التّجمع الحاكم وبذلك فرح النّاس وسعدوا بذلك ورجعوا إلى ديارهم مسرورين ؟ أم هي مسار ثوريّ بدأ بإسقاط رأس النّظام وجهازه الحزبي؟ أم هي شيء آخر مختلف عمّا ذكرت وأخذت من كل شيء بطرف ؟
17 ديسمبر و14 جانفي تاريخان مهمان في الثورة التونسية 
مثّل 14 جانفي 2011 علامة فارقة في تاريخ تونس القريب لأنه وضع نهاية لحكم الفرد ذي السلطات المطلقة. صحيح أن الاحتجاجات اندلعت في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر إثر إحراق محمد البوعزيزي نفسه أمام مقر الولاية، وصحيح أن الأحداث اتسعت وشملت مختلف جهات الجمهورية دون استثناء، وصحيح أن دور الطبقات المهمشة والأحياء الفقيرة والجهات الدّاخلية كان حيويّا، ولكن ثمة «قوة» قاهرة بقيت خفيّة إلى اليوم ساهمت في تتويج ذلك الحراك الشعبي العفوي والسلمي –غالبا - والرائع بضربة «معلم» جعلت من الأحداث تنتهي نهاية «سعيدة جدا» بأخف الأضرار وبأقلّ التكاليف قياسا بتضحيات شعوب أخرى مازالت تدفع معاناة مأسويّة كالشّعب السّوري حاليّا .
يتّسم المشهد الحالي في تونس بوضع متحرك غير نسقي فهو يتّجه أحيانا نحو مســار إيجابــي ويتّجــه أحيانــا أخرى اتجاها سلبيّا ممّا يحدّ من التفاؤل الذي يظهر بين الحين والآخر. فأثناء مناقشة الدستور خلال الشهر الحالي، وفي حين يواصل رؤساء الأحزاب « حوارهم الوطني» و حزمت «لجنة التوافقات» التابعة للمجلس التّأسيسي أمرها وقرّبت وجهات النظر وتمّ ادراج «تحجير التكفير» ضمن نص الدستور، نجد عددا لابأس به من الصّحف اليوميّة والأسبوعيّة  تحمل عناوين مشحونة بالحقد والكراهيّة ضدّ الترويكا والنّهضة خصوصا وضدّ المجلس التأسيسي والحكومة والرئاسة،وتحتفي بالاضرابات والاعتصامات. هذا الأسلوب العدائي في صحف معسكر « نداء تونس والجبهة الشعبية» تعاضده قنوات عمومية وخاصة تدقّ نواقيس الحرب وتشحن وتجيّش ضدّ أي قرار حكومي أو رئاسي وتترصّد أيّة كلمة صادرة عن الترويكا لتشهّر بها ولو كانت «البسملة». وتصفّق لأي قرار داع لإضراب أو اعتصام أو تعطيل مرفق ...لأن الهدف هو عدم الوصول بالبلاد إلى انتخابات حرّة ونزيهة وشفّافة مّرة ثانية خشية أن تفوز فيها حركة النّهضة عدوهم الأول الرئيسي وليست خصمهم ومنافسهم السياسي . 
الثورة التونسية وأحلام الفتى التائه 
عندما أُعلنَ عن شغور منصب رئيس الجمهورية التونسية وإعلان حالة الطوارئ مساء 14 من جانفي، انتابني شعور مزدوج من التوجّس والانشراح ... لقد تابعت منذ الصباح- وعلى الساعة الحادية عشر صباحا - عن طريق بعض شهود العيان وأشارت إلى ذلك محطة قناة الجزيرة عملية زحف بعض الآليات العسكرية صوب القصر الجمهوري في قرطاج ... ووصفوا لنا من شرفات المنازل المشهد بأنهم يرون الحرس الرّئاسي يسلّم أسلحته لقوات الجيش ... لذلك ترسّخ في ذهني الدور العسكري المهم في 14 جانفي ... وتعزّز اعتقادي في أهمية ما يحدث من خلال المظاهرة الشعبية التي انطلقت من ساحة محمد علي ( الاتحاد العام التونسي للشغل ) وتأكّد اتجاه الأحداث عندما أشارت وكالات الأنباء والمحطات التلفزية الى احتجاز عائلات الطرابلسية أصهار الرئيس آنذاك في مطار قرطاج الدولي في حدود الساعة الثالثة بعد الزوال بتدخّل فرقة أمنيّة منعت إقلاع طائرتهم. وبذلك اكتملت الصورة في وضع حدّ لنظام 7 نوفمبر حيث ساهمت فيه احتجاجات شعبية ومظاهرات جماهيرية... وشهداء وجرحى ... ودورعسكري هادف ومحدّد وتدخّل أمنيّ نوعيّ  دقيق...ولا استبعد متابعة قواعد الحلف الأطلسي في جنوب ايطاليا لمسار الاحداث كما فعلت في ليلة الاطاحة بالزعيم بورقيبة حيث كانت تراقب تطوّرات الوضع عن كثب لا سيما وأن صقلية لا تبعد كثيرا عن العاصمة التونسية  ...
بعد آذان المغرب بقليل و بهبوط الليل، وبعد حرق المقر الأمني في الحي، بدأ إطلاق النّار من عناصر الجيش تطبيقا لقانون منع الجولان . وفي الأيام الموالية خرج شباب الأحياء لينسق مع قوات الجيش تنظيم نقاط حراسة. واستمرت الحياة شبه طبيعية. كان الشّعب التّونسي رائعا في تلك اللحظات، وأُعجب العالم بتحضّر التونسيين ورفعة أخلاقهم وسلوكهم المدني ... .
كنت أمنّي النّفس بأن يستمر ذلك التضامن الأخوي الودّي بين التونسيين ... وكنت أحلم بأن يتمّ الاتجاه نحو بناء المستقبل وكانت أحلامي بلا سقف ...الآن تمرّ ثلاث سنوات على «الثورة التونسية» فكيف هي الصورة ؟ 
أرى الآن نخبة تونسيّة نكصت على أعقابها وتنكّرت لمبادئ كثيرا ما تغنّت بها، فالدولة التونسية في حالة ضعف واضح حيث لا قيمة للعمل ولا احترام للوقت ولا تقدير للآخر ولا احترام للحريات من قبل الجماعات والنقابات والأحزاب ...
أقصد إدارة ما، فلا أرى الموظفين يؤدون أعمالهم. وأتّجه صوب مستشفى عمومي فلا أجد الطبيب  بل ولا أجد الدواء. ويحدّثني الأستاذ عن معاناته في المعهد حيث لا قانون ولا تربية. ويصارحني مواطن عن الظّلم المستمرّ في المجال القضائي وعن الرشوة والمحسوبية في كل ميدان. وأتصفّح الصحف التونسية، فلا تقع عيناي إلاّ على الحقد والكراهية تنضح من بين السطور. وأتابع الصفحات الالكترونية فاكتشف هول العداء المستشري بين أبناء الشعب التونسي. وأتابع نشرة أخبار الوطنية الأولى فأرى مشاهد وأسمع كلاما قام بتأليفه وإخراجه حزبان فقط وهما الجبهة الشعبية ونداء تونس وأثر باهت للآخرين في الحكم أوخارجه.
كنت أحلم بأن نبني بلدا يقوم أبناؤه بوضع أسس نهضته العلمية والاقتصادية والاجتماعية لا سيما وأن العقود السابقة خلّفت شعبا متعلّما ومتسامحا. 
كنت أحلم بأن نبني مجتمعا متضامنا، فإذا الجماهير الرياضية تحيي النّعرات الجهوية. وإذا بنقابات الأطباء ترفض العمل في الجهات الداخليّة وتعارض قانونا سبقتنا إليه الجزائر وفرنسا. وكان أحرى بهم وضع مصلحة الوطن والمواطن قبل « المصحات الخاصة». وإذا بنقابات التعليم تندّد بتسوية وضعية الأساتذة والمعلّمين المسجونين سابقا لآرائهم السياسية  وتعتبر تسوية المسار المهني ظلما مسلّطا على القطاع.
كنت أحلم بحكومة «حازمة» و «جادة» تتّخذ اجراءاتها بعد التشاور مع من يهمّهم الأمر وتصارح الشعب في الحين بما تواجه من صعوبات حتى تقف معها الجماهير صاحبة المصلحة. غير أن صوت «الحكومة» كان ضعيفا باهتا كأنه قادم من أقاصي الدّنيا، وكان «تواصلها» مع النّاس ضعيفا.
كنت أحلم بقضاء عادل تتمّ فيه الإجراءات بشفافيّة وتصدر الأحكام بنزاهــة فإذا برئيسة جمعية القضاة (سابقا ) تحضر اعتصاما حزبيا، ثم ترافــق متّهمـــا بالتآمـــر على أمن الدولة إلى التحقيق. وإذا بأحد قضـــاة المحكمــة الإداريــة يصـرّح باعتزازه بالانتمـــاء إلى الجبهة الشعبية. 
كنت أحلــم بصحافــة رصينــة متّزنــة متوازنـــة، فإذا بي أمام كمّ هائـل من إعلام موجّه بالمال لتشويه كل شيء من أجل تبرير الماضي بكل تضاريسه وتجميل عمليات سابقة اتسمت بالفساد المالي والإداري.
كنت أمني النّفس بعودة الوعي إلى ضمير المربّين فيقترحون حلولا معقولة تضع حدّا نهائيّا للدّروس الخصوصية وتضمن لهم وضعا مادّيا مريحا في ذات الحين ...ولكن ...
كنت أحلم بإدارة تونسيّـة تحتـــرم المواطــن وتكـــون في خدمته لا أن تقول له «ارجع غدوة»  أو «ضاع الملف». 
كنت أحلم ببيئة نظيفة فإذا بعمال البلديات يعمدون إلى الاختفـاء عن الأنظار بعد  أن تمّ ترسيمهم وتحسين أجورهم. 
كنت أحلم أن يتمّ تفكيك عصابات اللّصوص التي روّعت الفلاحين في ولايـــات القيـــروان وسيــدي بوزيــد والقصريــن وسلبتهــم عرقهم وتسلّلت إلى أغنامهم وخرفانهم وأبقارهم طيلة عقد مـن الزمن وسرقت جهودهم ومنعت الاستثمار في هذه الجهـــات. ولكن عادت عصابات اللصوص أكثر قوة ومسلحة أحيانا لتواجه المواطنين ورجال الأمن ...
خاتمة 
إن ما حدث في تونس (17 ديسمبر 2010ـــ 14جانفـي 2011) هو «حراك ثوري حقيقي» شاركت فيه عدّة قطاعات وعدّة أطراف أدّى إلى سقوط رأس النظام ولكنه لم يؤدّ الى مسار ثوري «عقلاني» وغير غوغائي يحقّق الأهداف السياسيّــة والاجتماعيّـــة والقيميّـــة التي من أجلها ضجر النّاس ونفضوا أيديهــم من نظام لم يحقق لهم الحريـــة والكرامـــــة ولم يتصــف بالصّــدق والنّزاهـــة والعـــدل. وإنّ أي إجراءات على الأرض لا تؤدي الى «إنهاء الظلم» و «إحقاق الحق» و «نشر الفضيلة» و«سيادة القانون» هي مجرد مسار على هامش الأهداف النبيلة وتجعل من الثورة التونسية « بناء مع تأجيل التّفيذ».