الكلمة الحرّة

بقلم
عبداللطيف العلوي
الإسلاميّون والثّورات العربيّة ... على سرير بروكوسْتْ
 تحكي الأسطورة الإغريقية عن شخصية قاطع طريق يدعى بروكست. كان يسكن في مدينة كوريدال. وكان يخرج إلى الطريق الرابطة بين أثينا وإيلوسيس، فيقبض على المسافرين، ليمارس عليهم تعذيبا بالغ الغرابة. وقد كانت أداته في التعذيب هي مقاس السرير. حيث كان يخدع المسافر بدعوى ضيافته، لكن بمجرد ما يدخله إلى بيته يبدأ في ممارسة عنفه السّادي عليه. حيث كان لديه سريران واحد صغير الحجم جدّا والثاني كبير جدّا. فإذا كان المسافر من طوال القامة يمدّده على السرير الصغير، ثم يقطع رجليه حتى لا يبقى من الجسد إلا ما يماثل حجم السّرير. أما إذا كان من قصار القامة فيمدده على السرير الكبير، ثم يمطّط جسده حتى يطول ويستوي على مقاسه. وكلتا العمليتين مؤلمتان جدّا.
تكاثرت جرائم بروكست، لكن حظّه العاثر أوقعه يوما في مسافر من نوع خاص، إنه البطل الأثيني تيسي. فقام هذا الأخير بقتله بنفس طريقة التعذيب التي كان يمارسها على ضحاياه، أي التمديد على السّرير والبدء في بتر ما لا يتناسب مع مقاسه، أو تمطيط الجسد حتى يتماشى مع مساحة السّرير...
تلك هي حكاية هذه الأسطورة الشهيرة.. وإني إذ أستحضرها هنا فذلك للتمهيد لتصوير علاقة القوى العربيّة والدّوليّة بالإسلاميّين على سرير الثّورة . إذ أجد بين حالة بروكست وواقع الثورات العربيّة تشابها كبيرا. وبين ساطوره وسريره، وبين طرائق المعارضة ومناهجها في التّعامل مع مسألة الشّرعيّة قرابة ونسبا. وبين الجسد المسكين الذي يوضع للقطع أو التمطيط على السرير، والسّيرة والمسيرة  الّتي توضع على طاولة النّخب العربيّة مقاربة إن لم نقل مماثلة !!
بعد ثلاث سنوات عن انقداح شرارة الثّورات العربيّة، بدأ غبار المرحلة يتلاشى تدريجيّا ومجال الرّؤية يتّسع أكثر، وبدأت عناصر المشهد تتجمّع وتتكامل شيئا فشيئا والمسارات تسفرعن ملامح نهاياتها المرجّحة، وجدير هنا أن نلفت الانتباه بوضوح إلى فعل الشّروع «بدأت»، لأنّ عمليّة التّفاعل الكيميا- تاريخيّ ما تزال أبعد ما تكون عن إفراز مُخرجات محدّدة يمكن الجزم بها في هذا الاتّجاه أو في ذاك.
من المفيد أن نسجّل بداية، أنّ حدث الثّورات العربيّة، وإن بدا مفاجئا- وأحيانا لا تاريخيّا في منظور البعض - لا يمكن عزله عن سياق كامل بدأ مع نهاية الألفيّة المنقضية واقترن ببداية الألفيّة الثّالثة، هذا السّياق الكونيّ بدأ بانفجار معلوماتيّ تلاشت معه الحدود وتعرّت مختلف الأوضاع الّتي تعيشها البلدان ومعوقات الحركة لديها، فشهدنا تحرّك  كنتونات المعسكر الشّرقيّ نحو الفضاء اللّيبراليّ الدّيموقراطيّ، وليس بعيدا عنها – في المسار الخطّي التّاريخيّ – شعوب أمريكا الجنوبيّة وشعوب إفريقيّة كثيرة. ضمن هذا السّياق المترابط، كانت حركة التّاريخ الخفيّة تحضّر ركحا آخر وإن اختلفت مقتضيات الإخراج بحسب الزّمان والمكان ... الرّكح العربيّ .
بعض المتحذلقين يجدون رواجا لمقولة إنّ الرّبيع الثّوريّ العربيّ، حدث لا تاريخيّ ومفتعل، ويؤسّس أصحاب هذا القول رأيهم على مجرّد معطيات وصفيّة لا ترقى إلى مستوى التّحليل المركّب لما حدث، فينطلقون من كون هذا الحراك كان تلقائيّا غير مؤطّر، ولم تكن له قيادات معيّنة، ولم يرفع شعارات ايديولوجيّة محدّدة، بل إنّ هناك من اعتبرها مجرّد انتفاضة جياع لا تحمل في طيّاتها أيّ أفق سياسيّ أو ايديولوجيّ، وغيرهم من ربط الأمر كلّه بمؤامرة كونيّة كبرى عنوانها مشروع الشّرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاّقة بالمفهوم الجيوسياسي الأمريكي ...
غير أنّ تسطيح الأمر عند مجرّد ملاحظة الأحداث القادحة المباشرة ، أو التّوقّف عند مجرّد ربطه بمخطّطات دوليّة معلومة منذ «سايكس بيكو» وما قبله، كلّ ذلك لا قيمة له إذا لم يضع في الاعتبار المعطى الرّئيسيّ لكلّ حركة ديناميّة تاريخيّة بهذا الحجم، وهو تقاطع كلّ ما سبق ذكره مع النّضج الموضوعيّ لتفاعلات اجتماعيّة وسياسيّة وبنيويّة في المجتمع العربيّ منذ عقود، وتحديدا منذ انتقال ناصية الشّعوب العربيّة – على الأقلّ في شكلها الظّاهر والمعلن – من القبضة الاستعماريّة ، إلى قبضة ما سمّي بالدّولة الوطنيّة أو دولة الاستقلال .. 
من هنا يصحّ القول، إنّ الفرن الحقيقيّ الّذي أنضج الظّروف الممكنة للثّورة العربيّة الكبرى – إن جاز أن نستعمل هذا المصطلح – هو ما عاشته شعوبها طيلة العقود السّابقة من تغوّل السّلط الوريثة للاستعمار وتحوّل بلداننا إلى سجون ومعتقلات كبرى على امتداد حدودها، وبروز أقلّيّات ساديّة مستغلّة لكلّ مقدّرات الحياة في هذه البلدان بشكل حصريّ، ودون أيّ اعتبار لأبسط قواعد العيش المشترك، فكان لا بدّ من حركة مقاومة داخل هذه المجتمعات، ودون أن نغمط ما كان للقوى الليبراليّة واليساريّة والنّقابيّة من دور في مسيرة المقاومة الطّويلة، فإنّه لا يمكن لأيّ منصف أن ينكر أنّ الحضور الأقوى والأوسع جماهيريّا والأكثر فاعليّة والأقسى  تكلفة كان للحركات الإسلاميّة في مختلف البلدان العربيّة، على اختلاف تجاربها حدّة أو دمويّة. والحقيقة أنّ مجال القول في تفسير ذلك طويل ومتشعّب ، ولسنا هنا بصدد تفصيله، لكنّنا نستطيع أن نكتفي ببعض العناوين الكبرى ، أهمّها : 
* الامتداد التّاريخي للحركة الإسلاميّة باعتبارها وريثة للحركات الإصلاحيّة في العالم العربيّ، منذ بداية عصر النّهضة العربيّة، مرورا بحضورها القويّ في مواجهة المستعمر، والأمثلة هنا أوسع من أن تحصر : الثعالبي، ابن باديس، الشيخ بوعمامة، عبد الكريم الخطّابي، عمر المختار، عز الدين القسام ... وكثيرون غيرهم
* انطلاق المشروع من المخزون الحضاريّ العميق للإنسان العربيّ .
* ردّة الفعل الطّبيعيّة والمفهومة تاريخيّا بعد كلّ فترة استعماريّة، وهي تتمثّل غالبا في نزوع الشّعوب التي كانت مستعمرة إلى التّحصّن بالهويّة كنوع من الضّمانة والحماية.
* العنجهيّة الفكريّة للنّخب العربيّة الليبراليّة واليساريّة، وفشلها في خلق التّوازن الضّروريّ بين القوالب النّظريّة المستوردة وخصوصيّات الواقع العربيّ الموضوعيّ.
كلّ هذه العوامل رشّحت الحركة الإسلاميّة لأن تكون في طليعة القوى المناضلة ضدّ الاستبداد والحيف الاجتماعيّ والمسخ الثّقافيّ، فدُفِعَ بها إلى قلب الرّحى عقودا طويلة مظلمة، لا شكّ أنّها كانت أقسى في التّاريخ العربيّ حتّى من ممارسات استعماريّة سابقة..
بعد 14جانفي 2011، وما تلاها في مصر وليبيا واليمن، أصبحت الثّورة أمرا واقعا وجب على النّخب وعلى كلّ الحساسيّات بمختلف مشاربها أن تتعامل معه، وبدأ التّخلّص من ربكة اللّحظة التّاريخيّة والاستعداد لمرحلة الحصاد، بالتّوازي مع كلّ ذلك، كانت مراكز القرار الدّوليّ هي أيضا في حالة ذهول وانتظار وتربّص بأيّ معطى جديد كي تبني عليه استراتيجيّتها البديلة تجاه بلدان لطالما كانت مخزونا استراتيجيّا غير مكلف ولا مشاغب ...
الجدير بالذّكر هنا – للتّاريخ – أنّ كلّ هذه القوى المختلفة، الدّاخليّة والخارجيّة، لم تطرح على الطّاولة في الفترة الأولى – ما قبل الانتخابات – الورقة الايديولوجيّة ولم تستهدف التّيّار الإسلاميّ بشكل مباشر ووجوديّ (رغم بعض البدايات غير الممنهجة في التناول الإعلاميّ المعادي)، بل إنّه قد بدا على بعضها ما يشبه الرّغبة في التّكفير عن تجاهل المحرقة التي تعرّضت إليها، وربّما عن تواطئها الخفيّ والمعلن ... ولعلّ السّبب في ذلك كان سوء تقدير هذه القوى مجتمعة لمدى الحضور الفعليّ للتّيّار الإسلاميّ في الميزان الانتخابيّ، ومدى قدرته على التّعبئة، والاستفادة من آليّات الحراك الجديد في بلدان الرّبيع العربيّ ..
المنعرج الحادّ الّذي دفع كلّ هذه المتناقضات إلى السّطح السّياسيّ كان نتائج الانتخابات، حيث بدأ مسار السّقوط المدوّي لكلّ المكوّنات الليبرالية واليسارية والقومية التقليدية، في مقابل الصّعود الكاسح للإسلاميّين في مصر (في أكثر من خمس مناسبات انتخابيّة)، وفي المغرب الأقصى، وفي تونس (رغم الضّربة الفنّيّة الاستباقيّة  المتمثّلة في قانون الانتخاب على أساس أكبر البقايا) ومع ذلك فإنّ الفارق في حاصل النّتائج يوم 23 أكتوبر 2013 عكس اختلالا رهيبا في ميزان القوى بين طرف بعينه وهو حركة النّهضة وبقيّة مكوّنات المشهد السياسيّ .
هذا الانقلاب الدّراماتيكيّ في مسار الثّورات العربيّة خلط كلّ الأوراق، وأسقط كلّ الحسابات المراهنة على القنوات الطّبيعيّة الدّيموقراطيّة في الوصول إلى الحكم ، بل كشف عن مشهد استشرافيّ يؤكّد أنّ هذه الحركات الإسلاميّة – إذا سمح لها بالنّجاح – فإنّها ستدشّن مرحلة طويلة من الاستئثار بالحكم وعصرا غير محسوب العواقب بالنّسبة لكثير من القوى الدّوليّة ذات المصلحة .
من هنا بدأت فصول المعركة، معركة الإفشال في البداية، لكنّها سرعان ما تحوّلت إلى معركة وجود وكسر عظم، تستعمل فيها كلّ الأسلحة، بدءا بالإشاعة والتّشويه والتّضليل، مرورا بالإضرابات والاعتصامات والتّجييش الاجتماعي، وصولا إلى الانقلاب العسكريّ والقتل والحرق والإبادة كما حدث في رابعة العدويّة، وفي كلّ محطّات القمع الّتي تلت انقلاب العسكر في مصر .
كلّ ذلك حدث، ويحدث، في كلّ بلدان الرّبيع العربيّ وفق تمشٍّ ممنهج وموقّع، يبدأ من محطّات محدّدة ويصل إلى نتائج مدروسة تماما ...
* بدأ الأمر بالتّشكيك في مشاركة الإسلاميّين في الثّورة، وكانت الحجّة في ذلك أنّه لم تُرْفَعْ في تلك التّحرّكات الشّعبيّة شعارات إخوانيّة، لكنّ هذه الحجّة يدحضها المنطق والواقع معا، حيث أنّه لو كان غياب الشّعارات الحزبيّة أو الايديولوجيّة دليلا على غياب هذا الطّرف أو ذاك، لاستنتجنا ببساطة أنّه لا أحد من هذه الأطراف السياسية مجتمعة قد شارك في الحراك الثّوريّ، لأنّنا لم نر في كلّ فعاليّات الثورة التونسية قبل سقوط بن علي شعارات مرجعيّة لليمين ولا لليسار.
الأمر الثّاني، أنّه من الذّكاء الفطريّ الغريزيّ لهذه الثّورات أنّها لم ترفع شعارات مخصّصة لأطراف معيّنة، وإلاّ لكان بإمكان تلك الأنظمة أن تجهز عليها بحجّة العمالة لهذا الطّرف أو الإرهاب الدينيّ أو غير ذلك ..
لقد تنبّه الخصوم – الّذين صاروا موضوعيّا أعداء بما أنّهم أسقطوا الالتزام  بشرف الخصومة – إلى أنّ أهمّ عامل في نجاح الحركة الاسلاميّة الانتخابيّ، هو الرّأسمال الرّمزيّ المتمثّل في تاريخها النّضاليّ، و في الاعتبار الأخلاقيّ السّلوكيّ الّذي لا يزال محدّدا في المخيال الشّعبيّ عموما، فأطلقت حرب التّشويه على مدار السّاعة لتسفيه المناضلين وضرب ثقافة النّضال، فافتعلوا كلّ أصناف الفضائح الأخلاقيّة والسّياسيّة، واستدعيت حتّى أساليب النّظام القديم في هتك الأعراض والتّجريح والنّيل من شرف الإنسان 
 يعلم الجميع أنّ الإسلاميّين كانوا في قلب الحراك الثّوريّ، بحكم أنّهم واقعيّا يشكّلون القاعدة المتسيّسة الأعرض في البلاد، وليس بعيدا عن المتاح ما يعرض من مشاهد موثّقة لقياديّين إسلاميّين كثر في مصر كما في تونس، كانوا في الصّفوف الأولى للحراك الثوريّ، لكنّ الأكيد أنّهم اختاروا أن لا يتمايزوا عن اللّوحة الشّعبيّة العامّة بشعارات حزبيّة، وهذا كان سببا هامّا من أسباب نجاح هذه الثّورات .. 
في مصر، كان معلوما منذ البداية أنّ الوضع سيكون أكثر حرجا وتعقيدا، لاعتبارات لا يحيط بها أهل الاختصاص وحدهم، وكان مجرّد التّوهّم بأنّ إسرائيل وعكاكيزها الإقليميّة أو الدّوليّة، ستقبل واقعا مماثلا أو تفكّر مجرّد التّفكير في التّعامل معه كأمر واقع .. القول بذلك أو التّفكير فيه كان أشبه ما يكون بنكتة سمجة لا تضحك أحدا ..
المنظومة الانقلابيّة في مصر ضمّت توليفة شديدة التّركيز من عناصر مختلفة لكنّها تقاطعت كلّها في المصلحة الاستراتيجيّة، وأهمّها : اللاّعب الدّوليّ صاحب المصلحة العليا في المنطقة ممثّلة في الصّهيونيّة، وحليفها الخليجيّ صاحب المصلحة في الإبقاء على النّموذج الرّجعيّ النّفطيّ في المجتمع والحكم، ومربّع الفساد الدّاخليّ المتمثّل خاصّة في رأس المال الوسخ، والأمن الّذي تربّى في ظلّ عقيدة لا وطنيّة ولا ديموقراطيّة، والقضاء الفاسد والإعلام الانتهازيّ، يضاف إلى كلّ ذلك طبقة من النّخبة السّياسيّة والفكريّة المدينة بولاءاتها لمنظومة الفساد والاستبداد .
بعد خمس محطّات انتخابيّة معلومة النّتائج، بدأ الإعداد مباشرة للسيناريو الانقلابي المتكامل، فاشتغلت المنظومة بكلّ أذرعها: الإعلاميّ بمخطّط الدّعاية السّوداء، والقضائيّ بتعطيل عمل المؤسّسات المنتخبة الّتي مازالت تشكو بدورها هشاشة الخطوات الأولى، والأمنيّ بخلق حالة غير مسبوقة من الانفلات بغرض تهرية الدّولة، والسّياسيّ بعزل الإخوان تماما في الحكم وفي السلطة التّشريعيّة لتمرير فزّاعة الأخونة، والدّوليّ بتوفير الغطاء السياسي لكلّ ذلك ...
النّتيجة لا تحتاج إلى تذكير: ذبْحُ الحركةِ الإسلاميّة في مصر، وكلّ أمل في حياة سياسيّة تعدّدية على معابد نفس المقولات التّنويريّة التي ترفع كشعارات للمرحلة ...
السّيناريو التّونسيّ كان لاحقا للسّيناريو المصريّ في محطّات كثيرة ومتأثّرا بنتائجه على كلّ المستويات وفي جميع الاتّجاهات، ولذلك نجد أنّه بقدر ما استفادت قوى الرّدّة أو الإقصاء الايديولوجيّ من نتائج المعركة المصريّة لخلق المناخ الانقلابيّ وتجييش ما أمكن تجييشه، بقدر ما استفادت حركة النّهضة هي أيضا من نفس المعركة لتطوير أساليبها في إدارة المرحلة، وتفادي الخطإ القاتل الّذي وقع فيه إخوان مصر، وهو في تقديري الاطمئنان السّاذج إلى يقين أنّ المعطيات على الأرض قد تغيّرت تماما وأنّه لا مجال أبدا للعودة إلى الوراء. 
المسار الانقلابيّ في تونس مازال متواصلا ولا يمكن الجزم بمآلاته بمجرّد استشراف انطباعيّ يقوم على التّفاؤل أو التّشاؤم، لكنّ الأكيد أنّ تعامل النّهضة غير المتوقّع وغير التّقليديّ  معه قد  قصّر في عمره وكشف الكثير من أوراقه وحشره في الزّاوية أكثر من مرّة. 
سياسة إسقاط الأعذار وإقامة الحجّة على الخصوم، لاشكّ أنّها منهجيّا تتّسم بالحكمة وبالمرونة ، وقد تجنّب الحركة – ربّما إلى حين – الصّدام المباشر والمصيريّ مع حتميّة ما يراد لها، لكنّ ذلك لن يحقّق سوى تأجيل الحسم لا أكثر، لأنّ أيّة قراءة متأنّيّة ستخلص إلى نتيجة لا جدال فيها: وهي أنّ قرار تصفية الثّورات العربيّة قد اتّخذ، وتقرّر أن يكون البديل عنها إمّا عودة الدّيكتاتوريّات التّقليديّة بنفس شروط الحماية، أو إحلال الفوضى ودفع هذه الشّعوب إلى حالة التّدمير الذّاتيّ كما في السّيناريو السّوريّ ..
ملخّص الفكرة أنّ الثّورات العربيّة كشفت أنّ الضّحيّة قد استبطنت ثقافة الجلاّد وتمثّلتها وأنّها لم تعد تستطيع أن تعيش أو تفعل إلاّ في شروطه ... بعض القوى تحجّمها الدّيموقراطيّة وتقزّمها وتجعلها مجرّد لاعب صفريّ لا أمل له في المنافسة الحقيقيّة والتّداول المؤسّسي على السّلطة ... عندما يكون لدينا مثل هذا الاختلال الفادح في موازين القوى الحزبيّة ، ينتج اليأس من العمليّة الدّيموقراطيّة، وتصبح السّاحة السياسية غابة، تستباح فيها كلّ قيم التّعايش المشترك، التّوازن هو شرط أساسيّ لتحقّق الدّيموقراطيّة، وما لم تجد القوى العلمانيّة والليبراليّة صيغة للتّنظّم والتّحالف القائم على أسس وطنيّة واجتماعيّة حقيقيّة ستظلّ التّجربة العربيّة محكومة بسيناريوهات الانقلاب على الإسلاميّين، الّذين، شاء لهم القدر والتّاريخ أن يكونوا قربان الحرّيّة في عصر الاستبداد، وقربان بناء الدّولة الدّيموقراطيّة بعد الثّورة .