حوار في الثورة

بقلم
محمد الحاج سالم
في السؤال القديم المتجدّد: الثورة العربيّة بين الممكن والمستحيل
 خطاب الثورة والعقلانيّة
محمّد الحاج سالم: في ظلّ الالتباسات المهيمنة على الخطاب «الثّوري» العربي المعاصر، هل يبدو لكم ذلك الخطاب عقلانيّاً ؟ وما هي مظاهر العقلانيّة فيه ؟ 
- الأزهر الزّنّاد: للخطاب الثّوريّ ثلاث مراحل - في ما أرى- تناسب درجةُ العقلانيّة فيه ترتيبَ المرحلة: ما قبل الثورة وزمن الثورة وما بعدها. فما قبلها خطاب إعداد للثورة يوصّف الواقع المتردّي وفيه نسبة كبيرة من العقلانيّة، وفي زمنها خطاب استنهاضيّ حماسيّ قد تتقلّص فيه العقلانيّة وأمّا خطاب ما بعد الثّورة فلا مناص من أن يكون عقلانيّاً بما يرسم من برامج مستقبليّة. وهذه المراحل في الثورات العربيّة متداخلة متزامنة بحكم تتابعها فتزامنها فاختلافها في المراحل المذكورة بالاستتباع. فأسبقها الثورة التونسيّة، وفيها يلمس النّاظر زيادة في درجة العقلانيّة في الخطاب بحكم مقتضيات المرحلة: تنظيم الانتخابات، مهامّ المجلس التّأسيسيّ، برامج الأحزاب ومضامينها، التّحاليل الفكريّة السياسيّة بما في الواحد منها من تصوّر(ات) للمستقبل، إلخ. وفي العموم، أرى أنّ في الخطاب العربيّ صوتين على الأقلّ: عقلانيّاً وغير عقلانيّ، وكلاهما يعد بمشروع اجتماعيّ وللواحد منهما أنصار ومعارضون على مستويين وطنيّ وعالميّ، وقد يخفت صوت ويرتفع آخر، وقد تتبلور عقلانيّة توافقيّة في نهاية المطاف.    
- عماد محنان: خلافيّاً يكون جواب مسألة «عقلانيّة الخطاب الثّوري العربي الرّاهن» كخلافيّة مفهوم العقلانيّة وبقدرها. وهذا فضلاً عن سياقيّة مفهوم الخطاب نفسه. ولكون المعاصرة حجابا، فإنّ طرح المسألة راهناً لا يبدو مُراعياً للمسافة الزّمنيّة الضّروريّة للرّؤية. لذا يكون بحث المسألة تقصّداً لثمار غير ناضجة، فيؤول الجني جناية بما هو هتك للبستان وفتك بعافية الإنسان. من جهة الفهم الفلسفي يتسنّى لنا الكلام على عقلانيّة «الخطاب الثّوريّ العربي» باتّخاذ مطيّة التّمييز بين تصوّريْن لمصدر المعرفة : العقل والتّجربة. ولا يبدو في الطّابع المفاجيء لثورة تونس فاتحة ثورات ما يُعرف بالرّبيع العربي أنّه بوسع أيّة تمثّلات عقليّة خالصة أنْ تستبق هذه الثّورة أو أن تستشرف مآلاتها. بل لعلّه كان في قراءة الحراك المجتمعي استثماراً لمحصّلة معرفة تجريبيّة فيزيائيّة تجسّمت في شعارات مستقاة من السّياق المعرفي التّجريبي الفيزيائي شأن مقولة «كلّ فعل يقابله ردّ فعل...» و مقولة «الكبت يولّد الانفجار». ولئن لم يكن ما أسميناه بـ «الخطاب الثّوريّ العربي» لراهنيّته شاهداً بمقوّماته فلعلّه يبدو واعداً بمقدّماته.
***
محمّد الحاج سالم: هل تعني بذلك نفي أيّ دور للنّخب ؟
- عماد محنان: الثّورة بما هي أداة التّغيير التّاريخي كانت أكبر هموم الفلسفة المعاصرة. بل لقد أدّى الشّاغل التّغييري إلى قطيعة بين الفلسفة ومطلبها التّأمّلي العالق بها بما هي «نظر في الوجود». وتُعبّر عن هذه القطيعة نشأة ما يصطلح عليه بفلسفة الممارسة أو «البراكسيس». ولمّا كانت النّخب العربيّة التي وجّهت الثّورة وأطّرتها حاملة لرؤية هذه الفلسفة للإنسان والتّاريخ سواء بالمعرفة أو بالتّبنّي فإنّ الجماهير نفسها انخرطت في هذه الرّؤية أملاً في خلاص ممكن ممّا عكس تسليماً للمثقّف والعالم بزمام التّأسيس المجتمعي.  
غير أنّ جدل العلاقة بين المثقّف/السّياسي والجماهير لا يسمح بولادة خطاب ثوريّ عقلانيّ أو غير عقلانيّ إلاّ في الاعتباريْن الإيديولوجي والقطاعي. فمن جهة الإيديولوجيا تلوح في الأفق السّياسيّ العربي هيمنة النّزوع الإحيائي الذي يصبو إلى استرجاع الماضي. وهو ما فعّل سؤال الهويّة والجذور وغلّب حضور المكوّن العقدي الوثوقي. وأمّا من جهة القطاعيّة فإنّ الخطاب الثّوري مأخوذ بضرورة التّبسيط إلى حدّ التّسطيح مراعاة لتردّي مراتب قطاعات واسعة من جماهير الشّعب العربي في سلّم التّعليم والثّقافة.
الثورة والتكنولوجيا الرقميّة
محمّد الحاج سالم: نعم، لكن بقطع النظر عن المسارات الممكنة للثورة، فإنّ الثابت أنّ التّكنولوجيا الرّقميّة لعبت دوراً أساسيّاً في تحديد المسار الثّوري العربي. هل ترون أنّ دورها كان في تثوير الطاقات الشعبيّة أم اقتصر فحسب على استنساخ الثورات؟
- الأزهر الزّنّاد: لكلّ ثورة أدواتها حسب العصور، والمهمّ أن لا قيام لثورة ما لم تتوفّر جملة من العوامل المتظافرة يعيشها جميع النّاس أو جلّهم، وهي في جوهرها فقر وشعور بالظّلم وإحباط وانعدام الثّقة في الحاكم فيكون البحث عن البديل. وقد ينشأ البديل نشوءاً جماعيّاً عفويّاً ثمّ يتبلور في رؤية متكاملة يتوحّد فيها صنّاع الثّورة: أي أبناء الشّعب شيبهم وشبابهم. وإذ كانت التكنولوجيا الرّقميّة متاحة استخدموها. فهي أداة افتراضيّة ولكنّها ذات نتائج تتحقّق في الميدان تسهّل التّواصل فالتّنظيم وتنسيق الفعل وسرعته في الميدان رغم اتّساعه، فتضمن توحيد الطّاقات وتوجيهها توجيهاً ناجعاً وهذا ما شهدناه، وهنا كانت مزيّة التّكنولوجيا الرّقميّة.  وإذ كانت هذه التّكنولوجيا منتشرة بين شعوب متشابهة في ظروف مهيّئة لقيام الثورة اعتُمِدت فيها جميعاً وبنفس الأسلوب تقريبا. وهذا الشّبه لم تفرضه أدوات التّواصل وإنّما فرضه شبه في واقع بائس خلقته أنظمة متشابهة انجرّ عنه شبه في الحلول المنشودة وفي السّبيل إلى تحقيقها. ولعلّ للتّكنولوجيا الرّقميّة دوراً في البناء بعد قيام الثّورة. فهي، بهذا المعنى،لم تستكمَل بعد.    
- عماد محنان: دشّنت العشريّة الأخيرة من القرن العشرين بحقّ موت الجمركيّ وحارس الحدود. فلم تقف أوروبا الجديدة المتجدّدة عند عتبة رأب الصّدع الألماني ولا عند فكّ أسر الأقلّيات المسلمة في البلقان من تغوّل القوميّات المتغلّبة وعنجهيّتها، بل لقد أسّست كيانها الأوروبي الموحّد بحدود مفتوحة. وقد خطا مشروع العولمة الأمريكي خطوته العملاقة بإسدال نسيج شبكة العنكبوت التّواصليّة على مساحة العالم. وصارت المعلومة هي الملِكة في خليّة النّحل البشري العالمي. وكذّبت نوايا اقتصاد السّوق المحمومة هواجسَ المتخوّفين من أنّ الغرب يريد لنا أن نظلّ رهن الحبس الحضاري البارد وأنْ نبقى على حال تخلّفنا وجمودنا. وذلك أنّ اكتساح الأسواق يفترض تأهيلها معرفيّاً وتقنيّاً لأجل تسهيل التّواصل مع المُصنّع والتّعامل مع المصنوع. لذا كانت التّحفة المعلوماتيّة أولى منحوتات اليد الأجنبيّة في بلادنا بالتّمويل «المشروط طبعا» والضّغط لنشر ثقافتها وتعميمها على مستويات التّعليم جنباً إلى جنب مع إشاعة الإنقليزيّة «الاستهلاكيّة» في التّعليم الجامعيّ وما دونه. 
لقد وجد الشّباب العربي المأزوم في فضاء الأنترنت المفتوح ــ وإن بتعبيرنا الأثيل ـ مبكى لليتامى وداراً للنّدامى : نشطت علاقات التّواصل مع الأوساط الشّبابيّة الأوروبيّة والأمريكيّة في صلب مقايضة ـ بيْنمجتمعيّةـ  مقنّعة تُبادل بُعبع الفقر وحلم الهجرة في العالم العربي بهاجس التّصحّر الشّبابي وشبح التّهرّم السكّاني ونقص اليد العاملة البخسة خارج أطر الضّمانات الحقوقيّة في المجتمعات الغربيّة. ووجدت الجماعات الحقوقيّة والمثقّفة طريقاً سالكة إلى ضمير الرّأي العام العالمي ومؤسّساته لفضح رياء الدّكتاتوريّة وتعرية جرائمها.
وتدعّمت ثقافة التّواصل الرّقمي في ظلّ هذا الفضاء «الثّوري» من جهة سرعة توصيل المعلومة ومدى انتشارها فتشكّلت لغة برقيّة قائمة على الرّموز والمختصرات والأرقام. وقد أدّى هذا الفضاء ولغة التّواصل فيه دوراً بالغ الأهميّة في توسيع الهوّة بين فئة الشّباب وباقي فئات المجتمع العربي. وولّد ذلك إحساساً بامتلاك رؤية مغايرة للممكن المجتمعي ومؤهّلات تقنيّة وتواصليّة هي مفتاح الأزمة وأداة التّغيير. هكذا كان للثّورة أن انطلقت في تونس ثمّ مصر من حناجر جيل شابّ لطالما سّفهه أساتذته ومعلّموه وقنتوا منه، ولم يروا إلاّ قطاعاً منه غرق في الكحوليّة واحترف الغياب أو تلهّى بمواقع الدّردشة وقنوات الإباحيّة.
***
محمّد الحاج سالم: تقصد أنّ الثورة كانت غير متوقّعة بما أنّها كانت غير تقليديّة في أدواتها ؟ 
- عماد محنان: نعم، فقد تسلّح الشّباب الثّائر بلغة التّواصل التي تخصّه دون سواه. إنّها لغة تتّسم بكلّ سمات الثّورة. لغة مختصرة برقيّة خاطفة يمتزج فيها الرّقم بالحرف بالصّورة. وينشب فيها الحوار مخترقاً حدود المكان والزّمان والعرق والدّين والإيديولوجيا وفي مقام حرّ مفتوح قد لا نعلم عدد المتواصلين فيه. هي لغة الفضاء المفتوح وفّرتها الأنترنت على مواقع التّواصل العنكبوتي وغذّاها التّواصل بواسطة الجوّال وعاضدها الإعلام الفضائيّ المحموم بالسّبق والرّوح التّنافسيّة. ولكونه فضاء مفتوحاً فقد بنى عقليّة الانفتاح. ولكونه فضاء التّعدّد وإلغاء الحدود قام على الاختزال والسّرعة وانقشعت منه السّريّة والحيطة الثّوريّة والتّخطيط المُسبق فليس له برنامج قصدي قائم في أذهان المخطّطين ولا مخطّط تنفيذي في أجندة القادة الميدانيّين. 
***
محمّد الحاج سالم: في هذه الحال، ما هي الفروق بين هذه الثورة الجديدة وسابقاتها ؟ 
- أ.عماد محنان: أوّلا، كان الثّوريّ القديم ملتزماً منضبطاً لا يبتسم إلاّ بمقدار. وكانت الثّورة كالمحراب لا تقبل لغواً ولا خروجاً عن الصّف. وثانياً، لم يكن في حسبان الحرس القديم في سلطة الدّكتاتور أنّ شيئاً كهذا يوجد في المجتمع وهو يسوده التّرويع الأمنيّ إلى درجة تذهل معها الأمّ عمّا ولدتْ. وبحسب ظنّ الجميع ليس للثّورة إلاّ الشّكل التّنظيمي المعروف والعنف المُقاوم والتّضحيات الجسام. ومَن تابع مظاهرات الشّباب اللّيليّة في المُدن التّونسيّة يشهدْ أنّ التّخطيط كان إبداع اللّحظة. لم يكن الشّباب التّونسيّ يقارع بوليساً واقعيّاً بل افتراضيّاً ارتسم في عقليّته من ثقافة الأنترنت (واستعمالها في تونس بنسبة مهولة تُقدّر بـ 25 في المائة بمعنى أنّها مرتفعة جدّاً في فئة الشّباب). ولم يبحث في هذا البوليس العدوانيّ عن أجساد يسحلها في الطّريق بل عن قيمة سالبة يتجاوزها ويتحدّاها بإبداعيّة مراوغة تنال من هيبتها وتذلّل من سطوتها في نفوس جماهير الشّعب. وقد ساعد هذا التّعامل الذي تغلب فيه الرّمزيّة على العنف الثّوريّ على إجراء المنهجيّة الثّوريّة الحديثة التي عرفها التّاريخ المعاصر مع الثّورة التّونسيّة. فغياب العنف الثّوري والاكتفاء بما يكفل البعد الاحتجاجيّ والمطلب التّغييري المُجمع على شرعيّته حتّى من أركان النّظام القائم  جعل أهداف الثّورة خفيّة وأخّر خيار الاستخدام المفرط للقوّة من جانب السّلطة. 
الثورة بين سؤال الهويّة والمطلبيّة الاجتماعيّة
محمّد الحاج سالم: اختلطت المطلبيّة السياسيّة بالمطلبيّة الاجتماعيّة في الثورة العربيّة، وجاءت مسألة الهويّة ونموذج المجتمع المنشود لتؤجّج مخاوف بعض الأطراف بخصوص مصير الدّيمقراطيّة وحريّة التّعبير. برأيكم، هل يمكن للثّورة العربيّة الرّاهنة تجاوز سؤال الهويّة (الجوع الرّوحي) والمطلبيّة الاجتماعيّة (الجوع المادّي) إلى مساءلة آفاق الفعل الحضاري الكوني؟ وما هي إرهاصات ذلك التجاوز ؟ وما هي حدوده الممكنة ؟
- الأزهر الزّنّاد: هذه أسئلة كثيرة في واحد. كل ثورة تقوم على مطالب سياسيّة و/أو اجتماعيّة. والمفقود، هنا، مطلوب منذ قرون، ولكن لم يحدث أن تحقّق ذانك المطلبان، فقد أخطأنا مواعيد مع تحقيقهما في تواريخ عديدة منها الاستقلال في منتصف القرن الماضي، وأخطأنا تحقيقهما مع نظم عربيّة فشلت في توفير الشبع المادّيّ (الرّفاه والتّنمية) والشّبع الرّوحيّ (الهويّة). ولنا الآن في الثورات العربيّة مجال لذلك ولكن المشكل يطرَح في الأولويّة وفي الطّريقة: أقول هما متكاملان يمكن تحقيقهما بالتوازي إذ لا سبيل إلى تحديد الهويّة وأنت جائع أو مكبّل اليدين واللّسان، والعكس صحيح. والمشكل عائد - في رأيي- إلى أساس الوعي الثنائيّ بالزّمن: الفرديّ والجمعيّ في آن، وعندما يلتقيان بمعنى تشبع الحاجات بنوعيها (المادّيّة والسّياسيّة، الفردية والجماعيّة) يكون التّوجّه طبيعيّاً إلى آفاق الفعل الحضاريّ، شريطة أن يكون توجّهاً مستقبليّاً لا إحيائيّاً غُفلاً، يحتاط لكلّ العراقيل بأنواعها داخليّة كانت أو خارجيّة. والثورات العربيّة بكل ما فيها إرهاص بذلك، فأعمار الشّعوب تقاس بالقرون لا بالسّنوات والعقود.  
- أ.عماد محنان: يكفي أن نتّخذ من فهم الأوساط الاجتماعيّة التي انطلقت منها الثّورة التّونسيّة والشّعارات التي رُفعت في تفاعلاتها الأوّليّة لكي نتبيّن أنّ المطلبيّة الماديّة كانت قادحها الرّئيسي. ولكن ذلك لا ينفي دور النّخب في توجيه العمل الاحتجاجي إلى المطلب السّياسي وعنوانه الحريّات وتأسيس النّظام الدّيمقراطي. ويبدو أنّ المسار الانتخابيّ عرف حيوداً يبدو في تقديرنا رد ّفعل طبيعي على جملة مؤثّرات ظهرت خلال الفترة الفاصلة بين سقوط حكومة الغنّوشي وموعد انتخابات المجلس التّأسيسي. أوّلها غلبة اليسار على لجنة حماية الثّورة وثانيها احتدام النّقاش حول الفصل الأوّل من الدّستور وثالثها القانون الانتخابي الذي يسمح في بعض بنوده باحتساب أصوات طرف سياسي لفائدة طرف آخر ورابعها الاستفزاز الإعلامي المتمثّل في هتك المقدّسات الدّينيّة. هذه المؤثّرات جميعها جعلت الفعل الانتخابيّ منصبّاً على سؤال الهويّة. وانحصر التّصويت في ضمان المحافظة على الفصل الأوّل من الدّستور. ويمكن القول استخلاصاً للدّرس إنّ الثّورة كانت مطلبيّة في منطلقها والانتخابات كانت محافظة في مضمونها. ولكن ما حافظت عليه نتيجة الانتخابات هو المكوّن الهووي الذي أقرّته الدّكتاتوريّة واعترفت به صوريّاً دون أن تكرّسه موضوعيّاً. هذا الحيود لا يمكن أن يُعدّ انحرافاً إلاّ قُرئ قراءة محافظة تأخذ من معنى «البيْعة» أكثر ممّا تأخذ من معنى الانتخاب الحرّ الدّوريّ. وأثقل المسؤوليّات ما يقع على الأطراف التي هي خارج المجلس التّأسيسي أو لا تشكّل فيه الأغلبيّة. وهي في العموم أحزاب اليسار.وذلك أنّها تخضع لاختبار تاريخيّ في مجاوزة سؤال الهويّة بعدم تهييج العاطفة الدّينيّة عبر المساس بالمقدّسات، والضّغط في اتّجاه بلورة مشروع للإصلاح الاقتصادي  والتّنمية المتوازنة  ووضع تشريعات ضامنة لسقف من الحريّات يلبّي مطمح الشّعب ويكفل شروط الإبداع من أجل دخول مدار الفعل الحضاري.
الثورة بين الحداثة والتغرّب
محمّد الحاج سالم: أفرزت الثورة العربيّة رؤية جديدة للذات وللآخر، وأحيت مشاريع تحديثيّة خلنا أنّها ماتت. فكيف ترون سبل الحوار الوطني بين مختلف مكوّنات الشعب في سبيل إرساء نظام وطني ديمقراطي حديث ؟ وما هي حظوظ نجاحه أو إخفاقه في ظلّ الهيمنة السياسيّة والاقتصاديّة للقوى العالميّة ؟ 
- الأزهر الزّنّاد: جواب هذا مواصلة لما قبله، فمن مكوّنات الهويّة تصوّر الذّات (فرداً أو شعباً) وتصوّر الآخر، وكلاهما لا يكون إلاّ إزاء قرينه. فقد يكون الآخر قويّاً لا لقوّة فيه وإنّما لضعف في الذّات والعكس صحيح. والسّبيل إلى تحقيق القوّة (العلميّة والتّكنولوجيّة والاقتصاديّة وما يتبعها) نظام وطني ديمقراطيّ حديث فيه تجاوز لكلّ مصلحة (فرديّة، حزبيّة، فئويّة) ضيّقة أو عاجلة إلى مصلحة جماعيّة عليا تضمَن فيها مصالح الأفراد على المدى الطّويل. وأساس ذلك نهج سياسة مستقبليّة متكاملة تنهض بها الدّولة على المدى البعيد دون انقطاع وإن تغيّرت الحكومات تبعاً للتّداول على السّلطة، وهذا ما نجح فيه وبه الكثير ممّا نسمّيه بالقوى العالميّة. ومن المعلوم أنّها لا تتغيّر سياساتها بتغيّر حكوماتها. ومن أسسه كذلك أن يراعي من هو في الحكم مصلحةَ الجميع وأن يعارضه من هو خارج الحكم في ما يستوجب المعارضة، لا في ما هو من صميم المصلحة الوطنيّة. ومن شروطه كذلك أن نجتنب أسباب عودة الدّكتاتوريّة فرديّة كانت أو جماعيّة. ينجح هذا المشروع باجتناب الإقصاء والتّهميش وبزرع قيم العمل والكفاءة والمحاسبة، والمكافأة على قدر المجهود. 
- عماد محنان: الثّورة أشبه شيء بتحريك قطعة شطرنج واحدة يغيّر نظام الرّقعة بكامله ويفرض منظومة علاقات جديدة على اللاّعبين التّفكير مجدّداً لفهم كيفيّات التّعامل معها. فالقوى الاستعماريّة التي كانت بالأمس القريب تقدّم الدّعم السّياسي والمادّي والاستخباراتي للدّكتاتوريّات أصبحت في مصافّ أعدائها تحاربها بما كانت تسندها به. والأحزاب اليمينيّة تسربلت بوشاح مدني وقبلت لعبة الدّيمقراطيّة والتّداول ووعدت بالحفاظ على المكتسبات الحقوقيّة والاتّفاقيّات الدّوليّة الملزمة. والأحزاب اليساريّة وجدت نفسها خارج قائمة المدعوّين شعبيّاً وليس أمامها إلاّ مراجعة حساباتها أو التّسكّع طويلاً على قارعة الشّارع السّياسي. فقد أتّخذت أزمة الثّقة اتّجاها جديداً بين النّخب اليساريّة والحداثيّة والعلمانيّة من جهة والجماهير من جهة ثانية. واستفحل النّفاق السّياسي فملأ القتلة طوابير جنائز الهالكين من عموم الشّعب الذي رفع على كاهلة وزر سنين الجمر ودفع فاتورة الثّورة. فهل هو خلط أوراق على طريقة اللّوطو ليكون نزول الورقة الرّابحة محض صدفة؟ الواضح أنّ الطّرف الذي يراهن على عدد أكبر من الأوراق هو الذي يحظى بفرص أكثر للفوز. لم يستطع منطق المطلبيّة الماديّة أن يفرض نفسه أمام سؤال الهويّة في هذه المرحلة. وهذا ليس فيه قطع للرّجاء من توفّر مجال العمل السّياسي على موطئ قدم لليساريين والعلمانيين. بل إنّ الاعتراف المتبادل هو ضمانة الوجود المشترك والعيش معا. فليس رهان الثّورة مصلحيّاً انتخابيّاً بل حضاريّاً في مداه البعيد.
الهوامش
(*) أجريت هذا الحوار بتاريخ 30 نوفمبر 2011 وأنا أستعيده هنا كوثيقة دالّة عمّا كان يكتنف المثقّف في تلك الأيّام الجيّاشة الفوّارة من آمال ومخاوف وهُوامات حول ثورة ما تزال أسئلتها التي لا تنتهي تلاحقنا، مع الشكر الجزيل للصّديقين الفاضلين اللذين كانت لي معهما مقابسات ممتعة.