مجرد رأي

بقلم
عادل السمعلي
الدستور التونسي والمنزلة بين المنزلتين
 لقد أثارت زيــادة فقرة في البند السادس للدستور التونسي الجديد يتم بموجبها تحجير التكفير ردود أفعال غاضبة و عنيفة ومثيرة للجدل من طرف أغلب مساندي احزاب الترويكا الحاكمة في حين استقبلت العائلة اليسارية والحداثية  هذه الزيادة بالانشراح والترحاب واعتبرتها مكسبا من المكاسب التي يحق لهم الافتخار بها والتي حسب رأيهـــم من شأنها أن تحد من العنف السياسي وظواهر التكفير التي انتشرت بعد الثورة .
إلا أن المتأمل في البنود الاولى من الدستور بما في ذلك البند السادس مثار الجدل سرعان ما يتفطن إلى  أن المعركة بين الاسلاميين وبين العلمانيين في تونس ما هي  إلا معركة طواحين الهواء بامتياز  فالدستور التونسي في نسخته هذه  مؤكد أنه لن يرضي الاسلاميين ولكنه من الثابت أيضا أنه لن يشفي  غليل  العلمانيين باعتبار أنه دستور (هجين) يحاول أن يرضي كل الأطراف المشاركة في صياغته حتى ولو كان ذلك على  حساب منطقه الداخلي وانسجام رؤيته لمشروع مجتمعي تونسي مستقبلي فهو يضم النقيض ونقيضه ويجمع بين الرؤى والأفكار التي لا يمكن أن تجتمع في رؤية واحدة منسجمة ومتناغمة  ويعيدنا الى مربع الصراع الاسلامي العلماني وكل طرف يؤول مضامينه حسب خلفيته الفكرية و رؤيته الايديولوجية  وأنه من المؤكد عند الدخول في تفاصيل هذا الدستور وتطبيقاته العملية ستتداخل التفسيرات والتأويلات وتتباين يمينا ويسارا  ....
إن شعار التوافق الذي رفع عند كتابة الدستور سينجر عنه  دستور ينظر  لرؤية مجتمعية  مليئة بالتناقض باعتبار أن الرغبة الجامحــة في إرضاء كل العائلات الفكرية والإيديولوجية سيترتب عليها  فصول قانونية أقرب منها إلى تبني المنزلة بين المنزلتين فلا يمكن وصفه بأنه دستور اسلامي كما لا يمكن أي يوصف بأنه علماني  مما يفتح المجال واسعا للتجاذب السياسي المرضي البعيد كل البعد عن استحقاقات ثورة الحرية والكرامة .
إن تضمين (تحجير التكفير)  وما صحبه من هرج ومرج  سياسي وإعلامي يؤكد أن النخب التونسية مازالت تراوح مكانها ولم تتخلص بعد من عقدها الايديولوجية و «فانتازماتها» الفكرية ولم تصل بعد لدرجة الوعي التي تمكنها من فهم وإستيعاب أن الدستور ليس مطلوبا منه أن يكون دستورا إيديولوجيا يحقق انتصارا لهذا الطرف أو ذلك بقدر ما يجب أن يكون عقدا اجتماعيا وثيقا بين كل التونسيين مهما كانت إنتماءاتهم الفكرية والسياسية وأن التجاذب مجاله الخطط والبرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية وليس مجاله الدستور.
إن لعبة الاستقطاب الثنائي (إسلامي/علماني) كما كانت تسمى في أواخر الثمانينات تطلّ برأسها من جديد في جلسات التأسيسي وفي مناقشة بنود الدستور ويبدو أن بعض من عايشها وأكتوى بنارها سابقا لم يستفد من عبر التاريخ ويكفي هنا أن أشير أنها نفس اللعبة التي لعبها بن علي ليستفرد بالسّلطة ويقضي على الجميع فتضرّر منها الاسلامي أيّما ضرر ولم يستفد منها العلماني بتاتا إلاّ ما ندر من الانتهازيين ..
إن محاولة إحياء  نفس الاشكاليات النظريّة التي طرحت في نهاية الثمانينات والدّخول في جدالات بيزنطيّة لا تُسمن ولا تُغني من جوع هدفها الإشغال المنهجي وإلهاء الرأي العام بما لا يعول عليه وما لا فائدة تنجر عنه وهو تقريبا نفس الجدل النظري العقيم الذي انشغلت به النخب أواخر الثمانينات قبل أن يهرب الجمل بما حمل ويستفرد بن علي طويلا بالسلطة  ويبدو أن النخب لم تستفد من التجربة السابقة ولم تعدل بوصلتها مما يعرضها لخطر السقوط مرة أخرى في الفخ الذي نصب لها في أواخر الثمانينات وكلفها عشرين سنة من  الديكتاتورية والظلم والاستبداد ...
إنني أرى أن هذا المنحى القديم والمتجدّد الذي أدّى إلى إدراج  (تحجير التكفير)  في الدّستور سيضرّ ويرجع بالوبال شعبيّا وإنتخابيّا  لمن أعتقد أنّه انتصر على خصومه السياسييّن بفرض إدراجه في الدّستور لأنّ التكفير بكل بساطة  مبحث فقهي وعقائدي، ومجرد إيراد المصطلح في الدستور سيفتح باب البلاء على (الكفّار المفترضيـن) و(التكفيريين المفترضين) على حد سواء .... لأن تفسير المصطلح في حدّ ذاته وتحديد مفهومه سيمرّ حتما عبر مباحث دينيّة وفقهيّة وتاريخيّة بداية من الفتنة الكبرى إلى يومنا هذا وسيحتاج المشرّع للاستئناس بكل هذه المباحث في هذا الشأن وترجيح معنى يتعارف عليه للمفهوم أمام معاني أخرى... وفي هته الحالة سيمثّل ورطة حقيقية أمام من دفع لإضافة هذه الفقرة في البند السادس من الدستور.
إن الدستور الذي يحتاجه ويستحقّه التونسيون هو الدّستور الذي يسطّر الطريق نحو تحقيق أهداف الثورة في كنف الأمن والاستقرار والنهوض الاقتصادي والاجتماعي. وأن أيّ حديث أو نقاش وطني  خارج مطالب المحاسبة وكشف ملفات الفساد وإصلاح القضاء والإعلام والأمن وإقصاء المنظومة القديمة، وإن أي جدال خارج تحقيق العدالة الانتقاليّة وضمان العدالة الاجتماعيّة بين الجهات والتّقسيم العادل للثّروات وتكريس سيادة القرار الوطني هو حديث هراء وكلام دون محتوى لمحاولة تجريف استحقاقات الثّورة نحو معارك جانبيّة لا جدوى منها.