الإفتتاحيّة

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد 47
 ما حدث قبل ثلاث سنوات كان حدثا جللا لا ريب فيه شدّ إليه أنظار العالم كلّه وأخرجنا نحن العرب من سباتنا العميق ومن واقع طغى عليه الاستبداد والظلم والقهر. لقد غيّرت الأحداث التي اندلعت في تونس ثم انتشرت كانتشار النار في الهشيم في بقية الدول العربية موازين القوى وأسقطت عددا من رؤوس الأنظمة الاستبدادية الفاسدة ومارست الشعوب لأول مرّة في تاريخها حقّها الانتخابي بكل حرّية وشفافية وأتت بمن كان في السجون إلى سدّة الحكم. غير أن الأمور لم تسر كما تمنّتها الشعوب العربيّة وتحوّل الربيع العربي إلى خريف تساقطت معه المكاسب كما تتساقط أوراق الشجر وتحوّل الحلم العربي إلى كابوس مخيف يعلم الله وحده متى تستيقظ منه الشعوب.  
فبدلا من حصول انتقال من الاستبداد والقمع إلى الحرّية والديمقراطية ومن نظام الشخص الواحد إلى نظام ديمقراطي ومن حكم العائلة إلى حكم الشعب عبر إرساء دعائم نظام يقوم على المواطنة ، عاد النظام القديم في اليمن في جلباب جديد وانقلب العسكر على الرئيس الشرعي في مصر ودخلت ليبيا في  دوامة حرب العصابات ونظام اللادولة وتحولت سوريا إلى حلبة قتال عنيف راح ضحيّته عشرات الآلاف من المدنيين السوريين من أطفال ونساء وشيوخ. أمّا تونس فقد شهدت عودة الاغتيالات السياسية وأصبحت البلاد تودّع أزمة لتستقبل أخرى أعنف منها فهل هذا هو النتاج الطبيعي للفترة الانتقالية التي تعرفها كلّ الثورات ؟ وهل تدخل هذه الاضطرابات والتجاذبات ضمن إرهاصات الثورة؟ أمّ أنها الانتكاسة والعودة إلى نقطة الصفر؟ وهل ما يحدث اليوم سببه فشل النخبة السياسية التي تسلّمت زمام الأمور في تحقيق الشعارات التي رفعتها الجموع الثائرة وفي استعادة أمن واستقرار البلاد ؟، أم أن قوى الردّة أو ما يصطلح على تسميته بقوى الثورة المضادّة قد بدأت تأخذ بزمام الأمور بعد أن فرضت وجودها في غياب قرارات ثورية لتحصين الثورة؟ أم أن الأمر مرتبط أساسا بعوامل خارجيّة ضاغطة ومتحكمة في الأحداث؟ أسئلة عديدة تطرح نفسها ونحن نحتفل بالذكرى الثالثة لاندلاع الثورات العربية ، لعلّنا نفهم ما حدث وما يحدث وما سيحدث في المستقبل.
يرى البعض أن القوى الاستعمارية التي كانت تساند الطواغيت قد استفاقت بسرعة من صدمتها بعد أن فاجأها الزلزال العربي واستطاعت بحكم حنكتها ودهاء سياسييها من جهة وضعف خبرة القوى التي أتت بها الثورة وعدم توحّدها من جهة أخرى بأن تأخذ من جديد بزمام الأمور وتتحكم في العملية السياسية بدول «ثورات الربيع العربي» وتوجهها نحو إجهاض عملية الانتقال الديمقراطي أو على الأقل تشويهه بما يضمن مصالحها الاستعمارية وتبعية الأنظمة الجديدة لمنظومتها.
ويرى البعض الآخر بأن ما حدث خلال السنوات الثلاث أمر طبيعي ذلك أن الثورة ليست عملا محدودا في الزمان والمكان وإنما هي عمل معقّد من حيث تداخل عناصره وارتباطه بالواقع الجيو- سياسي والاجتماعي وهو أيضا شاق ومضنٍ يتطلب الكثير من التضحيات والصبر والعمل واليقظة فلا يمكن حرق مراحل الثورة أو استعجال قطاف ثمارها. وما يحدث اليوم في تونس أو في مصر إنما هي تحولات طبيعيّة ومتوقعة فقوى الثورة المضادّة والمعارضة للنظام الجديد تتوحّد وتسعى جاهدة لإفشال المسار الثوري لكنها ستفشل حتما بقرار سنن التاريخ حتّى وان اعترت هذا المسار هزّات ومطبّات لأن ما يحدث اليوم إنما هو استكمال متأخر لموجة الديمقراطية الثالثة على رأي المفكر الأمريكي الراحل صموئيل هنتنغتون التي شملت دول من أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينيّة وبعض الدول الإفريقية أو هو بداية لموجة ديمقراطية رابعة انطلقت من تونس لتنخرط فيها بقية الدول العربية وغيرها التي مازال يحكمها الاستبداد والقمع.   
ونحن نرى أن تفسير ما حدث خلال السنوات الثلاث الماضية يحتمل شيئا من هذا وشيئا من ذاك . لقد قررت الشعوب العربية بانتفاضتها أن تنخرط في عمليات التحرر من أنظمة الاستبداد والتسلط والتماس طريقها نحو الانتقال الديمقراطي برغم أنف قوى الشدّ إلى الوراء ومن تساندها من قوى استعمارية وقوى معادية لهذه الأمةّ تخشى نهضتها وستتحقق إرادتها بعون الله « وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)» سورة القصص .
غير أن النجاح في تحقيق هذه الإرادة لا يمكن أن يحصل إلا عبر العمل المشترك في المسارات الثلاثة التالية: السياسية والثقافية والاقتصادية. فالمواطن العربي الذي ثار على الاستبداد يرى أن أولوياته تكمن في تحسين الأوضاع الاقتصادية وتحقيق الاستقـــرار والأمـــن وهذا لا يمكــن أن يتحقق إلاّ عبر إرساء نظام ديمقراطي حقيقي يرتكز على ثقافة المواطنة الغائبة إلى حدّ الآن وهو ما يتطلب توحيد الجهود لإنجاز ثورة ثقافية تنسف ثقافة الاستبداد والأنانية والفوضى وتكرّس بديلا وطنيّا قائما على الاحترام المتبادل بين الدولة والمواطن وبين المواطنين أنفسهم وهو عمل صعب وشاق لا نرى  مكونات المجتمع المدني من جمعيات ومفكرين ومثقفين قد انطلقوا في انجازه بعد.   
سيبقى تحول الشعوب العربية من واقع الاستبداد والتهميش إلى واقع السيادة والمواطنة أعرجا ما لم تصاحبه ثورة ثقافية شاملة وحركة اقتصادية تعمل في كل الاتجاهات وتؤسس على حبّ العمل والاستثمار في الوطن ومن أجل الوطن وستبقى المرحلة القادمة مفتوحة على كل الاحتمالات مادامت القوى السياسية والمجتمعية تفتقر إلى رؤية مستقبلية مشتركة، أو متقاربة بالحدود الدنيا المطلوبة.
فهل ستتواصل الهزّات والارتدادات والأزمات خلال هذا العام الجديد أم ستعرف مختلف القوى كيف تضع القطار على السكّة الصحيحة لينطلق نحو الهدف المنشود؟ سؤال نختم به مصافحتنا وللحديث بقية.