قرأت لكم

بقلم
د.ناجي حجلاوي
نظرات في كتاب «الرّوابط» لفتحي القاسمي
 أصدر، أخيرا، الأستاذ فتحي القاسمي كتابا متوسطّ الحجم يعــدّ من الصّفحات ستّا وعشرين ومائة صفحة، عن الشّركة التّونسيّة للنّشر وتنمية فنون الرّسم وقد اختار له عنوانـــا كالآتي: «روابط الفكر والرّوح بين المصلحين التّونسيّين ونُظرائهـــم مشرقـــا ومغربـــا (ثنائيّة التّأثّر والتّأثير) القسم الأوّل: مشرقـــــا». وأولى الملاحظات تتمثّل في الإشارة إلى طول العنوان الّذي على حدّ ما يُشترط عــــادة في العنوان أن يكون مختصرا ومكثّفا جلبا للانتباه وإحداثا للصّدمــة في ذهن القارئ من خلال الغموض المتعمّد من قبيــــل الاقتصــــار على «بين المشرق والمغرب» أو «التّأثير والتّأثّر مشرقا ومغربا››. وذلك تجنّبا أن يبوح العنوان بمحتوى الكتاب دفعة واحدة فيقتل لذّة القراءة لدى مُطالعه.
وإذا كانت التّوطئة تضطلع بضبط ما سيرد في الكتاب والكشف عن فلسفته، فإنّ هذا الكتاب قد أشار منذ البداية إلى الأزمة الفكريّــة الّتي تتخبّط فيها الثّقافة العربيّة رغم غناء المادّة التّراثيّة ممّا يؤكّد رسالة المفكّر إذ هو الكفيل بتخليص الوعي من النّرجسيّة المغلّبة للتّعصّب المذهبي المغذّي للتّصحّر الثّقافي. 
وليس بعزيز على القارئ أن يلاحـــظ أنّ هذا الكتــــاب هــو كلمة حقّ في شأن رجـــــال تحدّوا القمع والتّعتيـــم ولم ينصفهـــم التّاريـــخ من أمثال: محمّد المكّي بن عزّوز وصالح الشّريف وإسماعيل الصّفايحي وعبد العزيز الثّعالبي ومحمّد الخضر حسين وعليّ باش حانبـــة ومحمّد باش حانبــــة ومحمّد نعمــــان والحكيم أحمد الشّريف وهؤلاء جميعا قد عانوا القمع المزدوج من البــــاي أوّلا ومن الاستعمـــار ثانيا. وليس خافيا ، ثني هذا الكتـــاب، أنّ الإشـــارة إلى تونس مجــــال حيـــوي تعايشت فيه الثّقافات منذ العهـــد القرطاجنّــــي ساعة انبثق الوعي الدّستوري وترعرع ثمّ جاءت الفتوح الإسلاميــــّة بأنوار الهداية ومحاسن الرّسالـــة الإسلاميّــــة المتمثّلة في العدالــــة والمساواة إلاّ أنّ ذلك لم يحُلْ دون ظهور فترات قد شابه الصّراع السّياسي والمذهبـــي في علاقات متينة بالشّـــرق ولا غرابة في ذلك فالميدان الجغرافي التّونسي قد شهد توافد الفينيقيّين فالرّومان فالوندال، فالرّومــــان البيزنطيّيــــن فالعـــرب فالإسبــــان فالتّـــرك ثمّ الإفرنــــج ممّا ولّد تلاقحا ثقافيّا وتوليدا عقليّا وقد بدت البيئة التّونسيّة تتمتّع بقدرة كبيـــرة على امتصاص هذه الثّقافات وصهرها وإعادة إنتاجها في طبيعة تونسيّة ممّا سلّحها بطاقة معنويّة مكّنتها من التّصـــتدّي إلى مخطّطات الثّقافة الاستعماريّـــة، فإذ أرادت القوى الاستعماريّـــة داخليّــــا وخارجيّــــا تمزيق الوطــــن الكبير واضطهاد علمائه، فإنّ هـــؤلاء قد عملــــوا على توحيــــده عبر الرّسائـــل والزّيــــارات علمــــا بـــأنّ التّأثيــــر كــــان متبــــادلا بين المشارقــــة والتّونسيّين مثل جمال الدّين الأفغاني ومحمّد عبـــده وحمزة فتـــح الله من مصر وأحمد فارس الشّدياق والأمير شكيب أرسلان من لبنان، وقد تفاعل معهم مفكّرون تونسيّون من أمثال سالم بو حاجب وبيرم التّونسي ممّا يدعّم أنّ الثّقافة العربيّة الإسلاميّة حلقات متواصلة ومترابطة العرى تغذّي الوعــــي النّضالــــي والصّحفــــي والاجتماعــــي كإثارة قضيّــــة المـــرأة تحت تأثيــــر زيــــارة حمزة فتح الله إلى تونس، ولنا أن نلاحـــظ في هذا الإطار أنّ دأب السياسة إذا حادت عن الجادة من شأنهـــا أن تقمـــع وأنّ الفكر إذا كــان جادّا من شأنه أن يجمع. (1) 
وبعد هذا الاستعراض لأهمّ ما ورد في هذا المصنّف من أفكار يجدر بنـــا التّنبيـــه إلى أنّ محتـــواه مشــــدود بخيط ناظم عماده المقارنة ائتلافـــا واختلافـــا بين مفكّـــري المشرق والمغرب الإسلاميّيْن، يقول المؤلّف في هذا الصّدد: «حرصنــا على بيــــان مواطن الائتلاف ومواقع الاختلاف بين الأعــــلام المشارقـــة ونظرائهم التّونسيّين وسعينا إلى تجلية خصوصيّات الطّرح المتسامتة مع أوجه التّواشج والتّكامل الّتي ما انفكّت تعمّقها عوامل دينيّة وتاريخيّة وجغرافيّة ونفسيّة» (2) .
لقد جنـــح المؤلّــف إلى تتبّـــع الجزئيّـــات فـــــــي تفكير الرّوّاد مشرقا ومغربا متسائلا عن إمكانيّة استحالتها إلى مشروع نهضوي متكامل مشيرا في ذات الوقت إلى أنّ مصلحي البـــلاد التّونسيّـــة ليسوا مجرّد مردّدين لآراء إخوانهم المشارقــــة باعتبار العوامل الدّاخليّة الّتي كانت بطبيعتها داعية إلى شحذ الأذهان ورفع الهمـــم في ذات الوقت.
إنّ هــــذا الكتــــــاب وإن تصدّى إلــــى الذّهنيّــــة الّتي تركـّـــز على أنّ المشارقة هم أصحاب السّبــــق والرّيـــادة في المستـــوى الثّقافـــي والإصلاحـــي باعتبارهم قد فتحـــوا مجالات فكريّـــة واقتحمــــوا حقولا إصلاحيّة واسعة: اجتماعيّــــا وسياسيّــــا وثقافيّــــا، فإنّـــه على النّقيـــض من ذلك يبيّــــن بالأدلّة الوثائقيّــــة والتّاريخيّــــة أنّ الأمر لا يعدو أكثر من تأثّر وتأثير من قبيل الإشارة إلى أنّ النّخبـــة التّونسيّـــة قد اتّصلت بجمال الدّيــــن الأفغانـــي ومحمّد عبده وجمعيّة العروة الوثقــــى. وكذلك رسائـل سالـــم بو حاجـــب وحميـــدة بن سليمــــان ومحمّـــــــد سعيــــدان طلبـــا للاشتــــراك في المجلّـــة ممّـــا يكشــــف الآفــــاق الذّهنيّـــة لدى جمــال الدّين الأفغانــــي بما هو مرشـــــد فكـــري ومصلــح يجمــــع الشّمــــل إذ كانـــوا «يجلّــــون العــروة الوثقــــى وينزّلونهــــا بمنزلــــة القــــرآن» (3). ممّـــا يكشف عن مقـــدار الإعجـــاب بجهـــود المصلحيــــن المشارقـــة، ولربّما كان هذا الإعجاب مفرطا. 
ولقد تجلّت هذه العلاقة بين المشرق والمغرب في بعد آخر هو وهو مظهر اجتماعي يتمثّل في المصاهرة ممّا يدلّ على وحدة الرّوابط ومتانتها من خلال زواج الأميرة نازلي هانم ابنة الصّدر الأعظم مصطفى فاضل باشا ابن إبراهيم باشا من خليل بو حاجب وهو نجل سالم بو حاجب (4). وعلى هذه الشّاكلة تنوّعت مظاهر الرّوابط وتعدّدت بين فكر وإصلاح واجتماع.
إنّ الجدير بالملاحظة هو أنّ هذا المصنّف قد اكتسب أهميّته من المادّة التّوثيقيّة انطلاقا ممّا اعتمد عليه من المقالات والمراسلات وأمّا فيما يتعلّق بالأطروحة الأساسيّة المتمثّلة في أنّ علماء المسلمين قد انشغلوا بالمسائل ذاتها فإنّ ذلك يبدو من البدائه للتّماثل الحضاري والتّوحّد الجغرافي والتّاريخي والتّعرّض الطّارئ إلى الاستعمار الأجنبي وإن اختلفت تسميات المستعمر من بلد إلى آخر. ويظلّ السّؤال عالقا في ذهن القارئ، ولربّما كان هذا السّؤال هو الجانب المفوَّت على هذا الكتاب متمثّلا في الوقوف على عدم تحقّق النّهضة العربيّة الإسلاميّة فهل العيب في نمط تفكير هؤلاء المصلحين أم هو عليق بالوسائل الّتي توخّوها لتحقيق أهدافهم.
الهوامش
(1) انظر ص 17/18.
(2)  انظر ص 19.
(3)  ص 36.
(4) انظر ص ص 38-39.