وجهة نظر

بقلم
توفيق الشّابي
عن ضرورة الدراسات المستقبلية
 قرأت في بعض المواقع والجرائد خبرا عن مرض المفكرالمغربي المهدي المنجرة الذي يرقد في أحد مستشفيات الرّباط بعد سنوات طويلة من الإبداع الفكري وهو المختصّ في الدّراسات المستقبلية والذي يعتبر من أهم  المراجع العربية والدولية في هذا المجال. قرأت الخبر فتذكرت بداية تعرفي على كتاباته اوائل التسعينات وخاصة كتابه «الحرب الحضارية الأولى» والذي جاء في خضم الحرب على العراق بعد احتلال الكويت. ورغم المآلات المحبطة التي عرَفَتْها تلك المرحلة، كانت مضامين خطابه دائما متفائلة وواعدة بمستقبل أفضل للشعوب العربية والإسلامية وبلدان العالم الثالث، وإن على المدى المتوسط. وقد كان ايمانه كبيرا بكل هذه الشعوب وبقدرتها على تجاوز حالة التردي والتخلف. وربما كانت الثورات العربية الأخيرة بعض تأكيد لإيمانه، إذا ما وقع استثمار هذه الفرصة من أجل الإنطلاق وامتلاك ناصية المستقبل. طبعا، لا يكون هذا إلا بوجود إرادة حقيقية ورؤية واضحة لقدراتنا ولما نريد. تَذَكُرُ المهدي المنجرة يدفعنا إلى التساءل عن موقع الدراسات المستقبلية لدى مجتمعاتنا خصوصا في هذه المرحلة حيث التحولات كبرى وسريعة في آن، ما يجعل آثارها عميقة ودائمة إذا لم تُدركْ مسبقا ولم تُواجهْ بفعالية.
والحقيقة أن الدراسات المستقبلية في الغرب أصبحت علما بحدّ ذاته، وهي أقرب إلى العلوم الإنسانية لأنها تعمل وفق مناهج علميّة تنأى بها عن التنبؤات الإعتباطية رغم أن نتائجها تبقى دائما في باب الإحتمالات. وهذا العلم له مراكز متخصصة ويعتمد على حشد من العلماء والخبراء في مجالات متعددة وتمثل نتائج البحوث معطيات أساسية في رسم السياسات العمليّة والإستراتيجيات المستقبلية وذلك من قِبَلِ رجال السياسة والأمن والإقتصاد وغيرهم.
 في هذا الموضوع كأني ببعض المثقفين المغاربة -نسبة إلى المغرب الأقصى- هم على خطى المهدي المنجرة  في الوعي بأهمية الدراسات المستقبلية. ففي احدى الجلسات التي نظمها منتدى الجاحظ منذ مدة، اتيح لي أن أستمع إلى أحدهم متحدثا عن أهم التحديات التي ستواجه بلدان  المغرب العربي وقد لخصها في ثلاث:
(1) التحدي الأول هو ندرة المياه: وهي مشكلة  تشترك فيها عدة شعوب  في عدة جهات من العالم وخاصة المنطقة الجنوبية. ونظرا لأهمية المياه يَعتَبِرُ كثيرون أن حروب القرن الواحد والعشرين هي أساسا حروب حول المياه.  ومن إمتلك الماء إمتلك الحياة وضَمِنَ وجوده في المستقبل. والشواهد على ذلك متعددة لعل أهمها الصراع الظاهر والخفي حول مياه النيل. وندرة المياه هي أساسا نتيجة للتحولات البيئية التي تعرفها الأرض من ارتفاع لحرارة الكوكب وانخفاض لكميات الأمطار خاصة في بلدان الجنوب. ففي تونس مثلا، لا نحتاج إلى سنوات أخرى لنرى بدايات الأزمة. يكفي أن ينظر أحدُنا حوله ليرى عدد الآبار والعيون الطبيعية التي نضبت في السنوات الأخيرة وفي عدة مناطق من البلاد، وهو ما اضطر شركة المياه للتدخل وإيصال الماء الصالح للشراب لعدد كبير من القرى والأرياف، بل إن بعضها مازال يعاني الكثير من أجل الحصول على مياه صالحة للشرب.
(2) التحدي الثاني هو التصحر ومشكلة الغذاء: من نتائج ندرة المياه ليس عطش الإنسان وحده،  بل كل ما حوله من نباتات وحيوانات وتربة وهي التي تمثل مصادره الأساسية للتغذية. فالتصحّر الزاحف على مساحات شاسعة من الأراضي الفلاحية يمثل تهديدا حقيقيا يجعلنا نتساءل عن مدى قدرتنا مستقبلا على ضمان غذاءنا وبالتالي وجودنا المادي والمعنوي واستقلال قرارنا وعدم ارتهاننا للآخرين.
(3) التحدي الثالث هو تحدي اجتماعي: وهو تحدٍ مُرَكب تلتقي فيه، من جهة، مشكلة تهرّم شعوبنا المغاربية نتيجة الإتجاه العام نحو الحدّ من الولادات، ومن جهة أخرى، ارتفاع الهجرة من البلدان الإفريقيّة جنوب الصحراء نحو بلداننا المغاربيّة وذلك نتيجة الإجراءات المتشدّدة التي تتّخذها أوروبا في موضوع الهجرة. نلاحظ ذلك في التطــــور اللافت لأعـــداد المهاجرين الأفارقــــة في السنوات الأخيرة. وهي هجرات من أجل العمل والدراسة والإستقرار أيضا من خلال الزواج من أبناء وبنات البلدان المغاربيّة. هذا الوضع في صورة تطوّره ستكون له نتائج اقتصاديّة تتمثّل في تعميق أزمة البطالة بين السّكان المحليين وآثار اجتماعية تمسّ من النسيج الإجتماعي ودرجة التجانس وطبيعة الهويّة الثقافيّة لهذه المجتمعات.
واضح أن هذه التحديات هي تحديات وجود، وتطورها يعني نتائج كارثية بأتم معنى الكلمة (أحيانا أضحك من نخب تتصارع من أجل الفتات لتحكم بلدانا قد لا «توجد» مستقبلا). مُهِمٌ  أن نكون على وعي بهذه المشكلات، لكن الأهم هو أن نحدّد من الآن كيف سنواجه هذه المشكلات في عالم متحول وكيف؟ حتما الإجابة تمرّ عبر الإيمان الحقيقي بأهمية الدراسات المستقبلية والعمل على التأسيس لها في الواقع.