في العمق

بقلم
محمد بن جماعة
نموذج تطبيقي لإنجاز موسوعة إلكترونية شاملة للقرآن الكريم وعلومه
 (I)  خلفية الموسوعة
انطلق البحث من ثلاث ملاحظات منهجية لواقع الدراسات القرآنية:
تتعلق الملاحظة الأولى بالتعامل مع القرآن الكريم، الذي يتنازعه اتجاهان خاطئان: يرى أحدهما الاكتفاء بدلالة النّص زمن نزولـــه، وأن كتاب الله له معنى تاريخي فقط، استنبطه مفسرو القرون الأولى، وما على المسلم المعاصر سوى أن يعود إلى أقوال هؤلاء السلف الصالــــح. أمـــا الاتجاه الثانـــي فيرى أن النصّ القرآنــــي نصّ لغويّ مفتوح يخضــع، كأي نصّ من النّصوص، لتطوّر الدّرس اللغوي والأدبي والتاريخي. ويــرى هذا الاتجـــاه أن معنى النّص يمكن أن تتعدد قراءاته وتتنوع، وبالتالي فما يهمّ هو دلالـة النّص «زمن قراءته».
والملاحظة الثانية تتمحور حول طبيعة الدراسات القرآنية وكيفية توليد المعارف القرآنية، حيث توجد مقاربتان مختلفتان في توليد هذه المعارف: إحداهما هي المقاربة التجزيئية أو التحليلية، وتقوم على دراسة المواضيع الضخمة من خلال تجزئتها وعزل أجزائها بعضها عن بعض. أما المقاربة الثانية فهي المقاربة النظامية، وترى أن فهم النظم المعقدة لا يمكن أن يتم من خلال التجزئة وعزل الأجزاء فقط، بل تستوجب أيضا معرفة العلاقات والتأثيرات المتبادلة بين أجزائها، وأيضا معرفة الظروف والسياقات والعوامل المحيطة بها.
وأما الملاحظة الثالثة التي انطلق منها البحث فتتعلق بواقع التراث العلمي في مجال الدراسات القرآنية، والذي يتّسم بكثرة الكتب والمصادر، واختلاف المناهج، وعدم الاتّفاق على القواعد المتحاكم إليها، وغياب منهج دقيق وموحّد لتوثيق الأخبار المنقولة، والتكرار، وعدمِ الشمول والاستيعاب، رغم كل المجهودات الهائلة والمبذولة لحدّ الآن، وهو ما يجعل الباحث الأكاديمي أمام صعوبات منهجية وعمليّة جمّة.
(II) المنهجية المتبعة:
المنهجية التي نقترحها تعتمد على التخطيط والعمل الجماعي المشترك، وتقوم على المزاوجة بين المقاربتين التجزيئية والنظامية.وتسعى لإنجاز موسوعة يجعل منها محتواها والخدمات التي توفرها مرجعا يستفيد منه المتخصّصون والمؤسسات البحثيّة، والجامعات، والهيئات الفقهيّة، وعموم المسلمين، والباحثون من غير المسلمين.
وقد قسّمنا المنهجية المقترحة إلى ثمانية عناصر رئيسية: فبدأنا بطرح دراسة مصدر القرآن كمدخل أساسي للموسوعة، يتمّ فيه دراسة صدق الوحي ووجود الخالق وحقيقة الحياة في مستويات خمسة: الإله والكون والنفس البشرية والنبوة والظاهرة القرآنية، وذلك من خلال اعتماد خمسة مسالك بحثية مختلفة: البحث التاريخي (الأنثروبولوجي) ودراسة الظواهر الكونية والاستدلال المنطقي (أو الفلسفي) والبحث في ظاهرة النبوة والبحث في الظاهرة القرآنية.
ويتم على أساسها إثبات إلهيّة المصدر للقرآن الكريم من خلال الدراسة النفسية لشخصية النبي (صلّى الله عليه وسلّم) ومختلف نواحي الإعجاز القرآني. وقد تمّ شرح ذلك بشكل مستفيض(*).
ثم تطرقَ البحث إلى تفصيل زاويتي النظر للقرآن الكريم: الزاوية الوجودية الأنطولوجيّة التي تجعل من الظاهرة القرآنيّة نفسِها محورا للدّراسة والتحليل والبحث التاريخي. وتمثل هذه الزاوية في مجملها ما اصطلح عليه بـ «علوم القرآن». والزاوية المعرفية الإبستيمولوجية التي تهدف إلى فهم النّص من خلال اعتماد مناهج متعدّدة وأدوات معرفيّة مختلفة. وتمثل هذه الزاوية في مجملها: التفسير وعلومَه، والفقه وأصولَه، والشريعة ومقاصدَها، وعلم الاجتماع والتربية واللغة وغيرَها. ويُنظَر من هذه الجهة في المستوى المعجمي، والنحوي، والصرفي، والبلاغي، والصوتي، والمستوى الدلالي بمختلف مكوناته.
وقد احتوى البحث على كثير من التفاصيل المتعلقة بكل زاوية من زوايا النظر للقرآن الكريم. ففي الزاوية الوجودية الأنطولوجية، تمّ اقتراح إعادة تقسيم علوم القرآن بشكل جديد مختلف عما هو متعارف عليه لحدّ الآن. وكنّا قد اقترحنا هذا التقسيم بعد تجميع التقسيمات التي اعتمدها بعض العلماء السابقين والمعاصرين ودراستها، ونشرنا هذا الملف على صفحات ملتقى أهل التفسير، ويمكن تحميله للاطلاع عليه من هناك (*). وأما في الزّاوية المعرفية فقد تمّ بيان مختلف العلاقات بين القرآن الكريم وبقية العلوم، وعلى رأسها علوم اللّغة.
ولن نتوقّف في هذا العرض على التفاصيل، ولكن يمكن الاطلاع عليها في ورقة البحث(*).
وفي الخطوة الثالثة، تقترح المنهجية إعداد عدد من الكشافات والمعاجم والقواميس المتنوعة لتلبية جميع حاجات الباحثين في استرجاع المعلومات والبحث اللفظي والبحث الموضوعي والعمل المقارن.
ثم في خطوة رابعة تقترح هذه المنهجية إنجاز ما يسمى بموسوعة القواعد، يتم فيها حصرٌ شامل وموحّد للمعلومات المتعلقة بعلوم القرآن وقواعد الفهم والتفسير والترجيح والاستنباط، في كل مستوى من مستويات دراسة القرآن الكريم، مع توثيق النصوص المعتمدة، وتقسيم القواعد حسب صحتها، وبيان نوع كل قاعدة من القواعد، وتحديد أنواع العلاقات بين القواعد: (إن كانت علاقة تكامل، أو تعارض، أو أصل/فرع، أو لا علاقة).
في المرحلة الخامسة يتم إنجاز موسوعة الرّجال الخاصة بالقرآن وعلومه، وتضمّ جميع من لهم علاقة بالدراسات القرآنيّة، كالقرّاء والمفسّرين والفقهاء والأصولييّن واللغويّين والمستشرقين، إلخ، بما يسمح في مرحلة تالية باستكشاف العلاقات المحتملة بين الرجال، وبين الأقوال، ودراسة التطور التاريخي، والتوزيع الجغرافي.
وفي الخطوة السادسة، يتم إنجاز موسوعةٍ للتفاسير قابلةٍ للتحديث المستمر، تحصر جميع التفاسير المطبوعة والمخطوطة والمفقودة، وتوفر مادتها أو البيانات الخاصة بها في أدنى تقدير. ويتمّ أيضا في هذا المستوى تحديد خصائص كل تفسير حسب تصنيفات دقيقة ومستوعِبة وضعناها للغرض، بما يساعد على تمهيد عمل البحث المقارن بين التفاسير.
وفي المرحلة السابعة، يتم تحليلُ محتويات التفاسير والدّراسات القرآنية وربطها بقواعد البيانات من خلال مسح الكتب المستعملة في الدراسات القرآنية، واستخراج الأقوال الموجودة فيها، وإدخالها في قاعدة بيانات متطورة في المستوى الذي تتعلق به. وهذه القاعدة هي التي ستستعمل في الأخير في دراسات المقارنة. وتمّ أيضا تفصيل ذلك في البحث (*).
أما المرحلة الثامنة والأخيرة فتشكّل أهم خطوات الموسوعة، ونعني بذلك: الدراسة المقارنة المتكاملة. وهي محصّلة كل العمل التحضيري الذي يتمّ إنجازه في الخطوات السابقة للمنهجيّة. وفي هذه الخطوة يتمّ قياس قيمة المعلومات، ووثاقتِها، ومقارنةُ الأقوال المختلفة، وترتيبُها حسب درجة الصّواب فيها، وقياسُ العلاقة بين الأقوال، إن كانت اقتباسا من قول آخر أو نقدا أو نقضا، وتحديدُ الأدلة الداعمة للأقوال، إلى غير ذلك.
هذه هي باختزال شديد الخطوات الثمانية للموسوعة.
(III)  أهمية الموسوعة:
الموسوعة مشروع ضخم يستهدف توفير إطار عمل أكاديمي يستفيد منه المتخصّصون (باحثون وطلبة وكتّاب) والمؤسسات البحثية والجامعات والهيئات الفقهية وعموم المسلمين والباحثون من غير المسلمين..
وتكمن أهمية الموسوعة المقترحة في عدّة مستويات علميّة وعمليّة:
(1) المستوى العلمي: محاولة الاستيعاب والشمول للأقوال، وضمان الدقّة والمرونة في معالجة المعلومات، وقياس درجة وثوق النقل ودرجة صواب القول، ومقارنة الأقوال بما يؤدي إلى:
(أ) توسيع آفاق الفهم والاستنباط.
(ب) قياس درجات الاتفاق والاختلاف بين العلماء، وبين المدارس الفقهية والعقائدية.
(ت) تقليص حجم الاختلاف بين العلماء في فهم معاني القرآن.
(ث) تقليص حجم الاختلاف بين العلماء في استنباط الفوائد والأحكام من القرآن.
(ج) تنمية وتطوير قدرات الباحثين وطلاب الدراسات العليا في المجالات ذات الصلة.
(ح) تقليص حجم التطرّف أو الغلو أو التسيّب في الفهم.
(خ) تحصين فكر أفراد المجتمع المسلم من الفهم المنحرف المهدّد للأمة.
(د) الإسهام في معالجة الأفكار المنحرفة والتيارات المخلّة بالأمن الفكري.
(ذ) تكريس الوحدة الفكرية في فهم القرآن الكريم، وتقريب مناهج الاستنباط منه.
(2) تقديم حلول عملية لتراجم القرآن إلى اللغات الأخرى حتى تكون أكثر مصداقية في التعبير عن المعنى القرآني.
(3) تكريس العمل المؤسسي والتخطيط المشترك: إذ لم يعد من الممكن في التخصصات العلميّة التعويل على الأفكار والمجهودات الشخصيّة. ولا يمكن لشخص مهما أوتي من العلم أن يخطّط أو ينجز مشاريع ضخمة بمعزل عن غيره. ولذلك، فأي عمل فكري يتمّ بشكل فردي وبدون تعاون وتكامل وترابط وثيق مع آخرين، محكوم عليه في النهاية بالعجز والقصور.
أضف إلى ذلك أن الإمكانات والمستويات (الفردية والجماعية) لها أثر بعيد في أساليب العمل. والزورق الصغير ذو المجاديف الضعيفة يتحرك على الجوانب ببطء شديد ويتحايل للوصول إلى ما يمكنه الوصول إليه نحو الغاية، على عكس الزورق البخاري القوي الذي يشق بقوة وسرعة إلى غايته، حتى لو كان مساره عكس التيار.
وليست الصعوبة في اكتشاف المبادئ الصحيحة والقواعد السليمة فقط، ولكن في تطبيقاتها الذكية الواعية أيضا، في عالم معقد واقع متغير تولد فيه أحداث وظروف جديدة كل يوم. والتخطيط لحقل البحث في علوم الدين يشترط أمورا عدة، من أهمها:
(أ) الاستيعاب الشامل للإنتاج العلمي السابق،
(ب) الاطلاع على التوجهات الراهنة في البحث في مختلف الجامعات الإسلامية،
(ت) إدراك الواقع الراهن وحاجياته،
(ث) تحديد أهداف مستقبلية واضحة المعالم، وممكنة التحقيق،
(ج) استثمار أفضل الوسائل والتقنيات التي يمكن من خلالها تحقيق النتائج في أقل وقت، وأفضل تكلفة، وأكثر دقة.
(4) تكامل الاختصاصات: إذ أن القدرات الموجودة والاستعدادات الصادقة للعمل تحتاج إلى تنظيم علمي محكم، ضمن رؤية صادقة واضحة للحاضر والمستقبل، والأهداف والوسائل، وإلا أصبحت طاقات مهدرة وضائعة. ولذلك، فالتخطيط الجماعي ضروري، والإثم والمسئولية كبيران إن تم إهماله أو التقصير فيه.
وتكامل الاختصاصات ضروري، سواء من حيث حقل البحث ومناهجه، أو من حيث الوسائل والتقنيات، أو من حيث الأولويات والأهداف المشتركة. فالعلوم والمعارف متداخلة ومترابطة، وتطور أحدها متأثر بتطور العلوم الأخرى ومؤثر فيها أيضا. ولا نتحدث عن علوم الدين الأخرى فقط، وإنما نتحدث أيضا عن علوم أخرى قد تكون غير دينية غير أنها مرتبطة ومتفاعلة بشكل أو بآخر بعلوم الدين، مثل علوم اللغة، واللسانيات، والقانون، والتاريخ، وعلوم الاجتماع، وعلوم النفس، وعلوم الإدارة، وعلوم الكمبيوتر، والفلسفة... والحقل العلمي يتطور بسرعة وكفاءة عندما تتوفر لأهله القدرات المعرفية والمادية والتقنية على رؤية إنجازات الحقول العلمية الأخرى، واقتباس ما يمكن توظيفه إيجابيا لفائدة الحقل العلمي.
(5) توجيه الاهتمام إلى التفكير العملي المتوازن، ومتعدد الأبعاد: إذ أن الإغراق في التفكير النظري البحت يقود إلى الانفصال عن الحياة والواقع والظروف، في حين أن التفكير العملي متّصل بالحياة والواقع والظروف. والباحثون في الحقل الديني يحتاجون لتحقيق التوازن في ذلك، من خلال التوجه أكثر نحو التفكير العملي (بسبب توجه الغالبية نحو الوجهة الأخرى)، نظرا لأنه هو الذي يلبي الحاجات ويحل المشكلات ويحقق التقدم.
(6) خلق مناخ من الثقة والتنافس وحرية إبداء الرأي في البحث العلمي: وهو شرط من شروط نجاح تطور علوم الدين بشكل سليم.
الهوامش
(*) لمن يريد التعمّق والاطّلاع على تفاصيل البحث يمكنه تحميل البحث كاملا عبر الرابط التالي:
http://www.4shared.com/get/kElbDR73/quranic_encyclopaedia.html