الإفتتاحيّة

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد 45
 تزامن الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان مع وفاة رجل سخّر حياته كلّها من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان من خلال مقاومته للميز العنصري ونضاله من أجل حق العيش الكريم لأبناء جلدته. إنه نيلسون مانديلا الذي استطاع بصبره ونضاله أن ينتصر على أقوى أنظمة الميز العنصري في التاريخ الحديث ويفككه وينهي وجوده بلا رجعة وتمكّن بمبادئه الإنسانية السمحة أن يجعل من جلاّدي الأمس وقتلة أبناء جلدته شركاء في بناء دولة جنوب إفريقيا الجديدة التي لا فرق فيها بين أبيض وأسود. 
كم نحن في حاجة إلى فكر نالسين مانديلا وروحه ونحن نعمل على إنقاذ بلادنا من براثن العودة إلى الاستبداد من جديد. كم نحن في حاجة إلى فهم سياسات مانديلا وتوجّهاته التي نجح بها في إرشاد جنوب إفريقيا إلى الحريّة ونحن نبحث عن طريق لإنجاح انتقالنا الديمقراطي بعد أن أُطرد الطاغية . علينا أن نتساءل فقط كيف استطاع مانديلا أن يسير ببلاده بعيدا عن الفوضى والعنف والانتقام وعمليات التطهير ويجعل أشد أعدائه عنادا وتصلبا يشعرون بارتياح في مرحلة ما بعد الفصل العنصري ويشاركون في بناء البلاد ورقيّها. 
نيلسون مانديلا أو «ماديبا» أو «تاتا» كما يحلو لأبناء جنوب إفريقيا أن ينادوه، قضّى 27 عاما وراء القضبان، لكنّه لم يخرج من السّجن ناقما بل رفع شعار التسامح ونبذ الثأر لأنه كان يعلم جيّدا أن طريق الانتقام لن يُصلِح الواقع المرير الذي كان يعيشه شعبه. غير أنّه كان متيقّنا أن النجاح في تطبيق شعاره الجديد لا يمكن أن يتحقق إلا عبر الكشف عن حقيقة ما حدث في الماضي وتحديد المسؤوليات وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح النظام القانوني والمؤسساتي ومن ثمّة التركيز على تفكيك إرث نظام الفصل العنصري من خلال التصدي للقوانين العنصرية داخل مؤسسات الدولة ومحاربة الفقر وعدم المساواة وتعزيز المصالحة العرقية وقد نجح في تجسيد ذلك عبر تشكيل لجنة «الحقيقة والمصالحة» التي تكفّلت بالتحقيق في الجرائم التي ارتكبت في ظل نظام الفصل العنصري ليس فقط من جانب الحكومة والبيض بل أيضا من جانب حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وبقية تنظيمات السّود. ولنجاح مهام اللّجنة، مُنِح عفو فردي لكل من يدلي بشهادته حول الجرائم التي ارتكبت في حقبة الفصل العنصري. وبذلك  أقام مانديلا جسرا بين إرث بلاده العنصري وبين حاضرها ومستقبلها المتعدد الأعراق واستطاع أن يبتعد بالبلاد عن ماضيها وتركّز على حاضرها وتفكّر في مستقبلها.  
 لقد انبرى عدد غير قليل من المثقفين والسياسيين العرب على أعمدة الصحف والمجلات وعلى موجات الإذاعات وبلاتوهات التلفزة في مدح الرّجل والتذكير بخصاله ونضاله في مجال حقوق الإنسان وإعلان تبنّي أفكاره أمام الملأ والتحسّر على عدم وجود زعيم مثله في عالمنا العربي. لكنهم في حقيقة الأمر أبعد ما يكونون عن «تاتا» وفلسفته  القائمة على التسامح لأن التسامح يفترض اتخاذ موقف إيجابي، فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية وهم لا يمارسون هذا المبدأ في تعاملهم مع خصومهم من بني وطنهم بل يعملون ليلا نهارا على تصفيتهم واستبعادهم والتنكيل بهم بجميع الوسائل يدفعهم إلى ذلك عداء إيديولوجي أو ديني ليس للتسامح مكان فيه. فما أبعد هؤلاء عن النهج «المانديلّي» الذي يعتبر التسامح ركيزته الأساسية. فهذا النهج يؤكد على احترام الآخر والقبول به كشريك كامل الحقوق في الوطن مهما اختلفنا معه في الفكر أو في العقيدة أو في التوجهات السياسية والاقتصادية. وهذا يعني نبذ التفرقة والتعصب وقبول فكرة التعددية وترسيخ ثقافة الديمقراطية والاحتكام إلى القانون. إن التسامح ليس واجباً أخلاقياً فحسب، وإنما هو واجب سياسي أكيد خاصّة في هذه الفترة الحرجة التي تمرّ بها بلادنا وبعض البلدان العربية والإسلامية الأخرى ويكفي أن نذكر بما يحدث في العراق من قلاقل وتصفية حسابات وقتل وتشريد العراقي لأخيه العراقي نتيجة عدم تبنّي العراقيين النهج «المانديلّي» بعد سقوط صدام حسين. وما يحدث اليوم في سوريا وفي مصر من انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان ليس إلا نتيجة لغياب ثقافة التسامح وقبول الآخر. علينا أن نعي الدرس جيداً، وأن نتعلم كيف نُسامح ونتسامح، وأن لا ننساق وراء رغبتنا الفطرية نحو الانتقام.
إن الطريق نحو مجتمع متطور يعيش فيه مواطنوه في أمن واستقرار لا يمرّ إلا عبر ترسيخ فلسفة «التسامح» في أنفسنا قبل كلّ شيء وفي علاقاتنا مع غيرنا الذي يقاسمنا الأرض والمصير وفي جميع جوانب الحياة اليومية وفي مختلف المجالات والأطر. ونحن نودّع مانديلا، علينا أن نتذكر جيّدا أن هذا الزعيم الفذّ لم يسلك طريقا مفروشة بالورود فقد جابهته صعوبات كثيرة وصدّ قويّ من عديد القوى بعضها قريبة منه لم تؤمن بنهجه في الإصلاح لكنّه صمد وواصل نضاله إلى أن كسب الرهان . لابدّ لنا أن نعي جيّدا أن النهج «المانديلي» غاية في الصّعوبة لأنه عكس طبيعتنا البشريّة، ولكن بمقدورنا اعتماده إذا ما آمنّا بفاعليته وقدرته على التغيير... فهل نحن فاعلون؟