بهدوء

بقلم
د.جميل حمداوي
المقاربة الثقافية أساس التنمية البشرية المستدامة
 المقدمـة
من المعلوم، أن الحضارة (Civilisation) لها شقّان: شقّ مادّي يتمثّل في التكنولوجيا والعمارة والتقنيات، وشقّ معنوي يتمثل في الثقافة بتجلياتها الإبداعية والأدبيّة والفنّية والنقديّة. ومن ثمّ، تعدّ الثقافة من أهم العوامل الأساسية التي تحقّق التنمية المستدامة أو التنمية المحلية. فلم تعد التنمية الاقتصادية هي التنمية الوحيدة التي تشبع رغبات الإنسان، وتسعده ماديا وعضويا، بل الإنسان في حاجة إلى إشباع رغبات أخرى أكثر أهمية من تلك الرغبات المادية والغريزية ، مثل: الرغبات العقلية، والرغبات الأدبية والفنية، والرغبات الروحانيّة والنفسيّة. وهذا ما توفّره الثقافة للإنسان، باعتبارها ثقافة لامادّية قائمة على الإبداع والفنّ والدّين والفكر والفلسفة والعادات والتقاليد والطقوس والأعراف. ويعني هذا أن الثقافة هي كل الإنتاجات المعنوية  التي تساهم في تنمية الإنسان عقليا وذهنيا ووجدانيا ومهاريا. وبالتالي، فهي أس التنمية البشرية المستدامة إلى جانب الأبعاد الأخرى، مثل: البعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، والبعد البيئي.
إذاً، ما الثقافة؟ وما التنمية؟ وما علاقة الثقافة بالتنمية البشرية المستدامة؟ وما مجمل الآليات الإجرائية لتحقيق التنمية الثقافية؟ تلكم هي أهم الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في موضوعنا هذا.
(1) مفهوم الثقافة :
من المعروف أن الحضارة (Civilisation) هي نتاج بشري مرتبط بالجهد الإنساني، والعمل الدؤوب، والزمن التاريخي. وتنقسم إلى شقّين: الشّق المادّي الذي يتمثل في التكنولوجيا(Technologie)، وهي كل ما أنتجه الإنسان ماديا وعمرانيا وتقنيا وآليا لإسعاد البشرية.أما الشّق الثاني من الحضارة، فيتمثل فيما هو معنوي وروحي وقيمي، وهو الثقافة (Culture). ويقصد بها كل ما أنتجه الإنسان من فكر وإبداع وفنّ ودين وعادات وتقاليد وأعراف وطقوس، وما خلّفه من تراث وآثار مادية ومعنوية ومنقولة وعالمية ... 
وعليه، فالثقافة هي كل ما يتعلق بالعلوم والفنون والآداب والمعتقدات والصناعات التقنية والأديان. وبتعبير آخر ، الثقافة هي هذه «المجموعة المعقدة التي تشمل المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكل القابليات والتطبيقات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع ما» (1)  . 
ويعني هذا أن الثقافة تشمل المعطيات الفكرية والعاطفية والمادية. وقد عرفها أنور عبد الملك بأنها «كل ما يصوّر تجارب الإنسان شعرا، ونثرا، ولونا، ونغمة، وشكلا، وصورة. كل تعبير- أيا كان شكله، ونمطه، وهدفه، وأصالته، ونوعيته. كل ما من شأنه أن يخرج أحوال الناس من برجها الذاتي إلى ساحة الإدراك...والتذوق والفاعلية» (2). 
 وإذا كانت الشعوب البدائيّة تعرف بالاحتكام إلى الطبيعة وسننها وقوى الأسطورة أو الميتوس، فإن الشعوب المتحضرة تحتكم إلى الثقافة واللوغوس. أما كلمة المثاقفة ( Acculturation)،  فهي عملية انصهار الحضارات، وتبادل المعارف والثقافات بين الشعوب، من خلال الاحتكاك الثقافي، والترجمة، والاطلاع على أراء الآخرين. كما أن المثقف هو الشخص الذي يمارس العمل الذهني والتفكير، وينتج الآداب والعلوم والفنون، و يخترع التكنولوجيا. ويعرف المثقف بأنه ذلك الشخص الذي ينتج كل الدوال اللفظية والبصرية، من شعراء، وناثرين، وكتاب، وموسيقيين، وفلاسفة، وتشكيليين، وسينمائيين، ومسرحيين... وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تعدد فروع الثقافة، وكثرة أقطابها ومسالكها، وتعدد مزاوليها من البشر. 
ويمكن أن نميز مع أنور عبد الملك بين المثقفين ( بفتح القاف) والمثقفين(بكسر القاف).  فالفئة الأولى من المثقفين هم المتعلمون العاديون الذي يشتغلون بكل ماهو ذهني، ابتداء من المربي والقارئ العادي إلى المرؤوس والمنفذ. أي: كل من يعرف القراءة والكتابة؛ لكن غير قادر على قيادة المجتمع، وتنويره ثقافيا؛ بسبب عجز هذا المثقف عن الإبداع والإنتاج الفكري. أما الفئة الثانية، فالمقصود بها «الذين يشتغلون في أعمال تسعى لنشر الثقافة بين الجماهير الواسعة من الناس..أو إلى تكوين فئة المثقفين العاديين» (3)
 هذا، وتتمثل منابع الثقافة عند المثقف المتنور في المصدر الطبيعي، من خلال استغلال الطبيعة واستثمارها، والصّراع معها جدليا للتحكم فيها مخافة من رعبها، واتقاء كوارثها الخطيرة التي تهدّد حياة الإنسان وبقاءه. و لا يقتصر هذا الصّراع على ما هو طبيعي فقط، بل يتعداه إلى الصّراع الدّاخلي، والصّراع مع الأفراد من بني مجتمعه، والصّراع مع مقابله الجنسي الذي يتمثل في المرأة، ناهيك عن الصّراع الاجتماعي والصّراع الطبقي (4). والهدف من الثقافة هو تحقيق المتعة الوجدانية والمنفعة المادّية. أي: يعبّر المثقف عن نقص شعوري ولاشعوري. ويعبر أيضا عن حرمان على مستوى تحقيق الرغبات والنزوات والإشباع المادي. ومن ثم، فالثقافة تعويض عن النقص والحرمان والكبت. وتستلزم الثقافة، إلى جانب المتعة والمنفعة، ثنائيات أخرى كاللّعب والعمل، والشكل والمضمون، والعقل والعاطفة. ويقول بوعلي ياسين: «إن المثقف الأديب أو الفنان لايقدم مضمونا أو شكلا، بل يقدم نفعا و/أو إمتاعا. ولايمكن أن يكون هناك عمل فنّي دون مضمون تثقيفي أو إمتاعي. إنما الخلاف على الأولوية بين المضمون والشكل. لولا وجود الصّراع الطبقي، أي لو لم يكن الاستغلال والاضطهاد من مكونات مجتمعنا، لما اختلفنا مع أحد حول أن الشّكل هو المقياس الوحيد في النّقد الفنّي أو الأدبي، والأصحّ أن نقول: لولا الصّراع الطبقي، لما كان ثمّة فرق بين المضمون والشكل، ولكانت مقاييس الجمال في جوهرها واحدة في تقييم الأعمال الفنّية لدى كل مجتمع أو لدى كل جماعة بشريّة في مرحلة زمنيّة معيّنة»(5). 
ويختلف المثقف الاحترافي الفردي المتخصص أو الموسوعي عن المثقف الشعبي الذي يبدو فاعلا جماعيا، يعتمد على الذاكرة الجماعية، و يحمل في جعبته هموم الطبقة الكادحة، ويعبر عنها بطريقة عفوية ساذجة، أو ثورية، أو يذعن في تعبيره  لسلطة الفئة الحاكمة خوفا وتذللا وتزلفا . ومن سمات هذه الثقافة الرواية الجماعية، والذاكرة، والعراقة، والواقعية، والشفوية، وعدم التدوين.
(2)  مفهوم التنمية:
تتجمع دلالات التنمية اللغوية  في الزيادة والوفرة والتكثير والنماء. أما اصطلاحا، فتعني التنمية تحقيق أحسن الظروف الإنسانية  للفرد  داخل المجتمع. ومن يتأمّل دلالات مصطلح التنمية (Développement)، فسيلاحظ أنه مفهوم اقتصادي محض، قبل أن يكون مفهوما سياسيا أو اجتماعيا أو فكريا أو ثقافيا. ومن ثمّ، فمن الصّعب تعريف التنمية تعريفا دقيقا؛ نظرا لتعدّد مفاهيمه، واختلاف دلالاته من دارس إلى آخر ، حسب قناعاته وتوجهاته السياسية والاقتصادية والفكرية. علاوة على ذلك، «يشكل مفهوم التنمية ما يسمى بالسّهل الممتنع أمام الباحثين والمهتمين بقضايا التنمية، حيث تتعدد التعريفات بتعدد الاتجاهات والرؤى النظرية. وقد اختلف المفكرون الاجتماعيون أنفسهم حول تحديد مفهوم التنمية، وصعب عليهم الاتفاق على تعريف شامل لها. وعلى الرغم من أهمية ما طرح من تعريفات؛ إلا أنها لم تحل غموض المفهوم. ومن هنا، كانت أهمية التفكير في مفهوم التنمية بالصورة التي تمكّننا من حصر دلالاته، لنتمكن من إدراك جيد لما تطلق عليه التنمية، يمكن في ضوئها وضع إستراتيجية تنموية لها صلاحية الاستمرارية، والتعبير عن احتياجات مجتمعنا العربي في إطار المتغيرات الدولية، وتجاوز مخلفات الاستعمار، واستبدالها بمعطيات جديدة». (6)
هذا، وقد اقترنت التنمية، في العقود الأولى من القرن العشرين، بطرد المستعمر من البلدان العربية، وتحقيق الاستقلال والسيادة. وبعد الاستقلال، أصبحت التنمية هي تحقيق الاكتفاء الذاتي اقتصاديّا، وتنظيم الإدارة، والاهتمام بالتّعليم، وتشييد لبنات الإعلام، والقضاء على الأمّية والأمراض والأوبئة، وإرساء دواليب الثقافة الاجتماعية. علاوة على ذلك، أصبحت التنمية مرتبطة بتطوير التعليم، وتأهيل البحث العلمي، والحصول على المعلومات والتكنولوجيا المعاصرة، وتطوير الاقتصاد ضمن التصورات الاشتراكية أو الرأسمالية. ومنذ سنوات التسعين من القرن العشرين، ارتبطت التنمية بالعولمة من جهة، وبالثورة الرقمية والتكنولوجية  من جهة أخرى. وأصبح التنافس العلمي والتقني سيد الموقف، وأساس التنمية المستدامة ، والدعامة الأساسية لتحريك الاقتصاد. بل أصبحت التنمية تمتاز بخاصيات التوازن والشمولية والدوام، من خلال الجمع بين الجوانب المادية والجوانب الثقافية.
وعليه، فالتنمية هي آلية التطور والتقدم والازدهار، وتتخذ مستويات عدة، وتتجلى سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا. ومن ثم، تهدف التنمية إلى الرفع من المستوى المعيشي للإنسان ماديا ومعنويا وروحيا، بتوفير التعليم اللائق، والصحة الضرورية، والدخل المناسب، وإيجاد العمل الذي يتلاءم وقدرات ذلك الإنسان، ويتناسب مع كفاءاته المعرفية والمهارية، مع مراعاة حقوقه الطبيعية والمكتسبة. و«تمثل التنمية حركة النسق الاجتماعي، بما يحتويه من عوامل اقتصادية وغير اقتصادية بشكل واسع، إلى أعلى أو إلى أحسن، في إطار من العلاقات السببية الدائرية بين مختلف المتغيرات المخططة الداخلة في عملية التنمية. وكأن التنمية بذلك تعني عملية التغيير المقصود، والجهود المنظمة التي تبذل وفق تخطيط مرسوم، بقصد تحقيق مستويات أعلى للدّخل ومستويات أفضل للمعيشة.ومن ثمّة، تكون التنمية بمثابة إرادة مجتمعية تأخذ بالمجتمع في حالة التخلف إلى حالة من التحول التنموي على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فالتنمية عملية متعددة الأغراض والجوانب، وتتضمّن تغييرات في البناء والقدرة الناتجة عن تعبئة الموارد والإمكانات المتاحة» (7).
ومن هنا، فقد ركز تقرير التنمية البشرية لهيئة الأمم المتحدة على ثلاثة مؤشرات للتنمية البشرية، وحصرتها في: العيش حياة طويلة وصحّيّة، والحصول على المعرفة، وتوفر الموارد اللازمة لمستوى معيشي لائق. ولا تقف التنمية عند هذه الحدود الثلاثة، بل تضيف امتيازات أخرى، مثل: الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتوافر فرص للإنتاج والإبداع، والاستمتاع باحترام الذات، وضمان حقوق الإنسان. ويعني هذا أن التنمية الحقيقية هي التي تحقق الحرية والعدالة والكرامة للإنسان في مجتمع ديمقراطي مبدع.
هذا، ولا يمكن تحقيق التنمية من خلال تطبيق وصفات تنموية جاهزة، أو الأخذ بمدإ المقايسة أو المماثلة والمشابهة بتقليد نماذج تنموية معينة، حققت، بشكل من الأشكال، نوعا من التقدم والازدهار. فلكل مجتمع خصوصياته الثقافية، وموارده الاقتصادية الخاصة به. كما تتشابك، في التنمية، المعطيات المادية والمعنوية، وتتداخل فيها العوامل الاقتصادية والدينية. لذا، ينبغي مراعاة مجموعة من الخصائص التي يمتاز بها مجتمع معين ، وتقديرها إستراتيجيا أثناء الأخذ بسبل التنمية، والعمل بآلياتها التنفيذية، فلا يمكن استيراد نظريات تنموية جاهزة، بغية تطبيقها بشكل آلي على مجتمعات مختلفة، تتنافى خصوصياتها الحضارية والثقافية مع مبادئ تلك النظريات والتصورات جملة وتفصيلا. والمقصود بكلامنا أنه لابد من الإحاطة « بالمستوى والبعد التاريخي الذي يتجه المفهوم نحو التعبير عنه، حيث تختلف عملية التنمية من مجتمع لآخر، بل من فترة تاريخية إلى أخرى داخل المجتمع الواحد. 
ويعني ذلك أنه ليس هناك نموذج للتنمية معد سلفا في جملته وتفاصيله، وليس هناك وصفات معينة لعلاج التخلف، بل إن الثابت الآن هو تعدّد المداخل التي يمكن الاعتماد عليها لتحقيق التنمية. والاختيار ليس قاصرا، كما يذهب أنصار بعض النظريات التنموية، على نماذج تنموية ثبتت صلاحيتها ونجاحها في ظروف تاريخية، أو محكوما بعوامل إيديولوجية معينة.ويكشف تحليل تجارب التنمية المختلفة، أن هذه التجارب في جملتها محصلة ظروف تاريخية موضوعية محددة خاصة بكل مجتمع، ويصعب أن تكرر هذه الظروف. ويعني ذلك أن النماذج التنموية لا تتمتع بالقدسية. وعلى الدول النامية، ومنها الدول العربية، أن تبني نموذجا خاصا بها يعكس الظروف التاريخية والموضوعية الخاصة بهذه الدول، ويعمل على تحقيق تنمية حقيقية تقوم على الاعتماد على الذات، وتسعى إلى المحافظة على الهوية الذاتية». (8) 
هذا عن مفهوم التنمية، أما المقصود بالتنمية البشريّة المستدامة، فهي تلك السّياسة التنمويّة الشاملة المستمرة والدّائمة المبنيّة على التخطيط المستقبلي، والتدبير الناجع ، والمراقبة التقويميّة التصحيحية الفعالة. وبالتالي، تراعي التنمية المستدامة أربعة عناصر أساسية لها علاقة بتنمية الفرد أو الإنسان أو المجتمع البشري هي: البعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، والبعد البيئي، والبعد الثقافي. ولابد أن تتكامل هذه الأبعاد الأربعة جميعها بطريقة جدليّة تفاعليّة متكاملة، فلا تنمية حقيقية بدون هذه الأبعاد الأربعة؛ لأنّ الدّول المتقدّمة التي لها تجارب كبرى في التقدم والتنمية والحداثة، مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، واليابان، قد أخذت بهذه العناصر الأربعة، وركزت على المعطى الثقافي كثيرا في تطوير الذات الفردية، وتعديل سلوكها، وتغيير تصرفاتها، وتطوير قدراتها المعرفية والذكائية والوجدانية، وصقل مواهب الأفراد عقليا ووجدانيا وحركيا، وتنميتها فنيا وجماليا وروحيا ودينيا وثقافيا وعلميا. ومن ثم، فالبعد الثقافي حاضر في التنمية المستدامة بشكل لافت للانتباه؛ لأنه أساس رقي التعليم، وركيزة التطور والتقدم وتحقيق النهضة الشاملة، وقاطرة المجتمع، ودعامة للرقي الاجتماعي والمادي ، وآلية إجرائية للقضاء على الفقر والجوع والبطالة والتخلف. وفي هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي اللبناني جورج قرم: «التنمية البشرية المستدامة نظرية في التنمية الاقتصادية-الاجتماعية، لا الاقتصادية فحسب، تجعل الإنسان منطلقها وغايتها، وتعالج الأبعاد البشرية أو الاجتماعية في التنمية باعتبارها العنصر المسيطر، وتنظر إلى الطاقات المادية باعتبارها شرطا من شروط تحقيق هذه التنمية، دون أن تهمل أهميتها التي لاتنكر.
إن هدف التنمية البشرية المستدامة ليس مجرد زيادة الإنتاج، بل هو تمكين الناس من توسيع نطاق خياراتهم ليعيشوا حياة أطول وأفضل، وليتجنبوا الأمراض، وليملكوا المفاتيح لمخزون العالم من المعرفة إلى آخر ما هنالك.وهكذا، تصبح التنمية عملية تطوير القدرات لا عملية تعظيم المنفعة أو الرفاهية الاقتصادية كما ينظر إليها اليوم. فالأساس في التنمية البشرية المستدامة ليس الرفاهية المادية فحسب، بل الارتفاع بالمستوى الثقافي للناس بما يسمح لهم أن يعيشوا حياة أكثر امتلاء، ويمارسوا مواهبهم، ويرتقوا بقدراتهم. ويتّضح هنا مثلا أن التعليم والثقافة يحققان فوائد معنوية واجتماعية، تتجاوز بكثير فوائدهما الإنتاجية، من احترام الذات إلى القدرة على الاتصال بالآخرين على الارتقاء بالذوق الاستهلاكي» (9).
وعليه، تنبني التنمية المستدامة على أربعة عناصر مهمة هي: الإنتاجية الإبداعية في مختلف الميادين والمجالات المادية والمعنوية والروحية، وتطبيق حقوق الإنسان، سيّما المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، دون تمييز لوني أو ثقافي أو لغوي أو ديني أو عرقي، وتمثل سياسة الاستدامة بأن تكون التنمية غير مقتصرة على الحاضر، بل تمتدّ إلى المستقبل عبر خطط إستراتيجيّة قريبة أو متوسطة أو بعيدة، من خلال التفكير في أجيال المستقبل، وإعداد  تدبير ناجع مستقبلي، يعتمد على الاكتفاء الذاتي، والتصنيع المحلي، والتنوّع الثّقافي، والاهتمام بالتنمية الاقتصادية الشاملة، والابتعاد عن الاستدانة الربوية، والتبعية المنتروبولية، واقتصاد الرّيع، والاستهلاك غير المنتج، وتخريب البيئة وتلويثها. علاوة على تمكين الأفراد والمجتمع المدني من المساهمة الفاعلة في التنمية البشرية المستدامة عن طريق المشاركة والمساهمة الفعلية.
وهكذا، فالغنى أو الثراء «ليس شرطا لتحقيق الكثير من الأهداف المهمة للأفراد والمجتمعات مثل الديمقراطية أو المساواة بين الجنسين أو تطوير التراث الثقافي والمحافظة عليه. والثروة لا تضمن الاستقرار الاجتماعي أو التماسك السياسي. هذا فضلا عن أن حاجات الإنسان ليست كلها مادّية. فالحياة المديدة الآمنة ، وتذوق العلم والثقافة، وتوفر الفرص لممارسة النشاطات الخلاقة ، وحق المشاركة في تقرير الشؤون العامة، وحق التعبير، والحفاظ على البيئة من أجل الأجيال الحالية والمقبلة، مجرد بعض الأمثلة على حاجات وحقوق غير مادية قد يعتبرها المرء أهم من المزيد من الإنتاج المادي. بالمقابل، فإن التلوث البيئي وارتفاع معدلات الجريمة أو العنف المنزلي أو الأمراض المعدية كالأيدز في الكثير من البلدان لايعقل أن  يعوض عنها المزيد من ارتفاع متوسط الدخل الفردي!» (10)   
وعلى العموم، لا تقتصر التنمية البشرية المستدامة على تحقيق الإنتاجية المادية، أو تغيير المجتمع فحسب، بل التنمية المستدامة هي التي تعنى بالإنسان عقلا وجسدا وقلبا ومعتقدا وثقافة وبيئة. بمعنى أن المقاربة الثقافية هي الأساس في كل تنمية بشرية لتغيير المجتمع على جميع الأصعدة والمستويات، وتحقيق تنمية إنتاجية حقيقية ماديا ومعنويا، وتمكينها داخل المجتمع عن طريق إشراك جميع الفاعلين في اقتراح آليات التنمية الحقيقية. وفي هذا الصدد، يقول جورج قرم: «تدور التنمية البشرية المستدامة حول تطوير المقدرة البشرية بسياسات وبرامج اقتصادية واجتماعية ودولية تعزز قدرة الإنسان على تحقيق ذاته.ويرتبط مفهوم التنمية في هذا السياق بتنمية الإنسان من حيث هو هدف ووسيلة، أو بتنمية قدرات الإنسان على سد حاجاته المادية والمعنوية والاجتماعية. وإذ تتركز إستراتيجيات تحقيق التنمية البشرية على إحداث تغييرات في البيئة القانونية والمؤسسية التي يعيش في كنفها البشر، يبقى الأساس في ذلك دائما توسيع خيارات الإنسان. وبذلك، يتّسع فضاء حريته، وهو ما يتضمّن البعد الاقتصادي للتنمية دون أن يقتصر عليها.
والخلاصة أن التنمية البشرية المستدامة توسيع لقدرة الإنسان على بلوغ أقصى ما يمكن بلوغه من حيث هو فرد أو مجتمع ذو أفراد كثيرة، وذلك بزيادة إمكانياته التي ليست القدرات الاقتصادية إلا مجرد جانب منها. ومن هنا، لابدّ أن تكون السّياسات التنمويّة بالضّرورة متعدّدة الآفاق، لا اقتصاديّة فحسب». (11) 
ويتبيّن لنا ، مما سبق قوله،  بأن التنمية البشريّة المستدامة هي تنمية شاملة ومتوازنة وكلية وطويلة الأمد، لا يمكن تحقيقها أو التمكن منها إلا بالتخطيط ، والتدبير، والعمل، والمراقبة، والتقويم، والتتبع، وإعطاء الأهمية الكبرى للإنسان أو الفرد، مع تحسين أوضاعه المادية والمعنوية والثقافية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
الهوامش
(1) - د. الطاهر لبيب: سوسيولوجيا الثقافة، عيون المقالات، الدار البيضاء، المغرب،الطبعة الثانية سنة 1986، ص:10.
(2)- أنور عبد الملك: دراسات في الثقافة الوطنية، دار الطليعة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1967، ص:7.
(3)-- أنور عبد الملك: دراسات في الثقافة الوطنية، ص:201.
(4)- د. بوعلي ياسين: ينابيع الثقافة ودورها في الصراع الاجتماعي، الناشر الملتقى، المطبعة infoedition ، الطبعة الثانية المغرب، سنة 2006، صص:6-27.
(5) - د. بوعلي ياسين: ينابيع الثقافة ودورها في الصراع الاجتماعي، ص:26-27.
(6) - خلاف خلف خلاف: (التنمية في عالم يفتقر على المساواة)، مجلة الفيصل، السعودية، العدد: 166، نونبر1990م، ص:6.
(7) - خلاف خلف خلاف: (التنمية في عالم يفتقر على المساواة)، ص:6.
(8) - خلاف خلف خلاف: نفسه، ص:6.
(9) - جورج قرم: التنمية البشرية المستدامة والاقتصاد الكلي، سلسلة دراسات التنمية البشرية، العدد 6، بيروت، لبنان، 1997م، ص:35 وما بعدها.
(10) - جورج قرم: التنمية البشرية المستدامة والاقتصاد الكلي، ص:35 وما بعدها.
(11) - جورج قرم: نفسه، ص:35 وما بعدها.