وجهة نظر

بقلم
توفيق الشّابي
الإسلاميون التقدميون: من أجل إحياء الذاكرة
 قبل الثورة لم نكن نسمع إلا صوتا واحدا، هو الصوت الرّسمي الذي يملأ المشهد، يصوغ الرّواية ويكتب التّاريخ في اتّجاه واحـد. الآن أصبح المجال مفتوحا لمن أثّثوا المشهد سابقا ليقولوا أنّنا كنّا هنا وكنّا جزءا هامّا وأساسيّا من المشهد السّياسي والثّقافي وساهمنا بشكل أو بآخر في صياغة الحاضر ونحتــه رغم كـــل المعوقات والأشــواك التي ملأت الطريق. 
لفت انتباهي في معرض الكتاب لهذه السّنة وجود جمعية تعمل على استعادة ميراث وذاكرة تجربة الحركة اليساريّة «آفاق» وقد عرضتْ في أحد أجنحته جزءا من نشريّات وبيانات وكتب نُشِرَتْ ووُزّعت نهاية الستّينات، وكانت سببا لعذابات الكثيرين وعبرت عن طموح جيل وتوجه معين له رؤيته وتصوّره الخاص لمستقبل تونس. بالتأكيد، هذا صوت من الأصوات ملأ السّاحة في مرحلة معيّنة وحرّك مياه راكدة في ذلك الوقت وله الحقّ والواجب في أن يقدّم نفسه للأجيال الجديدة وسكّان الحاضر للتّأكيد على تنوّع المشهد وحيويّته في تلك المرحلة. 
في نفس الفترة كنت أقرأ كتاب الاستاذ صلاح الدين الجورشي «الإسلاميون التقدميّون – التفكيك وإعادة التّـأسيـــس» الذي أعــــاد إلى ذهني هذه التجربــــة –التي تابعتها وأنا تلميـــذ- والتي كانت، في تقديري، من أبرز الحركات الفكريّة والثّقافية التي رفدت عشريّة الثمانينات في تونس وهي الحركـــــة الوحيـــــدة التي قدمت الثّقافــي على السياسي وقدّمت نفسها أساسا كورشة للتفكير وطرح الأسئلة وقراءة التّراث بعين أخرى بعيدة عن التقديس من جهــة والتحقيـــر من الجهة الاخرى. لهذه التجربة رصيد كبير ومهم سواء برموزها التاريخية أو بالمنابر التي فتحتها وخاصة مجلتها المميزة 15-21 وغيرها من النشريات. هذه المجلةّ التي مثّلت منبرا نوعيّا لطرح الأسئلة والأفكار ومناقشتها وخاصة في الموضوعات المتعلقة بالفكر الإسلامي وقضايا العقل والنّص وعلاقة الدّيني بالسّياسي وغيرها من الإشكاليات. بالتأكيد أن كل ذلك لم يمرّ بدون تأثيـــر، بل يبدو تأثيرها واضحا الآن من خلال آراء وأفكار من كان على يمين التجربة. لقد ساهمت هذه الحركة في تعديل الكثير وخاصة لدى أبناء التيار الإسلامي، كما أنها أعادت إلى الواجهة القراءات التنويرية للإسلام ولموضوع الدّين في الأوساط الفكرية حتى العلمانيّة لتجعل منه موضوعا للعديد من الكتب والدراسات والنشريات التي كتبها اسلاميون وعلمانيون برؤى مختلفة ومتنوعة.
أمام ثراء هذه التجربة ونوعيتها فإني أعتقد أن أبناءها مدعوون اليوم إلى استعادة ذاكرتها وبصوت عال لتقدم مساهمتها في الحراك الفكري والسياسي في تلك المرحلة. هذا التقديم سيكون فرصةًّ لإنارة الرأي العام عن سنوات من تاريخ تونس ومساهمةً في إعادة صياغة التاريخ بالقول أيضا أن هذه التجربة قدمت الكثير وساهمت في دفع الكثيرين للتساؤل والمراجعة وتطوير الأفكار والتصورات. إن تقديم هذه التجربة يعني تقديم إرثها من كتب ومجلات ونشريات للأجيال الجديدة ليكون إرثا مشتركا بين التونسيين ومتاحا لهم دون عوائق. 
لا أعرف إن كانت مؤسسة التميمي قد اهتمت بهذه التجربة أم لا. أعتقد أن ذلك ضروري نظرا لنوعية التجربة وفرادتها في المشهد الفكري التونسي. كذلك حتى لا تكون إعادة كتابة التّاريخ  منحسرة في الجانب السياسي بل التاريخ الفكري والثقافي معني أيضا باعادة الكتابة. كما يقول الأستاذ الجورشي في كتابه المذكور آنفا: «إن إعادة بناء المنظومة الفكرية لا تزال مهمة قائمة وضرورة» لذلك تبدو استعادة ذاكرة تجربة الإسلاميين التقدميين مهمة لأنها في الجزء الأهم منها إحياء لأسئلة أساسية غمرتها الإهتمامات السياسية المبالغ فيها.