الافتتاحية

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد التاسع

 بسم الله الذي خلقنا من نفس واحدة وجعلنا مختلفين ، نتعارف ونتدافع من أجل تعمير الأرض والصلاة والسلام على محمد شفيعنا يوم العرض... 

لقد عمل الاستبداد طيلة سيطرته على البلاد على تدمير ثقافة الشعب وتحويله إلى قطيع يساق بالعصا والرصاص. وبث ثقافة الاستبداد وغرسها في العقول منذ الصغر عبر جميع الوسائل المتاحة ولم يترك مجالا من مجالات الحياة الاجتماعية إلاّ وصبغها بهذه الثقافة فافسد بذلك صفاء النفوس وعطّل اداء العقول وشوش اجهزة السمع والبصر فأصبح الناس أبعد ما يكون في تعاملهم فيما بينهم عن ”ثقافة الحوار“ وغدو يعيشون في حالة من الفوضى والتناحر والضعف والتبعيّة للمستبد.

إن أحد الثمرات المرة للاستبداد الذي حكم شعبنا، غياب ثقافة الحوار التي تقوم على الاحترام المتبادل بين المتحاورين وتقود بالتالي الى إيجاد أرضية مشتركة للعيش والتعاون من أجل تصحيح المسار وبناء ما نطمح اليه من دولة مدنية تقوم على اساس المواطنة. ويتجلّى غياب هذه الثقافة في ما نراه اليوم من محاولات فرض كل طرف لرأيه على الآخر . فمنهم من يحاول فرض موقفه بحجة ”الشرعية الانتخابية“ وآخر بحجة ”الشرعية الدينيّة“ وثالث بحجّة ”حداثته وفكره التنويري“ وهو ما نراه بالعين المجردة على شاشات التلفاز وفي المجلس التأسيسي وفي الطريق العام وفي المساجد والصحف والإذاعات وصفحات التواصل الاجتماعي... ويعتمد الجميع تقريبا نفس السلاح المتمثل في التشويش ومحاولة طمس الحقائق وتحريف الكلم عن مواضعه  ورفع الاصوات بكافة انواع اللغو حتى تضيع الحقيقة ، وتخويف الناس من خطورة الاستماع الى الرأي الآخر بتعلّة عدائه للثورة أو معاداته للدين مستعملين ، بدون خجل،عبارات الاستخفاف والتهكم على الآخرين.

ولقد غدت وسائل التواصل والإعلام لدينا أداة لشنّ الحروب على ”الاعداء“ والتفنن في محاولة عزلهم و التنكيل بهم وكأنهم لا ينتمون إلى هذا الوطن حتّى أن العاقل منّا لم يعد قادرا على متابعة حوارات نواب الشعب في المجلس التأسيسي ومجموعات المثقفين في منابر الحوار على شاشات التلفاز وموجات الإذاعة.

ويبدو أن غياب ثقافة الحوار وتردي الالتزام بها في مجتمعنا ، ليس وليد اللحظة بل هو نتيجة حقبة زمنية طويلة من تحكم ثقافة الاستبداد و نتيجة للتفاعل بين خطط المستبدين في نشر التفرقة بين مكونات المجتمع للسيطرة عليه و التربية الاجتماعية والدينية التي ورثها المجتمع طيلة قرون عديدة والتي انعكست على التربية الأسرية داخل البيت فالمدرسة والمجتمع . وما التناحر السياسي الحزبي و الصراعات الجهوية والعروشية والدينية وتردي لغة الحوار إلا تعبيرة من تعبيرات الغاء ثقافة الحوار .

ولقد انتشرت ظاهرة غياب ثقافة الحوار بين أوساط العمل السياسي والاجتماعي والديني في تونس ما بعد الثورة ، حتى غدت ظاهرة سلبية من ظواهر المجتمع و باتت عملية إلغاء الآخر ومحاربته ، واللجوء الى أساليب التهميش وهتك الاعراض أهم الوسائل المعتمدة في التعامل بين مكونات المجتمع . والغريب في الامر أن الجميع يستنكر هذه الاساليب ويشجبها ويدّعي التزامه بالحوار واحترام أفكار الآخرين والأخذ بمبدأ الرأي والرأي الآخر وهذا وجه آخر من وجوه ثقافة الاستبداد حيث نقول ما لا نفعل ونبطن ما لا نعلن.   

إن ثقافة الحوار هي نقيض ثقافة الاستبداد وهي الركيزة الاساسية لأي مشروع مجتمعي ديمقراطي وهي لازمة لإشاعة الجو الديمقراطي بين المواطنين وبدونها تتاح الفرصة للاستبداد وأعداء الثورة للعودة من جديد من خلال النافذة الثقافية بوجوه غير الوجوه التي نعرفها وبلون مختلف عن الالوان السابقة .

وفي الأنظمة الديمقراطية يتحمّل الحزب الحاكم أو من يمثل الأغلبية مسؤولية حماية "ثقافة الحوار" وإشاعتها بين الناس، ذلك أنه إذا أنكر على الآخرين رأيهم ولم يسمع إلاّ صوته، فإن النظام الديمقراطي يصبح مهددا ولن تفيده الشعارات ولا النصوص القانونية .

إننا من خلال منبر مجلة ”الاصلاح“ نعمل وندعو إلى ترسيخ ”ثقافة الحوار“ بين مختلف مكوّنات المجتمع. ثقافة تبدأ بالإعتراف بوجود الآخر وحقّه في امتلاك رأي مخالف يعبّر عنه بكل حرية وإقرار الجميع بأنه لا وجود لحقيقة مطلقة  يمتلكها طرف دون آخر. كما ندعو بإلحاح شديد تضمين ذلك في الدستور الجديد من خلال التأكيد على حرية التعبير وعد تقييدها بشروط غير التي يتفق عليها الجميع . ولا يمكن تحقيق ذلك ، ونحن نعلم أن الاستبداد فعل فعلته فينا، إلاّ إذا وضعنا نصب أعيننا مصلحة البلاد والعباد قبل مصالحنا الفئوية الضيقة وانطلقنا في حوارنا ضمن المشتركات وهي كثيرة وصبرنا وتحملنا بعضنا البعض حتى تتسع دائرة المشتركات وتبدأ الخلافات في التناقص وهكذا سنكون قد وضعنا قطار التحول الديمقراطي على السكة الصحيحة وانطلقنا في بناء تونس الجديدة تونس الحرية والمواطنة والعدالة.