خاطرة

بقلم
محمد بن جماعة
الموت الكامن في الزمن
 في صبيحة أول أيام جوان 2009، لاحظ صديقي «يحي عبد الرحمن» (أو «شاون سميث») _وهو كندي كان رجل دين (قسّيسا) وأسلم منذ بضع سنوات_ وجودي على الخط (online) من خلال بريدي الإلكتروني، فسارع بالكتابة مستفسرا إن كنت عدت سالما من سفري.
كان يعلم أنّني سافرت إلى السعودية للمشاركة في مؤتمر أكاديمي حول «الأمن الفكري»، ثم لزيارة الأهل، وأنّني حجزت الذّهاب والإيّاب على الخطوط الفرنسية. وكان أيضا على علم بموعد عودتي أول أمس. إلاّ أن قراءته لأخبار اليوم عن فقدان طائرة «ايرباص» فرنسية بين البرازيل وفرنسا، جعلت ذهنه يربط مباشرة بين هذا الحادث الجديد والمريع، والذي يبدو أنه أودى بحياة أكثر من مائتي راكب، وبين سفري القريب على متن نفس الخطوط الجوية..
ليست هذه المرة الأولى التي أسمع فيها عن حوادث سقوط الطائرات. غير أن قرب الحادثة من سفري، ووقوعها في خطّين متقاربين، وعلى نفس الشركة جعلني أطيل التفكير في الخبر.
يبدو أننا لا نشعر بالموت إلا عندما يمرّ قطاره بجانبنا فقط، أو عندما يصمّ صوت صافرته مسامعنا، أو حين نكتشف أنّنا واقفون على خطّ سيره، رغم علمنا بأنه القطار الوحيد الذي يتحرك في خطوط مستقيمة معروفة سلفا، بل يتحرك في مسارات تبدو كأنّها عشواء، أفقيا وعموديا. ومن العجيب أنّنا لا نتفاجأ (أو لا نعبأ) بالموت عندما يقبض كبار السّن، أو المرضى، أو «الآخرين» ممن ليس لنا صلة بهم. ولا يثير اهتمامنا ويبثّ فينا مشاعر القلق إلاّ حين يصبح على بعد أمتار فقط..
رغم أسفاري الكثيرة، فإنّ لحظات إقلاع الطائرة ولحظات هبوطها، كانت تشكّل لي دائما أكثر الأوقات شعورا بدنوّ الأجل. وأظن أن ليس مردّ ذلك هو الجزع، وإلا لقرّرت عدم ركوب الطّائرة بعد كل رحلة، وإنما لأن هذه اللّحظات تمثّل لي لحظات صفاء ذهني لا تكلف فيها، تشعرني بمفارقة الواقع الأرضي لملامسة السّماء، كأنّ الرّوح تحرّرت من قيد الجسد وضغطها وبدأت تسبح في عالمها الحقيقي.
نحن نتذكر الحياة ونعيشها بعمق وإغراق شديدين، وننسى أو نتناسى الموت. وفي المقابل، من النادر أن نذكر الموت ونعيشه بنفس العمق، لننسى أو نتناسى الحياة.. 
حين ننظر للحياة، فإننا نستقبلها بسمعنا وبصرنا وكل حواسنا، ولا نلتفت عنها. أما الموت، فكثيرا ما نتحاشى النظر إليه مباشرة، بالنظر جانبا، يمنة ويسرة، أو بإطراق البصر في الأرض، لإخفاء مشاعر المواجهة..
تذكرت حين كنت في الحرم المكّي، الأسبوع الماضي، أسمع المؤذن بعد كل صلاة مفروضة يدعو للصّلاة على أموات المسلمين.. لم أشعر في تلك الصّلوات بمعنى الموت قريبا منّي، رغم انخراطي فيها.. ولكنّ آخر صلاة جنازة قبل مغادرة الحرم كانت مختلفة.. فقد وقفت بعدها في جهة مغطاة أتأمل الكعبة المشرّفة مودّعا، حين مرّ بجانبي موكب يضم الأموات الخمسة الذين صلّي عليهم. وتلفّت بشكل لا إرادي، فرأيت امرأة واقفة تذرف الدّموع بمجرد مرورهم بجانبها. ولم أتمالك نفسي عن البكاء في تلك اللحظة.. حينها فقط، انتقل الموت من كونه أمرا عابرا وبعيدا، إلى موضع أقرب وأشدّ التصاقا بمشاعري..
ثم ذهبت ذاكرتي بعيدا إلى حوالي عشرين سنة، لأتذكّر جارا لي كان حديث التخرّج من كلية الصيدلة، وفتح صيدليته في حيّنا في تلك السنة، وكان يستعد للزّواج في نفس الصائفة من إحدى بنات الحي.. تواعد مع ثلاثة من أصدقائه على الذهاب لتقضية يوم الأحد على شاطئ البحر في مدينة قريبة معروفة برمالها النّظيفة. وحيث أنه كان الوحيد الذي يملك سيّارة، فقد اتّفق معهم على أن يمرّوا عليه في السادسة من صباح ذلك اليوم. وحين فتح لهم الباب، أعلمهم بأنه يشعر بإرهاق الشديد نتيجة عمله لساعة متأخرة، وبأنه لن يستطيع الذهاب معهم، وألحّ عليهم كي لا يلغوا برنامجهم، وأعطاهم مفاتيح سيارته للذهاب بها، ثم عاد إلى فراشه ليخلد للنوم..
بعد ثلاث ساعات، طرق طارق باب بيته، فخرجت أمّه تفتح الباب.. كانا رجلين من الشرطة.. طلب منها أحدهما التأكّد من كون المعلومات التي بحوزتهما بخصوص إحدى السيارات تخص سيارة ابنها فلان. فأكدت لهما ذلك. فقال لها: «أبلغك بكل أسف وفاة ابنك في حادث مرور مع صديقين له»..
كان الخبر مفزعا، غير أن الأم أجابت بأن ابنها أعطى السيارة لأصدقائه الثلاثة ولم يذهب معهم، وأنه ما زال نائما في فراشه. ودخلت مسرعة لتوقظه وتعلمه بالخبر. فوجدته ميتا في فراشه !
أراد الله له ألا يموت في سيارته مع الآخرين، غير أن أجله كان منتهيا في نفس الوقت تقريبا.. ولكن على الفراش..
لم يجده قطار الموت في السّيارة، فلحق به حتى الفراش، ليحمله في نفس الرحلة التي تخلف عنها..
كم مرة شعرنا بأنّا نجونا من موت محقق في الطريق؟.. عشرات المرّات.. بل مئات المرّات..
بل هي آلاف، لا نتفطّن في أغلبها لكون الموت مرّ بجانبنا على مسافة بثوان..
بل إن الموت كامن في كل ثانية من ثواني حياتنا..
نعم.. تلك هي الحقيقة التي نتغافل عنها دائما: فالإنسان لا يموت مرة واحدة، وإنما يموت بعدد الثواني التي تفنى من عمره.. كلما انتقلت لحظة من عمره من الحاضر للماضي، كان ذلك موتا لجزء من عمره.
ثانية واحدة تكفي لكي يصبح المستقبل حاضرا..
وثانية واحدة تكفي لكي يصبح الحاضر ماضيا..
ونفس الشّيء يقال عن البشر: فكلّ فرد يمثّل لحظة من لحظات عمر البشريّة جمعاء. كلّما ولد فيها فرد، كان بمثابة لحظة منتقلة من مستقبل البشرية لحاضرها.. وكلما مات آخر، كان لحظة منتقلة من حاضرها لماضيها..
.. أتذكّر قول الله تعالى: «أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»، فأقول في نفسي: يبدو كذلك أن (من أضاع لحظة من لحظات عمره بغير موجب، فكأنما أضاع لحظات عمره جميعا، ومن أحياها فكأنما أحياها جميعا)؟..
من الصعب أن نستشعر في كل لحظة راهنة نعيشها أنها ستصبح ماضيا، وستموت بمجرد ولادة اللحظة التالية لها، وبالتالي فمن الضروري استغلالها قبل موتها.. ولا يمكن ذلك إلا بفعل المقاومة.. مقاومة الانغماس في لذة ولادتها، للتفكير مباشرة في موتها.. ويبدو لي أن الوحيد الذي استطاع ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أنه لم يكن يترك لحظة من لحظاته تمر دون أن يستغلها في الدعاء و «الذكر»، سواء كان في طعام، أو أمام مرآة، أو داخلا أو خارجا، أو صاعدا أو نازلا، أو واقفا أو جالسا، أو نائما أو مستيقظا.. ليس في ما يخصّه أفعاله فقط بل وحتّى عند التّفاعل مع الرّيح والمطر ولحظات الكسوف والخسوف..
كأنّي به (صلى الله عليه وسلم) كان يعيش اللّحظة الرّاهنة من عمره، فلا يستسيغ أن يتركها تمرّ دون أن تزيد في رصيده، فضلا عن أن تنقص منه شيئا.. كأني به (صلى الله عليه وسلم) كان يدرك أن كل لحظةٍ غير منتجة للحسنات هي لحظةٌ ضائعةٌ..
لا قيمة لأي لحظة من لحظات الحياة إلا باستحضار معنى الموت فيها..