قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الإنتفاضات المشبوهة
 عرفت مدينة سليانة قبل عقدين من الآن، حين أقمت بها طالبــا في مدرسة الخدمة الإجتماعية لمدّة سنتين متتاليتين ولم يكن اختيارها لتضمّ مدرسة اختصاصها بهذه الدّقة اعتباطيا، فقد كانت المكان الأنسب في حينه باعتبار خلوّها من التنمية الجادّة .كان ذلك في أواخر العهد البورقيبي ممّا يدلّ دلالة واضحة على أن هذا العهد أهملها عنوة وكان يُقال حينها أن هذا الإهمال مردّه انتماء أهلها إلى قبيلة بعينها ونفور بورقيبة أو خشيته من أهل تلك الجهة.
غادرت سليانة ولم أعد اليها مطلقا بعد ذلك، إذ لم تكن ثمّة ضرورة للعودة وإن كان المقام بها قد طاب لي ولغيري ولم نحمل في أنفسنا منها إلا كلّ ذكرى طيّبة. ولكنّنا كنّا مقرين في كل حديث عنها أن الظّلم الواقع بها ظلم غير مقبول، فأهلها طيّبون وخيراتها كثيرة ولكنّ الأمراض الإجتماعية وعلى رأسها الفقر والبطالة كانت تنخرأهلها وعمرانها كما ينخر السّوس العظم .
اتخذت من أهل سليانة صديقا هو من أقرب الأصدقاء إلى قلبي اتصل بيننا الودّ ولم ينقطع أبدا، وكان هو نفسه يشعر بمدى الغبن الذي يحسّه أهلها خاصة بعد أن أقام في العاصمة حينا ورأى مقدار ما بلغته من تطوّر في العمران أين منه مدن الشّمال الغربي عامة وسليانة خاصّة. ولكن صديقي يقرّ مثلي ومثل أغلب التونسيّين أن العهد النوفمبري قد زاد تلك المناطق إهمالا وحرمانا، وأنه لم يكن ينظر إليها إلاّ من زاوية أمنيّة باعتبارها حزام فقر يمكن أن ينتفض في كل حين فيصيب حكمه في مقتل. 
كان الإعتقاد السّائد عند أغلب المهتمّين بمقاربة الظواهر الإجتماعية وتحليلها، أن الثّورة إن حدثت فسيكون منشأها مدن الشمال الغربي ولكنها جاءت من سيدي بوزيد وامتدّت بعد ذلك إلى غيرها من المدن وهذا يعكس في الحقيقة ترابطا عضويّا بين المدن التي يتشابه فيها الواقع الاجتماعي والاقتصادي، فلا يندلع حدث في مكان إلاّ كان له امتداد إلى غيره من الأمكنة التي تشابهه في واقعها، فلا تستطيع قوّة البطش ايقافه مهما فعلت .
تذكّرت سليانة وأنا أتابع ما يحدث بها الآن من محاولات لاستنهاض أهلها للثّورة من جديد مرة أخرى بمثل ما حدث في العام الماضي، حين استطاع اتحاد الشغل أن يفتعل مشكلة أو يستغلّها لجرّ الناس إلى انتفاضة انتهت يإقالة الوالي وانطبع منها في الأذهان ما عرف بأحداث الرّش. وما كان الهدف الحقيقي من تلك الأحداث إلاّ إسقاط الحكومة التي لم تكن على هوى الإتحاد والقائمين على أمره، فكانت تلك الثورة مفتعلة انتهت بسرعة ولم تفض إلى ما أراده مفجّروها وإن سجّلت في مرمى السّلطة نقاطا كان من أهمّها إجبارها على استعمال القوّة المفرطة وربّما توريطها في إطلاق الرّش على المنتفضين ليكون ذلك سبّة في حقّها وسببا للذكرى عسى أن تكون يوما ما مدعاة لانتفاضة أخرى تصيب حيث أخطأت الأولي تواصلا مع الحلم الذي لم ينطفئ في أن ترث الجبهة الشعبيّة وحليفاتها حكما تطرد منه حركة النهضة وحلفاؤها شرّ طردة .
لا شكّ أنّ من حقّ أهلنا في سليانة وفي غيرها من ربوع هذا الوطن أن ينتفضوا تعبيرا عن سخطهم من طول ما عانوه من حرمان وتهميش ولكنّنا لا بد أن نبتعد في توصيفنا للأشياء عن الغوغائية وأن نكون منصفين. ومن مقتضيات الإنصاف في تقديرنا الإقرار بأنّ اللّحظة الرّاهنة هي لحظة سياسية وأنّ أولويّتنا الحاليّة كشعب عصرته آلة القمع والجور طويلا هي أن نبني نظاما سياسيّا ديموقراطيّا تعدّديّا يتيح للجميع سبل المشاركة العادلة في تحديد مصير الوطن .إنّ علينا أن نعي جيّدا أن ما عانيناه جميعا كل من موقعه وبمقادير متفاوتة لم يكن إلاّ معاناة وطن مسروق من أهله، مصادر من فئة قليلة لحساب البايات والإستعمار حينا ثم لحساب نظام استبداديّ متألّه حين آخر، وأن كل الغبن مأتاه أنّنا كنا غائبين عن هذا الوطن مغيّبين فيه وأن لا سبيل لنا إلا استعادة هذا الوطن من مغتصبيه أوّلا والإتفاق في ما بيننا على سبيل لإدارته معا والإنتفاع بخيراته جميعا .
إن الخطر الحقيقي الذي يهدّد هذا الوطن نرى بوادره الآن في محاولات يائسة لشيطنة الثورة وتيئيس الناس منها واختزال مشاكلنا الحقيقية في رئيس حكومة محايد لا وجود لمثله إلا في رموز النّظام القديم أوفي استنهاض النّعرات الجهوية التي ظلّ النظام البائد يغذّيها سنينا حتى لقد كاد كل حيّ أن يتربص بالحيّ الآخر وكلّ مدينة أن تحمل لواء القتال لمحاربة المدينة المجاورة.  كل ذلك ونحن نرى كيف يجري نسيان عذابات الماضي وكل مآسيه بل وتجميله والدّفع نحو الحنين اليه والنبش في كل المشاكل الإقتصادية والظواهر الإجتماعية القديمة والجديدة ونسبتها للحاضر وكأنّها لم تكن من أمراض الماضي وتصوير القائمين على الأمر الآن على أنهم عاجزون ليسوا أهلا للحكم ولا هم قادرون على مواجهة استحقاقات الحكم ومن ثمّ فلا خير في أيّ ديموقراطيّة أتت أو ستأتي بهم وأن لا بد لكل مدينة وقرية من الثورة عليهم ولا أدلّ على ذلك مما نراه في أيامنا هذه من انتفاضات مشبوهة ولأتفه الأسباب.
ليس أمامنا الآن من بد سوى مواجهة هذه الأخطار مجتمعين مدركين أن ما أصاب سليانة لم تسلم منه بقيّة المدن وأنّ الذين يدفعون أهل سليانة وغيرها لثورة وهميّة غايتهم أكل الثّورة الأولى تمهيدا لعودة النّخبة القديمة التى اشترك يسارها مع يمينها في تخلّف الوطن، وأنّنا لسنا بدعا من الشعوب ولن نجد حلاّ لمشاكلنا خارج إطار الديموقراطية الفعلية التي يختار فيها الناس حكامهم بحرّية هي حريتنا وحرّية الوطن وأهله جميعا وأوّلهم أهل سليانة.