وجهة نظر

بقلم
علي الطرهوني
الديمقراطية المنهوكة والمجروحة والمذبوحة قراءة في ذاكرة وطن
 مازال لسان حالي يردّد مع ابن خلدون وكأنّه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث. دعنا نستأنف ما يحدث في ربيع ثورتنا أو خريفها. هذه القطيعة بين الشعب وحكومته قبل وبعد الثورة. لقد بدأنا عصر تحرّر إيديولوجي هو تحرّر الذات من عبوديتها للطغاة...
واليوم تغيّرت الأنظمة السياسية ولكن لا حديث عن العدالة الانتقائية كفتح الملفات وواجب المحاسبة وتعويض الضحايا وواجب الاعتذار.
ما سيناريوهات الثورة المضادة ؟ إنّ ماكينة العهد القديم تشتغل بكل قدراتها مع تدعيم المسار من جماعة العنف الثورة وقوى الليبرالية الاقتصادية التي تدمّر الاقتصاد عوض إنعاشه... دم كذب ووردٌ ميّت والنّسر عاد لوكره يلملم عشقه ويزمجر في ارتقاب.
يلحّ عليّ هذا الكلام وأنا أسترجع ذاكرتي منذ أن شببت يافعا أفقه في السياسية إذ كنت أسمعها في خطابات جمال عبد الناصر وأنا الذي انتميت زمنيا إلى جيل الستينات ثم كنت أفتح التلفاز فأبقى في انتظار توجيهات الرئيس بورقيبة قبل نشرة الثامنة للأنباء وأنا مأخوذ بقدرة وبراعة هذا الرجل على شدّ الآذان إليه واستدرار عطفه وبكاءه النابع من عيونه الزرقاء اللامعة. كان هذا الرجل يختزن الوطن في شخصه ويتحدّث عن الأمّة التونسية التي صنعها. رجل حكم دولة عرفت داخليا وخارجيا بدولة بورقيبة. ولئن كانت حرية التعبير متاحة بقدر ما حين كان أبناء جيلي يتهافتون على قراءة جريدة الرّأي من الأكشاك حتى نشأ لديّ وعي سياسي بأنّ الحرية هي أساس الديمقراطية، وحتى بدأتُ أدرك أنّ السياسية هي فن الكذب... تكذب... تكذب حتى يصدّقك الناس.
ومع الانقلاب النوفمبري صرت أسمع بين الفينة والأخرى وبمرور الأعوام أناسا لا علاقة لهم بالسياسة وحتى ممّا يلوح عن بداية الانفراج والسّماح بتعدّد الأحزاب يقولون «قبّح الله السياسة وقبّح الله ساس يسوس سياسة» وما تصرّف منها من أفعال، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني، بعد الانقلاب الشتوي ذات شهر من جانفي أو ما يسمّى بثورة الربيع العربي، صار البعض من فرط ما رأى لا يقبّح السياسة فقط بل صار يمقت السياسيين ووجوههم المتطاولة صباح مساء أمام أعناقنا في المنابر الإعلامية.
وممّا لا شكّ فيه أنّ التنديد بالسياسة لا يحدث إلاّ عندما تصبح السياسة متهمة أي أنّ السياسي فيها يراهن على مصداقيته لدى الناس وهي ترفض المتاجرة بالمبادئ الإنسانية بالكذب على المصداقية أو ما يسمّى بالشفافية. وباسم السياسة في أيامنا هذه ترتكب أخطاء تتحوّل أحيانا إلى مصائب وكوارث. وباسم الديمقراطية ارتكبت المذابح.
في البلدان المتقدمة تمارس السياسة بمعايير ديمقراطية تصل إلى حدّ مثول رئيس الدولة لدى المحاكم ؛ بينما تمارس الديمقراطية في درجاتها الدنيا في البلدان المتخلفة.
ومن الغريب أنّ البعض مازالوا يصدّعون رؤوسنا بأحاديثهم عن الديمقراطية ونحن لا نكاد نخرج من ورطة إلاّ لندخل إلى أخرى حتى الحوار الوطني صار أشبه بمسلسل مكسيكي أو «ستار أكاديمي» على حدّ تعبير أحد الحقوقيين – (بالتصويت) – ومن جملة ما نلاحظه أنّ المجتمع سيعزف كليّا عن المشاركة في الحياة السياسية، وفي انتخابات ممثليه في المجلس التأسيسي وحتى في أوروبا يتغيّب الكثير عن المشاركة والسبب هو خيبة أمل العديد من شرائح المجتمع في السياسيين مع ما رافق ذلك من أمر السياحة الحزبية فضلا عن الفضائح. ولا أريد الخوض في مسلسل الفضائح لدى البعض منهم وهو غير خاف على صفحات التواصل الاجتماعي بل حتى في أعتى الديمقراطيات كبريطانيا وأمريكا وفرنسا فإنّ المفارقة أنّ هذه الفضائح التي ألصقت برجال السياسة لم تكن ماديّة بقدر ما كانت أخلاقية.
الأمر الثالث، حين ينشغل بعض النواب في جلسات ماراطونية حول مصير البلاد تتحوّل المناقشات إلى جلسات حميمية واستراحات قصيرة وطويلة الأمد وتحت يافطة الديمقراطية يتجاوز الناس أزمتهم بالصبر. والسياسيون بمزيد التعنّت والتشدّد...
لقد أفرزت الديمقراطية تناقضاتها فصار العنف مقبولا عند البعض مرفوضا لدى الآخر مسكوتا عنه عند فئة أخرى ومن القبول برجل مسنّ لإدارة المرحلة الانتقالية إلى الاعتراض على مسنّ غيره لتولّي مسؤولية الحكم مؤقتا. ومن التحريض على الإضرابات في مرحلة معيّنة إلى الاستعداد للكفّ عنها في مرحلة أخرى توافقية. هذه عيّنات من ازدواج المعايير قال الذئب للجمل : « إن لم تكن قد عكّرت الماء لأنّك ديكتاتور فقد عكّرته لأنّك ديمقراطي فأنت مأكول مأكول على أيّة حال ».
إذن لم تستطع نخبنا أن تصوغ أجندا عقلانية تيسّر التحوّل نحو الديمقراطية. ولذلك أصبحت ديمقراطية مجروحة فجلّ الأحزاب السياسية تتحدّث اليوم باسم الشعب ولا أحد منهم يملك المشروعية الشعبية، حزب بدون تفويض شعبي فنجد أنفسنا أمام هذه الفوضى فيما سمّاه البعض من المفكّرين بـ «محنة الديمقراطية» وهي تعني ديكتاتورية مقنّعة لا تمارس قواعد اللعبة الديمقراطية. فهل نملك بعدها أن نعيش في دولة صالحة للعيش ؟
يقول ‘إدغار موران’ : « في مواجهة أزمة الفكر السياسي أرى الموت البطيء لجماعة اليسار وللجماعة الجمهورية. في بداية القرن العشرين كان المدرّسون حاملين للأفكار الجمهورية : لأفكار الثورة : حرية، مساواة، أخوّة، التي أخذها على عاتقه فيما بعد الحزب الشيوعي ثم انتهى اليوم في عهد الأنتلجنسيا العربية التي كانت حمّالة أفكار إلى الاندثار...».
إنّ الديمقراطية تحتاج إلى مقومات وعناصر عدّة لتشكّلها فهي مفهوم مدني مرتبط بالتحضّر ومملكتها تحكيم العقل لا تحكيم الهوى وهي أيضا مفهوم ينطوي على التعدّد والاختلاف كشكل لممارسة الحريّة وهل يستقيم ذلك بغير مفهوم الإنسان الذي هو مقياس القيم ؟
إنّ حماسة الشعارات لا تكسي جائعا ولا تطعم فقيرا ولا تصنع أملا للشباب، أمّا الشعب المسكين فقد لفظ نخبه السياسة لأنها سبب المشكل وليست أداة من أدوات الحلّ. ولم يعد شبابنا في حاجة إلى قيادات مستهلكة وشعارات جوفاء فشلت في ديارها، بل إنّ ذلك يتطلّب مشاركة سياسية في صنع المصير ولا ينبغي أن نصطنع المعارضة من أجل المعارضة.
أمّا نحن، ذلك التشكيل الأبله لما يسمّى بقطيع الديمقراطية، فقد صرنا أقلّ تحكّما في المستقبل نفتش عن زعماء أفذاذ يقودون السّفينة ولكن بلا جدوى.
أمّا الديمقراطية المذبوحة على هذه الشاكلة فهي التي تمنع الانتقال المرن نحو مجتمع العدل والإنصاف والبلاد تغرق في دوّامة العنف تتنازعها قوى الظلامية التكفيريّة والسلفيّة اليساريّة التي تعبث بمقومات الأمّة والهويّة. وتخلق المشاكل فتضحّي بالأمن والسّلم الاجتماعي من أجل افتكاك مقعد مشوّه لدى طائفة أو تلك. ولو تمكّنت يوما من الوصول إلى سدّة الحكم فستضرب بالديمقراطية عرض الحائط وتصفّي خصومها بالدّوس على وعي الناس وحرّيتهم في الاختيار وقد لا نستغرب أن تتعرّض حقوق المواطنة إلى التصفية.
إنّ الفراغ الثقافي والإيديولوجي سيشجّع السّلفي السياسي على استباحة دم الآخرين وهذا الانتقال الديمقراطي لا يكفي فيه القضاء على رأس الحيّة لأنّ هذه الأخيرة ستلد عشرين رأسا. وباسم مصلحة الشعب يبقى البعض فوق المحاسبة وتبقى العملية الديمقراطية مجرّد عملية تمويه وتجميل ويتغوّل الماسك بالحكم فتصبح الكائنات الأخرى ممسوخة أو نسخا معدّلة في فن التدبير الديمقراطي … !
تقول الكاتبة الجزائرية ‘أحلام مستغانمي’ : « لا يليق بك أن تسأل فأنت في كرنفال الحرية وأنت تلميذ مبتدئ يدخل روضة الديمقراطية تنتمي إلى شعوب قاصرة اعتادت بذل الدم والحياة ونحرت خيرة أبنائها قربانا لنزوات الحاكم الثورية. فمن يأتي لنجدتك فالشعوب لا قيمة لها فمن يفتدي بالدم والروح جلاّده لا يرحمه الآخرون ». وحين يتعلق الأمر بالأمن القومي فلا تحدّثني عن الديمقراطية كما يقول كبار المستشارين وسيحاسبهم التاريخ وتلفظهم شعوبهم فالمجتمع الوسطي مجتمع معتدل متآخ والله لا يعبد بالقتل كما لا يعبد بالجهل، فاعتبروا يا أولي الأبصار.