بهدوء

بقلم
د.جميل حمداوي
الإســـلام وما بعد الحداثة
 توطئة:
يلتقي الإسلام وفكر ما بعد الحداثة في مجموعة من النقط والمظاهر والجوانب المشتركة الإيجابية التي تكون في خدمة الإنسان تنويرا وتحريرا وتهذيبا. في حين، يختلفان في مجموعة من عناصر التباين والتنافر، وغالبا ما تكون هذه الأوجه التي تم الاختلاف حولها عبارة عن سلبيات مشينة يمقتها الإسلام؛ لأنها لا تنفع الإنسان لا من قريب ولا من بعيد. إذاً، ما أوجه التقارب بين الإسلام وما بعد الحداثة؟ وما أوجه الاختلاف والتباعد بينهما؟ هذا ما سوف نرصده في الأسطر الموالية:
(1) مظاهـــر التلاقـــي بين الإسلام والحداثة البعدية:
ثمة جوانب عديدة يشترك فيها الإسلام مع تيار مابعد الحداثة، مثل: الدعوة إلى التعايش والتسامح والتعاون والتفاهم مع الآخر، والإيمان بالتعدّد والتّنوع اللّوني والجنسي والعرقي، ونبذ التمييز الطبقي والثقافي؛ لأن النّاس سواسية في الإسلام، فلا فرق بين أبيض وأسود أو بين عربي وعجمي إلا بالتّقوى، فالنّاس سواسية كأسنان المشط. وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم « إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (1)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا أيها الناس ! إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ألا هل بلّغت ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : فليبلغ الشاهد الغائب» (2).
كما يتّفق الإسلام وما بعد الحداثة في نبذ العنف والتطرّف كما في قوله تعالى: «  يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين» (3)
 علاوة على محاربة العدوان والاستعمار وكل أشكال الهيمنة والحروب مصدقا لقوله تعالى:«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ» (4) . فالإسلام هو دين التعمير والبناء والتمدين مصداقا لقوله تعالى:«هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» (5). 
كما يتفقان معا في غرض التنوير والتعليم والتثقيف مصداقا لقوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ» (6)، والانفتاح على جميع الشعوب الأخرى، سواء أكانت قوية  أم ضعيفة ، على أساس التعارف والتكامل والتفاهم والتسامح مصداقا لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.» (7)
ومن جهة أخرى، يقبل الإسلام بالتأويل العلمي واستخدام الفكر في قراءة الوحي قرآنا وسنة، بشرط أن ينسجم ذلك مع الوحدانية والشرع الرباني مصداقا لقوله تعالى:«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» (8)  
وهنا، يتفق الإسلام مع المقاربة «الهيرمينوطيقية» أو التأويلية التي تستخدم التأويل في قراءة الكتب المقدسة على أساس الموضوعية والنزاهة والحياد العلمي. وقد يتقاطع الإسلام في دعوته إلى تأويل النصوص والخطابات مع «سيميوطيقا» الـتأويل عند «بول ريكور» (Paul Ricœur)، تلك المقاربة التي تتكئ على مجموعة من الخطوات المنهجية في مقاربة النصوص الأدبية والإبداعية والفلسفية، وتأويل النصوص الدينية والكتب المقدسة والخطابات اللاهوتية. وتتمثل هذه الخطوات المنهجية في ثلاث مراحل أساسية هي: ما قبل الفهم، والتفسير، والتأويل، وذلك كله من أجــــل تأكيد عبارته المشهــــــورة « شرح أكثر لفهم أفضل». وتشكّل هذه المراحل الثّلاث ما يسمى بالدائرة الهيرمونيطيقية للتأويل. وتشبه هذه المراحل خطوات «غاداميــــر» (H.G.Gadamer)، وهـــي: دقة الفهــــم، والتفسيــــر، والتطبيــــق (9) . وتتمثل خطوات «بول ريكور» المنهجية فيما يلي:
* ماقبل الفهم (Précomprehention): 
يعني ما قبل الفهم تلك العلاقة المباشرة  التي يربطها القارئ بالنص لأول مرة. ويعني هذا الاتصال الأولي وجود المتلقي، وحضوره ذاتيا وإنيا وذهنيا ووجدانيا. بمعنى أن هذه المرحلة فيها تلتقي الذات مع النص ، وهي كذلك  بداية تموقع الذات وجودا وحضورا. وهنا، يتم التركيز على الحدس والافتراض لاستخلاص ماهو كلي وعضوي، وتحصيل الدلالة الافتراضية البؤرية.
* التفسير (Explication):
وهي مرحلة الشــرح والتحليل، أو هي المرحلـــة التي نستخـــدم فيها المقاربات العلمية الموضوعية: الفيلولوجيا ، والنقد الأدبي، والتاريخ،  واللسانيات، والسيميائيات. ويكون التفسير في خدمة الفهم والإدراك. ويعني  هذا أن التأويـــل أو التفسيـــر أو الشـــرح هو بمثابة تحليل النص أو الخطاب في ضوء مجموعة من المقاربـــات النصية لسانيـــا، وبنيويا ، وسيميائيا... ، من أجل تحصيل المعنى العلمي الموضوعي للنص ، واستكنـــاه آثار الدلالة بطريقة داخلية مغلقة. وهنا، تلتقي الهيرمينوطيقا الريكورية مع السيميوطيقا الكريماصية على مستوى المحايثة، ورصد شكل المعنى، والاكتفاء بالداخل، واستثمار مفاهيم  اللسانيات، وتمثل مصطلحات التحليل البنيوي والسيميطيقيا السردية.
* الفهم: 
أو ما يسمى أيضــــا بفهــــم الدلالــــة أو الفهـــم المساعـــد (La compréhention médiatisée). وهنا، نلتقي مع العلامات والرّموز والنّصوص، أو مايسمى أيضا بالوساطة الرمزيّة. وإذا كان «فرديناند دو سوسير» يعرّف اللّغة بأنها علامات تؤدي وظيفة التواصل، فإن اللّغة عند «بول ريكور» مجرّد وسيط للفكر والتعبير عن الواقع. بمعنى أن اللغة والخيال والاستعارات والرموز والنصوص والخطابات والأساطير هي بمثابة وسائط رمزية، وقنوات لنقل الواقع، والإحالة عليه مرجعا وواقعا. ومن هنا، فقد ذهب «بول ريكور» في كتابه (الاستعارة الحية) (1975م) إلى أن الاستعارة مجرّد وسيط ذات وظيفة معرفيّة وإخباريّة وذات وظيفة إحاليّة تنقل لنا الواقع ليس إلاّ. بمعنى أن الاستعارة تنقلنا إلى عوالم تخييلية مجرّدة لتنقل لنا عوالم واقعية حقيقية.
ومن ثم، تعني عملية التأويل الشرح والتفسير، وتحليل الرّموز الثاوية والعميقة والمتعدّدة الدلالات. وهنا، ننتقل من مرحلة البحث عن الشفرة والواقعة للحديث عن الإحالة والمرجع والذات والمقصدية والرسالة. بمعنى أن العلوم الوضعية، عبر عمليّة الشّرح، تلتزم بالواقعـــة والشفـــرة. في حيـــن، تبحث مرحلـــة الفهم عن الرسالة والمقصديــة. وبهذا، يكون «بول ريكور» قد وفق بين هيرمونيطيقا التفسير وهيرمونيطيقا الفهم.
ومن ناحية أخرى، ينبذ الإسلام وتيّار مابعد الحداثة التطرّف والجمود والخمول والاستعلاء في الأرض، وقد قال الرسول صلى الله علبه وسلّم  ناهيا عن الغلو: « إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ (10) وَالرَّوْحَةِ وشيء مِنَ الدُّلْجَةِ» (11).
كما يؤمن الإسلام، على غرار الحداثة البعديّة، بالتناص الثقافي، مادام يحثّ على احترام العلماء والشيوخ الذين علّمونا. ويعترف كذلك بالاختلاف في الآراء الحسن مصداقا لقوله تعالى :« وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (12).   
ومن هنا، فالاختلاف نوعان، اختلاف تنوّع، فهو مقبول في الإسلام؛ لأنه اختلاف شكلي في الفروع والتفصيلات. أما اختلاف التضاد، فهو اختلاف مذموم؛ لأنه اختلاف جوهري يمسّ أصول العقيدة، والمبادئ الدينيّة، ويكون اختلافا من أجل الاختلاف والخلاف ليس إلا.
ويعترف أيضا بالجدال الحسن مصداقا لقوله تعالى:« ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»(13)  .
كما يلتقي الإسلام وما بعد الحداثة في الدفاع عن الإنسان وتكريمه وتقديسه وتعظيمه كما في قوله تعالى « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» (14)
فضلا عن دفاعه عن القيم العليا، والمثل السامية،  وعن حقوق الإنسان، والحريات الخاصة والعامة. فقد قال الله تعالى:« وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (15)  
 وأكثر من هذا يرفض الإسلام وما بعد الحداثة  التغريب والإقصاء والتهميش ، ويدعوان معا إلى المحبة والصداقة والتكامل والعولمة الكونية الإيجابية. وفي هذا السياق، يقول الله تعالى:« وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (16)، وقد قال سبحانه وتعالى أيضا: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ» (17) .
إذاً، هذه هي بعض الجوانب المشرقة التي يلتقي فيها الإسلام مع ما بعد الحداثة بشكل من الأشكال، وإن كان الإسلام ، قرآنا وسنة، قد سبق ما بعد الحداثة إلى الدعوة إلى هذه الجوانب الإيجابية بقرون عديدة، وقد كان فيها صادقا وصارما وواقعيا على مستوى التطبيق والتنفيذ والإجراء العملي، ولم تكن هذه الجوانب المشرقة مجرد شعارات نظرية وسياسية وإيديولوجية جوفاء كما هو حال النظرية الغربية لـ(مابعد الحداثة) . 
(2) مظاهر الاختلاف بين الإسلام والحداثة البعدية:
يختلف الإسلام عن تيار ما بعد الحداثة في كونه دينا إنسانيا بامتياز، يحارب العبثيــــة والتشكيــــك والضلال والكفر والإلحاد الذي نجده لدى الفلسفــــات العبثيـــــة (نيتشه)، والفلسفة الوجوديـــة (سارتر)، والنظرية الماركسية. وفي هذا السياق، يقول الله تعالى:«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيـــــمِ‏»(18). وقال تعالى أيضا في سورة الممتحنة: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَــةٌ فِي إِبْرَاهِيـمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُــــوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَــــا وَبَيْنَكُمُ الْعَــــدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْـــدَهُ» (19)، ويقول أيضا:« وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُـــوتَ»(20)، ويقـــول كذلك:«وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا»(21) ، ويقول في سورة أخرى : «قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُـــواْ بِهِ شَيْئًا»، ويقول أيضا في سورة الذاريات:« وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» (22).
كما يرفض الإسلام اليأس والقنوط والقلق والحيرة مصداقا لقوله تعالى:« وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ»  (23)
كمـــا ينبذ الإســـلام  الشذوذ واللواطية ، فقد قال سبحانـــه وتعالى في حق أهل لــــوط:« وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» (24) 
كما يرفض الإسلام مبادئ الفلسفة التفكيكية، سيما التقويض والتفكيك والتخريب، مادام ليس هنـــــاك تركيب أو بنـــــاء أوتشييــد أو بديل مقترح. كما يمكن لنا أن نقرأ القرآن نصا وخطابا وكتابا في ضوء المقاربات العلمية والموضوعية ، مثل: البنيوية اللسانية والسيميوطيقا والهيرمونيطيقا القائمة على التأويل. لكن هل يمكن قراءة القرآن اعتمادا على التفكيكية بالمفهوم الدريدي؟ في اعتقادنـــا ، لايمكن إطلاقا دراسة القرآن انطلاقا من المنهجية التفكيكية تشريحا واختلافا. لأن القرآن يحوي حقائق وبنيات عقائدية وتشريعية ثابتـــة، من الصعب الطعـــن فيهــــا لقدسيتهــــا الربانيـــــة، كما أن ما ورد في القرآن الكريــم يقيني وثابت ومحكم، لايمكن التشكيك فيه بأي حال من الأحوال. 
فعلا، يمكن تفكيك القرآن بنيويا وسيميائيا من أجل معرفة البنيات السردية أو المنطقية التي تتحكم في توليد الآيات القرآنية أو دراسة قصص القرآن الكريم قراءة سيميائية لمعرفة الثوابت التكوينية في تلك القصص السردية. لكن يستحيل تطبيق التفكيك بمفهوم «جاك ديريدا»؛ لأن منهجية ديريدا التفكيكية قائمة على الهدم والتقويض والتشكيك، وتعرية السائد، وفضح الإيدولوجيا، والثورة على الانسجام. في حين، نجد القرآن الكريم خطابا متجانســــا في آياته وأحكامـــه التشريعيـــة، و لا علاقة له بالإيديولوجيا لا مــن قريب ولا من بعيد. علاوة على ذلك، تعمد التفكيكيـــة إلى الهدم والثورة والرفض، ونقد المقولات المركزية في الفكر الغربي بصفة خاصة، والفكر العالمي بصفة عامة، كاللغة، والعقل، والتاريــــخ، والعرق، والصوت...وغيرها من المقولات التي تمثلها الفكر الإنساني. أما القرآن، فيتسم بالانسجام والاتساق والإعجاز، والدعوة إلى استخدام العقل لمعرفة الله،  وتعمير الدنيا. وليس القرآن فكرا بشريا لتعريتــه، وليس إيديولوجيـــا بشرية أو سياسية للإطاحة بها، ونقدها تفكيكا وتشريحا. علاوة على ذلك، ترفض فلسفة ديريدا التفكيكية، بشكل مطلق، كل التعارضات والثنائيات الزوجية: الروح والجسد ، والعقل والمادة، والحياة والموت... في حين، ينبني القرآن الكريم على مجموعة من الثنائيات المتقابلة ، كالليل والنهار، والحياة والموت، والمذكر والمؤنث، والعلم والجهل، والسعادة والشقاء، والجنة والجحيم...
اضف إلى ذلك أن فلسفة «ديريدا» هي فلسفة التقويض، والفوضى، والهدم، وإشاعة السلبية، وإثارة نزعات الصراع والاختلاف. ومن ثم، فالقرآن الكريم بعيد كل البعد عن هذا، فهو كتاب ديني مقدس، يهدف إلى ترقية الإنسان ماديا وروحيا، والسمو به بشريا وأخلاقيا ونفسيا، وهدايته إلى السبيل الصحيح للفوز بالدنيا والآخرة. أي: إنه كتاب عقدي إيجابي في خدمة الإنسان والحفاظ على الفرد والجماعة،  ضمن نظام مجتمعي ثابت، قوامه الاحتكام إلى الشريعة الربانية. وبالتالي، فالقرآن ضد الاختلاف من أجل الاختلاف، أو إثارة الفتنة والغواية والشقاق بين طبقات المجتمع.علاوة على ذلك، لايقبل القرآن الفلسفة السلبية القائمة على العدمية، والنسبية المطلقة ، والرفض لماهو ثابت ويقيني.
وما يمكن قوله عن القرآن، يمكن قوله عن الكتب المقدسة الأخرى كالتوراة والإنجيل، فحينما تحارب التفكيكية المنطوق الصوتي، والوحدة والانسجام والنظام والثبات والمركز،  فهي في الحقيقة تحارب عقيدة التوحيد، ولا تعلم أن هذا الكون المنظم له رب خبير عليم. وفي هذا الصدد، يقول ديفيد كارتر(David Carter):« ظهرت البوادر الأولى لهذه الثورة التفكيكية في مقالة قدمها ديريدا في جامعة جونز هوبكنز في أمريكا في عام 1966م بعنوان( البنية والعلامة واللهو في خطاب العلوم الإنسانية). وللتعبير عما كان ثوريا فيها باختصار، فقد برهن ديريدا بأنه حتى البنيوية تفترض وجود مركز للمعنى من نوع ما، كما يفترض الأفراد مركزية ضمير « أنا» في وعيهم، ويضمن هذا المركز الشعور بوحدة الوجود. ولكن بالنسبة لديريدا أدت التطورات في الفكر الغربي حتما إلى عملية التهميش. تقليديا كانت هناك دائما عمليات تمركز أو تمحور : الوجود، والنفس، والجوهر، والله، إلخ. وهذه الحاجة الإنسانية سماها ديريدا مركزية المعنى. وهذا مستمد من استخدام العهد الجديد لمصطلح علامة (التي تعني في اليونانية كلمة) للتعبير عن اعتقاد المسيحية بأن السبب الرئيس لجميع الأمور هو كلمة الله: «في البداية كانت الكلمة». وبالتالي، في مركزية المعنى تكون الكلمة المنطوقة أقرب إلى الفكر من الكلمة المكتوبة. يسمي «ديريدا» ذلك مركزية الصوت التي تفترض دائما وجود النفس. عندما نسمع الكلام، فإننا نفترض وجود المتحدث. ولانفعل الشيء نفسه في الوجود الكتابي عندما نقرأ الكتابة. وبهذه الطريقة، تتيح الكتابة لنفسها مجالا للتفسير ، وإعادة التفسير؛ لأننا نستطيع أن نعيد القراءة والتحليل بسهولة أكبر.» (15) 
وهكذا، يتبادر إلى أذهاننا أن التفكيكية ، باعتبارها مقاربة فلسفية تقويضية، تتعارض مع الكتب المقدسة جميعها، تلك الكتب التي أعطت أهمية كبرى للدال الصوتي بيانا وفصاحة وبلاغة، تلك الكتب التي تؤمن بالنظام الرباني المنسجم، وتؤكد تناسق هذا الكون بإرجاعه إلى عظمة الله وقدرته الخارقة. ومن ثم، فالهدف من خلق الإنسان، واستخلافه في الأرض، هو تعمير الكون، والجمع بين العبادة والعمل. ومن ثم، فالبناء هو الأساس في سنة الحياة، أما التقويض فهو النشاز والشذوذ والغرابة. 
وعلى الرغم من إيجابيات التفكيكية، فإنها فلسفة سلبية عدمية، تشكك في كل شيء، وليس ذلـــك من أجل الوصول إلى اليقيــــن، مثل: الكوجيطو الديكارتــــي « أنا أفكر. إذاً، أنا موجود»، بل هي تشكّـــك من أجل الشكّ والتقويض والهدم. وتسعى جاهدة إلى نسف التقاليد والعادات، وإزاحة الثوابت والمقولات المركزية، وتسفيه القيم الموروثة، والتشكيـــك حتى في الكتب الدينية المقدسة، وإخضاعها لمشرح التأويل الاختلافي، والتشتيت التقويضـــي. علاوة على ذلك، فهي لاتعترف بالخارج النصي، كالمؤلف، والسياق، واللغـــة، والقارئ، والحقيقة، والعقل، والبنية، والتاريخ... إنها ممارسة للاختلاف من أجل الاختلاف، وتقويض متعمد من أجل الهدم، لا من أجل البناء والتركيب. ويعني هذا كله  أن التفكيكية هي فلسفة الرفض، والعدمية، والتقويض، والهدم، والتضاد، والجدال السلبي، حيث يتلاشى الكل، وينهار الواقع، ويتفكك النص والخطاب على حد سواء ، فيخوض النص حربا ضد نفسه  تآكلا وتضادا واختلافا. ومن هنا، فحاجتنا ماسة إلى منهجية البناء والتثبيت والتأسيس، لا إلى منهجية تقويضية تستهدف الهدم والتقويض والبعثرة والتشتيت. بمعنى أن جاك ديريدا قد وقف عند محطة التقويض، ولم يتجاوزها إلى محطة الـتأسيس الحقيقي الفعال والبناء الهادف، وتقديم البديل الحضاري الممكن لإنقاد البشرية من براثن المادة، وسطوة الرأسمال، وثقافة الاستهلاك.
خلاصة
وعلـــى العمـــوم، يتفق الإسلام مع ما بعد الحداثة في كثير من النقط والقيم والتصورات الإيجابية التي تخدم الإنسان ذهنيا ووجدانيا وماديا وروحانيا، ويختلفان معا في كثير من المبادئ والأفكار والتوجهات والمعتقدات التي تضر بالإنسان عقديا وذهنيا وروحانيا وماديا ومعنويا.
الهوامش
(1) سورة الحجرات، الآية13، القرآن الكريم.
(2) الراوي: جابر بن عبــــد الله المحدث: الألبانـــي، المصدر: 
صحيح الترغيب ، الصفحة أو الرقم: 2964.
(3) سورة البقرة، الآية 208، القرآن الكريم.
(4) سورة الأنفال، الآية 60، القرآن الكريم.
(5) سورة هود، الآية 61، القرآن الكريم.
(6) سورة آل عمران، الآية 190، القرآن الكريم.
(7) سورة الحجرات، آية 13، القرآن الكريم.
(8) سورة آل عمران، الآية 7، القرآن الكريم.
(9)  
François- Xavier Amherdt: L’Herméneutique philosophique de Paul Ricœur et son Importance  por l’éxègese Biblique, les éditions de Cerf, 2004.
(10)  الغدوة : الغداة، والروحة: الرواح، والدلجة جزء من الليل.
(11) حديث رواه ابن هريــــرة، و رواه البخـــــــاري (39) 
ومسلـــــم (2816).
(12)  سورة هود، الآيتان 118-119، القرآن الكريم.
(13)  سورة النحل، الآية 125، القرآن الكريم.
(14) سورة الإسراء، الآية 70، القرآن الكريم.
(15) سورة آل عمران، الآية 104، القرآن الكريم.
(16) سورة سبأ، الآية 28، القرآن الكريم.
(17) سورة الروم، الآية 22، القرآن الكريم.
(18) سورة الأنبياء، الآية 1-2، القرآن الكريم.
(19) سورة الممتحنة، الآية 4، القرآن الكريم.
(20) سورة النحل، الآية 35، القرآن الكريم.
(21) سورة النساء، الآية 36، القرآن الكريم.
(22) سورة الذاريات ، الآيتان:56-57، القرآن الكريم.
(23) سورة يوسف، الآية:87، القرآن الكريم.
(24) سورة النمل، الآيات54- 55، القرآن الكريم.
(25) ديفيد كارتر: نفسه، ص:118.