في الشأن السياسي

بقلم
فيصل العش
حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط

  ليس من طبعي التشاؤم واختيار السيناريو الأسوأ، لكن الوضع الذي عاشته البلاد منذ انتخابات 23 أكتوبر ومازالت تعيشه من اضطراب حقيقي على المستوى السياسي، يجعلني أطلق صرخة فزع  وأنبّه أبناء بلدي إلى المخاطر التي تهدّد وطننا وتعمل جاهدة على تدمير حلم أجيال من المناضلين في حياة عنوانها الحريّة والكرامة وعيش عماده احترام حقوق الإنسان ودولة مدنيّة تقوم على المواطنة وتعمل عل تحقيق النماء والعيش الكريم لكل تونسي وتونسية أينما كان.

فتونس في مأزق سياسي كبير ستكون نتائجه وتأثيراته وخيمة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين. ولعلّ فشل الحوار الوطني أو تعليقه كما يحلو للرّباعي الرّاعي أن يسمّيه، هو إحدى التعبيرات الصارخة لواقع متأزم تعيشه البلاد.
ما سيحدث في تونس مرتبط أساسا بما سينتهي إليه الصّراع المتواصل بين الأطراف السياسية التي تسلّمت مقاليد الحكم عبر  الانتخابات وعلى رأسها «حركة النهضة» وبين جزء من المعارضة المتمثل في «جبهة الإنقاذ» المتكونة أساسا من أحزاب إتحاد تونس والجبهة الشعبية. فحركة النهضة مازالت متمسّكة بموقعها في الحكم بالرغم من موافقتها على الحوار الوطني الذي كان من المفروض حسب خارطة طريقه أن يفضي إلى استقالة الحكومة، لكنها تطالب بضمانات تُبعد عنها شبح ما عانته في الماضي على يد النظام السابق. وتتمثل هذه الضمانات في إقرار الدستور الجديد وإنشاء الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات وتحديد موعد نهائي للانتخابات. وبذلك تكون البلاد قد تجنّبت النكوص إلى الوراء حسب «النهضة» وأصبح قطار الانتقال الديمقراطي على السكّة الصحيحة. غير أن جبهة الإنقاذ وبعض الأحزاب المساندة لها ترفض رفضا باتّا تلازم المسارين الحكومي والتأسيسي وتطالب باستقالة الحكومة وتعيين شخصية وطنية مستقلّة تأخذ المشعل عن «العريض» في محاولة لإخراج النهضة نهائيّا من الحكم ومن المشهد السياسي ومن غير رجعة.
وبعد خمسة أسابيع من انطلاق الحوار الوطني تحت رعاية الرباعي الشهير تعود الأزمة إلى نقطة الصفر نتيجة ما آلت إليه الأوضاع في المجلس الوطني التأسيسي، حيث أصيب بشلل تامّ بعد تكرار انسحاب نواب المعارضة منه والتحاق نواب التكتّل بالمنسحبين وبروز كتلة «الدفاع عن سيادة الشعب» بالمجلس الوطني وهي كتلة تحتل المركز الثاني من حيث العدد بعد كتلة «النهضة» ولها مواقف معارضة لمبادرة الرباعي الراعي للحوار ولحركة النهضة، باعتبارها قدّمت تنازلات مخلّة بمسار الثورة حسب ما جاء في تصريحات بعض قياداتها (1). كما أن التاريخ الذي من المفروض أن تستقيل فيه الحكومة قد حان من دون أن يتّفق الفرقاء السياسيون على الشخصيّة الوطنيّة التي من شأنها تشكيل حكومة جديدة للبلاد. وقد أعلن القايد السبسي وحمّة الهمامي وهما أهم قيادات جبهة الإنقاذ أن تاريخ 15 نوفمبر سيكون آخر يوم في نشاط هذه الحكومة وأن عليها أن ترحل  وأنهم سيستعملون كلّ الوسائل بما فيها النزول إلى الشوارع للإطاحة بهذه الحكومة التي انتهت شرعيتها حسب قولهم منذ 23 أكتوبر 2012 (2) ولقد جاء ردّ السيد علي العريض واضحا باستحالة استقالة حكومته وفق ما تنصّ عليه خارطة الطريق قائلا :« نحن لم نأت إلى الحكـــم برغبـــة المعارضة ولن نتركه برغبة بعض الأطراف كذلك» (3). الأخبار التي تصلنا حول الحوار الوطنــي لا تبعث على الارتياح، وهو كما صرحنا من قبل أقرب إلى الفشل منه إلى النجاح بالرغــم من إيماننا القاطع أن الحوار هو السبيل الوحيد لحلّ الأزمة في البلاد وعلى جميع الأطراف أن تراجع حساباتهـا ومواقفها من الحــوار وعلى رأسها الرباعي الراعي للحوار حتّى تتوفر الشروط الملائمة لإقامة حوار وطني حقيقي لا يقصي أحدا ولا يملي فيه طرف شروطه على الطرف الآخر مهما كان حجمه أوموقعه. 
ما نعيشه في هذه الفترة ليست حوارا، لأن الحوار الحقيقي يقتضي توفّر الرّغبة لدى الأطراف المتحاورة في تجاوز الأزمة وعزم على حلّ المشاكل وإيجاد حلول ترضي الجميع من دون إكراه أو إملاءات أو إعلان انتصار طرف على الآخر. نحن نعيش حالة من هيستيريا كره شق لشقّ آخر ومحاولة تصفيته بأي ثمن حتّى ولو كانت على حساب المصلحة الوطنية . فقد دخلت بعض الأطراف هذا «الحوار» لتخدع الأطراف المقابلة والإيقاع بها في الخطإ حتّى إذا حصل ذلك اتخذته مطيّة لفضحها عبر وسائل الإعلام المختلفة وكأنها أوقعت بعدو في كمين وسجّلت عليه نقاط ستحدّ من شعبيّته وترفع من مكانتها لدى المواطنين.
أربعة أسباب رئيسيّة ستضمن الفشل لأي حوار مهما كان راعيه وهي غياب الثقة والاطمئنان بين الأطراف المتحاورة واختلاف تصوّر أهدافه وعدم محايدة الراعي للحوار وتعامله بمكاييل مختلفة مع الأطراف المشاركة و أخيرا عدم تشريك أصحاب القرار الحقيقيين وهما النواب والحكومة. وحتّى لو عادت الأطراف إلى الحوار من جديد وتجاوزت عقبة رئيس الحكومة الجديدة فإنها لن تتّفق حول مهام هذه الحكومة وسيتوقف الحوار ويتم تعليقه مرّة أخرى.
فشتّان بين حكومة «انتخابات» مهامها الأساسية ضمان الاستقرار والأمن في البلاد في الفترة المتبقية من المرحلة الانتقالية وضمان حياد الإدارة عند إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة وهو ما تقترحه «حركة النهضة» وتعمل من أجل تحقيقه وبين ما تقترحه جبهة الإنقاذ من حكومة «إنقاذ وطني» يشتغل رئيسها أكثر من 14 ساعة في اليوم (4) تتمثل مهامها في إنقاذ اقتصاد البلاد من الانهيار وحلّ مشكلات التشغيل ودفع عجلة التنمية وإعادة النظر في التعيينات التي قامت بها حكومتي الترويكا في مختلف المراكز والمؤسسات وهو لعمري عمل يتطلب سنوات وليس أشهر. 
إذن المشكلة أكبر من «حوار وطني» إنها مسألة حياة أو موت بالنسبة للطّرفين ، فالنهضة ومن تحالف معها لن تقبل بمثل هذا المقترح مهما طالت فترة الحوار أو المفاوضات لأنها تعلم علم اليقين أن ذلك سيكون بمثابة الانقلاب الناعم الذي سيبدأ بمراجعة التعيينات ليصل في النهاية إلى استئصال الإسلاميين ومنعهم من النشاط السياسي والمجتمعي ومحاسبتهم على ما فعلوه خلال فترة حكمهم من أخطاء (5) وجبهة الإنقاذ ومن خلفها تريد مواصلة فرض شروطها ودفع النهضة إلى مزيد من التنازلات مادامت قد ركبت قطار التنازلات منذ مدّة وبذلك تحقّق مبتغاها في نسف وإلغاء المسار الذي انطلق منذ سنتين وذلك بحلّ الحكومة والمجلس التأسيسي وجميع الهيئات المنبثقة عنه وتسلّم السلطة مباشرة أو عبر شخصيات قريبة منها وهو ما يفسّر رفضها القطعي للسّيد أحمد المستيري كمرشح لرئاسة الحكومة الانتقالية.
إن الأيام القادمة ستكون أصعب على كل الواجهات ولن يكون من السهل تحقيق تقدم كبير في المسارات الثلاث ( الحكومي والتأسيسي والانتخابي) خاصّة بعد حكم المحكمة الإدارية بإلغاء نتائج عملية فرز أعضاء الهيئة العليا للانتخابات وسيحتدّ بذلك الصراع المحموم بين كل هذه الأطراف وسيكون لذلك تأثير كبير على المجال الاقتصادي ومعيشة المواطنين مما سيزيد في نسبة التوتّر بالبلاد ويدخلها في دوّامة من المشاكل والصّراعات ستعود فوائدها حتما على المنظومة القديمة التي قد تستغل الفرصة للانقضاض على الحكم من جديد بعد أن تحرّكت ماكينتها في الفترة الأخيرة وتجاسر رموزها على الثورة فصارت أصواتهم عالية عبر الفضائيات ووسائل الإعلام المتعددة والجمعيات تتحسّر على فترة حكم بن علي وكأنها تقول لأبناء هذا البلد « يا ليتكم لم تقوموا بهذه الثورة». 
ومع خطر عودة المنظومة القديمة يبقى خطر الإرهاب يهدّد باستمرار استقرار البلاد ولن يكون من السهل مقاومته ودحره إذا ما تواصل هذا الانقسام الحاد داخل النخبة السياسية بين حكومة ومعارضة واستمر وضع اللاإستقرار السياسي.
مادامت نخبنا السياسية متمترسة وراء أحزابها تريد فرض أجندتها على الجميع  ومادام الرّباعي الرّاعي للحوار الوطني لم يغيّر إستراتيجيته وطريقة إدارته للحوار عبر توضيح مرجعية هذا الحوار وتحديد أهدافه بدقّة وفتح باب المشاركة لجميع الأطراف بدون شروط مسبّقة، فسيفشل في الاستمرار في مساعيه ولن يتحقق الوفاق الوطني وتستقر الأوضاع حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط.
الهوامش
(1) انظر تصريح زياد بادي لإذاعة موزاييك يوم الجمعة 8 نوفمبر وبيان الكتلة بتاريخ 13 نوفمبر 2013.
(2) صرح حمّة الهمامي يوم الثلاثاء 12 نوفمبر بأن علي العريض يتلاعب ولابدّ من فرض الحل عبر الجماهير كما صرح في نفس اليوم  الباجي قائد السبسي لوسائل الإعلام من بينها جريدة الصريح قائلا «سنلجأ إلى الشارع في صورة فشل الحوار» 
(3) من كلمة علي العريض في افتتاح منتدى التكنولوجيا والاتصال بالحمامات يوم الأربعاء 13 نوفمبر 2013
(4) في تصريح للناطق باسم الجبهة الشعبية «حمة الهمامى» يوم 1 نوفمبر 2013 في أكثر من وسيلة إعلام من بينها إذاعة اكسبراس أن رئيس الحكومة المقبلة سيشتغل أكثر من 14 ساعة يوميا من أجل حلّ المشاكل العالقة وعامل السن حاسم في مثل هذه الأمور.
(5) من بينها على سبيل المثال اتهام علي العريض بمسؤوليته عن اعتداء الأمن على المتظاهرين يوم 9 افريل 2011 بشارع الحبيب بورقيبة عندما كان وزيرا للداخلية وكذلك استعمال الرش في أحداث سليانة ومحاولة تلصيق تهمة اغتيال بلعيد والبراهمي لحركة النهضة