في الصميم

بقلم
د.لطفي زكري
في سؤال القتل

 حين تحاصرنا صور الموت من كل جانب ويفزعنا تردّد مفردات القتل والاغتيال والغدر ومشتقاتها في وسائل الإعلام، يســـاورنا الشّك في مقولات العيش المشترك والسلام الكوني وتباغتنا الرّغبة في السؤال عن طبيعة المفارقـــة الجامعـــة في وعي الإنسان المعاصر بين الحلم بالحيـــاة في كنف الديمقراطية والوفاق السّياسي وبين واقع الموت اليومــــي على أعتاب التّدافع المدني، إذ كيف لنــا أن نفهم ما يجري في مناطق مختلفــــة من العالم من تطهير عرقي ومذهبي يذهب ضحيّته عشرات الآلاف من البشــــر، في الوقت الذي تشهـــد فيه النظريّات السياسية والاجتماعيــــة تزايد الصّــــور والمفاهيـــم التي يبدو فيها الإنسان كائنا عقلانيّا منسجمـــا مع نفسـه ومع الآخريــــن. إن موت الإنســــان بيد الإنســـان أكثر بكثير من موتــــه بفعل الكوارث الطبيعيـــة (الزلازل والفيضانات والبراكين). ويخبرنا القصص القرآني أن أول صور الموت رسمت بفعل القتل. فهل يعود ذلك إلى وجود لذّة في القتل وتفنّن في المـــوت أم يعود إلى حدّة ألم العيش وسماجة في الحياة؟ ألا يتعلق الأمر بانتصار الغريزة القتاليّة على الغريـــــزة الحيويّــــة؟ وهل الأصـــل في الأشيـــاء هو الموت أم هو الحياة؟

معلوم أن القتل ومشتقاته (الذبح والنحر والسلـــخ و...) تجربة ليست ممكنة للجميـــع ولكن حدث الموت المكتــــوب على الجميـــع لا تشمله التجربة طالما أن الواحــــد منا يموت مرّة واحدة مثلمـــا يولد مرّة واحدة. أما القتل فهــــو تجربة تحتــــاج إلى دربة في التعامـــل مع الوسيلة والضحيّـــة. ولئن كان القتل من الناحية البيولوجيّة والفيزيولوجيّة ممكن للجميــــع إلا أنّه من الناحية البسيكولوجيّة ليس كذلك. لذلك ترانا نفزع عند سماع خبر الموت ونزداد فزعا حين نعلم أن الموت كان بسبب القتل. إننا نقبل المـــوت كرها ولكننـــــا لا نقبـــل القتل بالرّغم من وجوده حكما في الكثير من الشرائع الدينية والمدنيّــــة. وقد يعود ذلك إلى حرص الإنسان على مضاعفة فرص الحياة وضمـــان استمراريتها إلى الحـــدّ الأقصى بقدر حرصه على تأجيل الموت واستبعــــاد حدوثـــــه بكـــــل الوسائــــل الممكنــــة. لكن ما الذي يفسّر ازدياد الرّغبة في التقاتل بين البشر كلما ازدادت التقنيات القتالية تطورا وفاعليّة؟ هل يعود ذلك إلى عمق التناقضات المادية كما بين ذلك «ماركس» أم يعود إلى فعل الدوافع العدوانية كما شرحه «فرويد»؟ وهل قدر الكائن البشري أن يبقى سجين لعبة المصالح والدّوافع العدوانيّة؟
لا نستطيع في الواقــــع أن نستبعــــد تأثير العوامل الذاتيّة والموضوعيّة في تفسيــــر هذه النزعــــة القتاليّـــة لدى الإنســــان ولا يمكننـــا أيضا أن نختزلها فـــي واحدة منهما ولسنا نفهم على وجه الدّقة كيف يتعاضـــد الذاتي والموضوعي في إذكـــاء هذه النزعـــة في وعي الفـــرد وسلوكه. لكننــــا نجزم بأن القتل ظاهـــرة طبيعيّة تجد أساسها في القدرة والقابليّة التي يظهرهــــا الكائن الحيّ عمـــوما. ولا تختلف هذه الظاهرة في دائرة النوع البشـــري إلاّ بما تلتحف به من طابع طقوسي وما تتوسّله من أدوات متفاوتة الفاعليّة القتاليّة. ولعلّ هذه الخصوصيّة هي التي جعلت القتل في الحياة البشريّة يخضع لقواعد «إيتيقية» ما يزال بعضها حاضرا في وعي من يمتهن هذه الممارسة أو يتعاطاها كهواية (يأبى الصّياد مثلا أن يرمي الطّير وهو في حالة سكون). لم يعد القتل في المجتمعات المعاصــرة فنّـــا بل استحــــال إلى صناعة تخلو من كل حسّ فنّي ولا تستند إلى أي حكم قيمي غير حكم النّجاعة بما تعنيه من سرعة وكثــرة. وإذا كانت المجتمعات القديمة تحتفل بالقاتــــل قدر احتفالهــــا بالمقتول بحسب ما تمليه عليها نظمها الطقوسيــــة (إلى حد يجعلها تقيـــم للقاتــــل أو المقتول موكبا يتحول بعده إلى مزار للاّحقيـــن)، فإن المجتمعات المعاصرة تدفع بالقتـــل إلى دائرة اللامسؤوليّة المعمّمة حتى يبقى القاتل مجهولا على الدوام (من قتل كيندي؟ من قتل بن يوسف؟ من قتل بلعيد ومن بعده البراهمي؟). 
إن وجود القاتل المجهـــول في مجتمعاتنــــا المعاصــــرة يمثّل شهـــادة إدانة لنموذج مجتمعي يصنع القتل من خلال شبكات خفيّة الاسم، لا يقـــدر أحد أن يتبرأ من الشراكة فيها طالما كان يجهل امتداداتها وعلاقتــــه بخيوطها المباشرة وغير المباشرة. ففي وجود القاتل المجهـــول يكون المجتمع برمّته قاتلا معلومــــا، لكن هذا الإسناد لا يعطي المقتول حقه في معرفة قاتلــــه ولا وجه التضحية التي قدّمهـــا. ثم أن من يطرح السؤال عن هويـــة القاتل في مجتمع اللامسؤوليــــة المعمّمة هو في الواقــــع يعبّر عن مدى أنانيّتــــــه في طلب البراءة من دم المقتول، لأنه يدرك جيّـــدا أن المسؤول ليس بأعلــــم من السّائل، لكن منطق المزايدة السياسيّة هو الذي يدفعه لاستثمار الحدث ضدّ خصمه بتوجيه التّهمة إليه وهو يعلم حقّ العلم أنه آخر المستفيدين طالما كان وراء كل قتل مستفيد. فالأحرى بنا جميعا أن لا نسأل من قتل بلعيد والبراهمي مثلا بل أن نمتلك الشّجاعة الكافية ونصرخ بأعلى الصوت نحن من قتل بلعيد والبراهمي. فطالما كان القتل واقعا فلا بد من وجود قاتل وطالما بقي القاتل مجهولا فإن المجتمع الذي يحتضنه يكون هو القاتل المعلوم. لكن هل المجتمعات تقتقل أعضاءها؟ 
إن الموت لا يناقض الحيـــــاة بل هو شرط استمراريتهــــا، فنحن نستمر في الحياة بقدر ما فينا من كائنات حيّة قابلــــة للموت في أجسادنــــا وفي اللحظـــة التي تتكاثـــر فيهـــا الخلايــــا الرافضة للموت (الخلايا السرطانيّـــة) نكون نحـــن المهدّدين بالمـــوت. إن استمراريـــة المجتمعــــات في الحياة مشروطـــة بمـــوت القديـــم من أعضائهـــا وولادة الجديد منهــــا. وقد يكون هذا الموت بالقتــــل المباشر وغير المباشر فكل مجتمع يصنع لنفسه الآليات الضروريّة والمناسبة التي تمكّنه من التخلّـــص من بعض أعضائه وفق نظام يوافق بنيته وكثافته واتساعه. وقد يتلبّس فعــــل القتل بلبوس سياسي أو ديني أو اقتصادي أو أخلاقـــي أو رياضي أو فني أو... لكن أنّى تكن العباءة التي يرتديها القاتل والمقتول، فإنه بالقتل يتخفّف المجتمع من بعض كثافته غير الديمغرافية. وقد يصوِّر المجتمع قتل السّياسي أو الدّيني أو الرّياضي أو... في صورة الفاجعة التي يتنادى لها جميع الأعضاء رفضا وتنديدا وتجريمــــا، لكنـــــه لا يستطيع أن يستمــــر في ممارســـة الشحن الإعلامي إلى ما لا نهايــــة، لذلك لا يلبــــث أن يستحيل إلى فضاء ينتزع حرارة الحدث بتحويل حدّة الألم إلى حلة من الأمل. 
إن النزوع البشري إلى القتل ليس واحدا في كل التجارب الاجتماعية، بل يتفاوت كمّا وكيفا في الزمان والمكان وهو ليس سمة جماعة بشريّة بعينها، وإنما هو نزوع طبيعي قد ترعاه المجتمعات وتغذّيه في أفرادها وقد تحدّ منه أو توجّهه بحسب حاجتها أو بحسب الظروف التاريخيّة التي تمرّ بها. لكنّها لا تستطيع القضاء عليه طالما كان في ذلك انتحارها.