قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
وطن النخبة أم نخبة الوطن؟

 إذا كان الوطن حاضة الجميع فبوسعنا حينئذ أن نتساءل عن معنى الوطن بدون مواطنين؟ أليس الوطن هو الرّقعة الجغرافيّة التى يعيش عليها أناس يشتركون فى ملكيتها وثرواتها ولكلّ واحد منهم بالتالى الحقّ في المشاركـة فى تحديد مصيرهــــا ؟ ومن ثم فأي جــــدوى فى اختزال الوطن في شخـــص أو حزب أو مجموعة؟ كل هذه الأسئلة مشروعة وتقتضى الإجابة عليها بدقّـــة وبكثير من التواضع والبعــــد عن التعصب والتخوين والإستعلاء، وإلا كان بناء الوطــــن بناء إقصائيا مشوّها لا يؤدي فى النهاية إلاّ إلى مزيد من المظالم والدكتاتورية والقمع وإلى شوط آخر من استئثار فئة دون أخرى بالثّروة والحكم.

إننا نتطلع جميعا إلى وطن آمن فيه متسع من الحرّية للجميع، يتشاركون فى بنائه كل من موقعه وبحسب ما يسمح به التنافس البناء من فرص لكــــل طرف دون تحقير أوتهميش . ولكن تطلعنا هذا نخبا كنا أو عامة، حكاما أو معارضيــــــن، كان دائما تطلّعا لفظيّا لا نجد له صدى فى الواقع، فنحن الآن على أبواب السّنــــة الرابعة للثــــورة ولم نستطع أن نخرج من كل الصّراع القائم منجزا حقيقيا يجعلنا نطمئـــن جميعا  على مستقبل هذا الوطـــن. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى كون المجلس التأسيسى الذى انتخبناه يعدّ فى الحقيقة منجزا رائعا للثّورة، كونـــه عمل فريد لا مثيـــل له فى تاريخنا من حيث حرّية التنافس والإختيار، غير أنّه منجز بُني علــــى أساس جملة من المناورات والإكراهات التي سبقت وتلت إنتخابـــه حتى كاد في أيّامنا هذه يتحول إلي مجرد كتلة من النواب لا حول لهـــــا ولا قوّة، بما يجعله في الحقيقة أشبــــه ما يكون بالسّقـــف المثقوب الذى لا يقي من الأمطــــار إلا قليــــلا. فأين العلّة إذن وكيف السبيل الى الخروج بهذا الوطن من أزمتــــه؟ هل العلّة في النخب كلّها أم العلّة في تاريخنا المليء بالتسلّط والحروب والفقر والجهل، مما يجعلنا مرتهنين دائمـــا إلى عقــــل دفين يعيقنــا عن أي تحرر؟  
لا يحتاج المرء المتدبّر إلى عناء لكي يدرك مدى إعجاب طائفة كبرى من نخبنا بالغرب حضارة وتقدما، يتمثّلون ثقافته ونمط عيشه ويبشّرون صباحا مساء بديمقراطيته وتقدّمه ونهضته، حتى أنهم يسمّون أحزابهم وأفكارهم بالتّقدميّة ولكنّك تصاب بالصّدمة حين ترى ممارساتهم التي تخلو من التقدميّة وحين تسمع من بعضهم مغالاة في الإعتداد بالرّأي والإقصاء والتكبّر، ضاربين عرض الحائط بكل الأفكار التي يدعون إيمانهم بها. تنقسم أحزابهم على نفسها مرّة ومرّة لمجرّد اختلاف في الــــرأي، ثم ما يلبث هذا الإختــــلاف أن يتحوّل إلى عداء وكره وتخوين وتشكيك، تستخدم فيه كل الأدوات بغض النظر عن شرعيّتها. إن نخبة هكذا حالها لا يمكن أن تبني وطنا يتّسع للجميع على قاعدة الملكيّة المشتركة لرقعـــة الأرض ووحدة المصير أي على قاعدة المواطنة.
إن الشّكّ الذي يخالج الجميع في قدرتنا على الخروج من أزمتنا الحالية ليس وليد الآن بل هو ثمرة كل الحقبات الماضية التي تعاقبت علينا والتي سرقت منا قدرتنا الذاتيّة على البناء جهدا وأفكارا، وحولتنا إلى تابعين مرتهنين لا نبني تجربتنا إلا بعيون الآخرين وتحت إشرافهم وإن ادّعينا غير ذلك.
إن قصور النخبة ليس قصور أفكار ولا مرجعيات ولكنه قصور مقاربات وممارسة، وهذا لا يمنعنا من الإشارة إلى كون الغالب من نخبنا يحتاج إلى مراجعات فوريّة ومؤلمة لفكره ومرجعيّته فقد عفا الزمن على كثير من الأفكار والطروحات ولم يعد ثمّة مجال لإعادة إنتاجها من جديد بمجرد قولبتها أو تكييفها مع مقتضيات الواقع والسّياق الحضاري الجديدين وإلا ظلّت كما هي أفكارا ومرجعيات منبتة تحتاج دائما إلى قوة القهر حين يراد تطبيقها في الواقع ولا تؤدّي في النهاية إلا إلى مزيد من المآسى .
وليس المقصود بالإنبتات هنا الإشارة فقط إلى المرجعيات الوافدة علينا في إطار التلاقح الحضاري أو بفعل الإنفتاح القهري على تجارب الآخرين ولكنّنا نقصد كذلك بالتأكيد كل ما بنيناه من أفكار إستنادا على مرجعيّة الدّين. فنخبة الدّين تعاني في تقديرنا كل ما تعانيه النخبة الأخرى التي لا ترى للدّين أي دور، فهي أيضا تعاني من التشرذم والتعصّب ويعادي بعضها بعضا لمجرّد الإختلاف بل ربّما كانت أشدّ ميلا للعنف والإكراه بدعوى امتلاكها للحقيقة والمقدّس أو بدعوى حرصها على نصرة الله مما يوقعها في ممارسات وأفكار أشدّ ما تكون بعدا عن نصرة الله العادل الذي أتاح بحكمته للإنسان سبل الحرّيّة والكرامة وجعله خليفة له في الأرض ليبني بحق وطنا آمنا للجميع لا وطنا تحكمه النخبة بالنّار والحديد.