من وحي الواقع

بقلم
اسماعيل بوسروال
خرفان يمّة رقيـة وتحقيق أهداف الثّورة

 تونس فجر الاستقلال 

نشأت «يمّه رقيّــــة» في بيئـــة زراعيّــــة تعتمــــد في مواردها على الزراعات الكبــــرى وإنتـــاج الأشجــــار وتربية الأغنام ... تزوجتْ من والدي – رحمه الله - فأنجبتنــــي بعد أختــــي ... وعاشت فلاّحــــة تكـــدح وسعادتهــا تكمن في تربيـــة بضع أغنــــام تدلّلها ... لم تكن الخرفان التي تربّيها مسألة لها علاقة بالبيع والشّراء بل كانت جزءا من حياتها العاطفيّة ... فهي تحتفظ ببعضهـــا وتقصّ قصّة حياة الخروف ونسبه وآبائه وأجداده ... من أيــــن جاءت أمّه ومن هو أبوه ومن هم إخوتــــه ... فهي لا تفرّط في بعض خرفانها لأنها جزء من كيانها .
تـونـس 2008/2007
كانت قد مرّت أكثر من عشر سنوات على إقامة والدتي في منزلها ذي الطابقيــــن الذي أنجزنــــاه في قريــــة «الحنية» في ضواحي سيدي بوزيـــد يؤنسهـــا دائما أقرباؤهـــا ... لكنها لم تتخـــّل يومــــا عن رعاية خرفانها المدلّلة، فقد أقامت لها بناية ينطبق عليها قول ميخائيل نعيمة «سقف بيتي حديد ، ركن بيتي حجر» حيث صمدت أمام كل الأعاصيـــر بل صمدت أمام عصابات لصوص المواشي الذين نفذّوا قبل ذلك العام عمليات استعراضية لسلب الناس أرزاقهم ... سمعنا ورأينا العديد من الأحداث والقصص التي هي من الواقع ولكنّها تشبه الخيال. 
كانت الأزمات التي تمرّ بها جهة «الحنية» قبل هذا التاريخ أزمات تتعلّق بنقص الأمطـــار والجفــــاف أو بنقص العلف والسّـــداري ... أما في سنوات الخصب فالأزمة تتمثل في صعوبة ترويج الإنتاج الفلاحي من حبوب أو خرفان ولكن في هذا العام كانت الصّابة استثنائيــــة وكان الترويج يسيرا حيث ارتفع دخل الفلاحين مقابل تعبهم وشقائهم وهو ما أسعدهم .
كانت فرحة والدتي بالخرفان الجديدة لا توصف، فهي تعلفها وتطعمها وتحنّ عليها  كأنّها كائنات ملائكيّة ... كان أخوالي وأعمامي وجيراني منشرحين لما أنعم الله من الخير، وشرعوا في توسيع الاستثمار لتعويض بطالة الأبناء والبنات فكنت أرى قطعان الأغنام قد زادت وتربية العجول انتشرت من خلال تخصيص المراعي والإسطبلات واتّجه المجتمع المحلّي نحو تنمية حقيقيّة من خلال الآبار العميقة والزراعات السّقوية وإنشاء نقاط تجميع الحليب ...
كانــــت المنطقـــة تتمتع بمنـــاخ من الأمن النّسبي لكنّها شهدت في 2007/2008 أعمال سرقة ونهب تبدو منظّمة ووراءها شبكة محترفة تحظى بتغطية من أجهزة في الدولة حيث تستعمل العصابات وسائل متطورة وتقنيات تدلّ على حنكة ...
تقع منطقة «الحنية» على خطوط التّماس بين ولايتي سيدي بوزيد والقيروان وعلى الطريق الرئيسية عدد13 الرّابطة للجنوب الغربي بصفاقس مما سهّل نموّها وتطوّرها... وولاية القيروان يقطنها عرش «جلاص» وولاية سيدي بوزيد يسكنها عرش «الهمامة» ويقع التزاوج بين السّكان دون اعتبار عامل العروش ... ولكن يحدث أحيانا أن تلحق صفة «الجلاصي» بمن يصاهر الهمامة وصفة الهمامي بمن يصاهر جلاص من باب الملاطفة. 
تزوجت البنت «عائشة» وهي  من عائلة جلاص الشاب «خليفة» وهو من عائلة «همامة» وهما عائلتان متجاورتان ...كان «خليفة» شابّا متعلّما وعاطلا عن العمل شأن الكثيرين وكانت «عائشة» فتاة انقطعت عن التعليم الثانوي مستعدّة لتبني حياة أسريّة ناجحة ... أنجزت عائلة «عائشة» وخليفة مسكنا على أطراف الحيّ وشرعت في تكوين ثروتها  بتربية الخرفان  ... كانت العائلة مثار تقدير السكان وصاروا يلقّبون الفلاحة «عائشة»  بــ «الجلاصية»، فقد كانت امرأة ماهرة حاذقة قويّة شجاعة وجد فيها زوجها من تساعده على الحياة الكريمة .
تكرّرت عمليات السّرقة والسّطو على قطعان من الماشية سواء كانت أغناما أو عجولا ... شرع بعض الناس في إقامة الحراسة مادام أعوان الأمن لا يهتمّون بمثل هذه الشؤون فهم يقولون ليس لنا وسائل كالسّيارات وليس لنا أوامر بملاحقة اللّصوص أو مطاردتهم. 
أدركـــت مغـــزى الحديث النبــوي الشريف « والله ليتُمن هذا الأمــــر( يقصد نشر الاســــلام ) حتى يسيـــر الراكب من صنعـــاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون»..يظهر الحديث الشريف مــــدى  أهمية أمن السكــــان على أرزاقهــــم من خلال هذا المثل الذي ضربه الرسول صلّى الله عليه وسلّم 
 ترصّد فريق من اللّصوص مجهّزين بشاحنة قطيع خرفان الفلاحة الجلاصية وزوجها الهمامي ... كانت الخرفان في الزريبة المحاذية للمنزل، فترجّل اللّصوص وشرعوا في فتح الحضيرة وتعبئة جزء من القطيع كأنّه ملك لهم ... تفطّنت العائلة المتكونة من الزوجيْن فتصدت لعصابة اللصوص المتكونة من ثلاثة أفراد ...قبض الزوج خليفة على اللصّ الأوّل وصرعه أرضا وقبضت الفلاحة الجلاصية على اللص الثّاني وصرعته أرضا وربطت يديه في الأغلال  وشرعت في عضّه من كتفه ولم يتمكّن من الإفلات منها في حين نزل اللّص الثالث من الشاحنة وهدّد الزوجين بالأسلحة البيضاء ولكن لم يستطع تحرير رفيقيه فانبرى إلى داخل المنزل وخطف رضيعا وجـــاء به قرب والديـــه وقـــــال: «إذا لم تطلقـــا سراح الرفيقيـــن سأذبح ابنكمـــا أمامكما»...  عندئذ أطلقا الزوجان سراح اللصّين وبسرعـــة امتطوا الشاحنة وفيها عدد من الخرفان وفرّوا بها لأنه لا يمكنهم البقاء حيث هبّ الجيران للنجدة .
كانت الشكوى المرفوعة من الزوجين واضحة مفصّلة، إذ هما تثبّتا من ملامح عناصر العصابة لاسيّما وقد تركوا آثار العضّ والكدم على أجساد اللّصوص ...صدر الحكم ابتدائيا بسبعة عشر عاما سجنا على أفراد العصابة ...فرح الفلاّحون وهلّلوا للعدالة، ولكن لم تدم الفرحة طويلا ففي الحكم الاستئنافي تمت تبرئة عصابة اللصوص وخرجوا بعدم سماع الدعوى ...انزعج السّكان واستنكروا أن يكون «الحاكم» ظالما ... والحاكم عندهم هو «القاضي» وليس كما عند أهل الحضر الحاكم يعني «الشرطي» .
كنت سائرا في الشارع الرئيسي في «سيدي بوزيد» فصادفتني تلميذتي «دلال المغربي» صحبة زوجها ... تبادلنا التحية ودعتني إلى تناول قهوة في مكتبها فهي تنتمي إلى سلك العدالة ... كانت فرصة بالنسبة لي لأسألها عن حقيقة ما يروج من تواطؤ الأمن والقضاء مع عصابات اللّصوص ...وبعد أن ذكّرتني بأيام المدرسة الابتدائية وذكرتني بما تعلّمته عندي من «الترغيب في المطالعة» ومن « الحثّ على المثابرة» دخلت في الحديث عما أرّقني حول تبرئة عصابة لصوص الفلاّحة الجلاصيّة فقالت لي دلال:
«لقد جرت محاكمة العصـــابة بالمحكمـــة الجنائية بقفصة سواء في الابتدائي أو الاستئناف... ولقد تمّ الحكم ابتدائيا بسبعة عشر عاما حيث توفـــّرت عوامل التشديـــد باقتحــــام محـــل سكنى والسّرقة واستخدام السّلاح الأبيض ومحاولة ذبح الطّـفل الرضيع أو التهديد باختطافه .
قلت لدلال مستغربا : «كيف يختلّ ميزان العدالة وينخرم فينتقل الحكم إلى البراءة وترك السبيل ؟»
أجابتني دلال : «المسألة بسيطة، يدفع المجرم ألف دينار مقابل كل سنة سجنا ويُخلى سبيله» .
قلت لدلال مندهشا : «ومن يقبض الأموال ؟»
أجابتنـــي : «نحن لا نـــــدري ...لكن هذا ما وقع فعلا بكل تأكيد. وهو أمر مؤســــف. وأعتقد أن من هــــم في أعلى هرم السلطة لهم علم بذلك».
ذات صباح وأنا مقيم في سوسة  ، بعد تأدية صلاتي الفجر والصبح رنّ جرس الهاتف الجوّال ...كانت على الخط «يمّة رقية» بصوت متهدّج تعلمني بأن لصوصا سرقوا خرفانها المدللّة ....تحوّلت إلى قرية «الحنية» وتأمّلت الجريمة وكيفية ارتكابها ... لقد أرسل اللصوص طفلا صغيرا ادّعى الجوع والعطش والبرد فآوته «يمة رقية» وأطمعته وسقته ... وبعد يومين جاء اللّصوص مستعينين بالطفل الصغير حيث أدخلوه للمستودع من ثقب صغير وكانوا مدجّجين بوسائل قصّ الحديد وتفكيك الأبواب ...
اتجهت صحبة والدتي وأفراد عائلتي إلى مركز الحرس الوطني مرجع النظر ...لقينا استقبالا لطيفا وعبارات المواساة والتضامن ... كانوا طيبين حقّا ...
بعد تقديم الإعلام وتأدية الشهادة وتوجيه الشكوك، هممنا بالخروج ولكن اقترحت عليهم رفع البصمات، فقالوا ليس لنا في الولاية فريق متخصّص في الموضوع ويعتبرون سرقة خرفان مسالة فارغة أمام عمليات أخرى …لكن سنتحوّل معكم لتسجيل خريطة الموقع وتبين العملية وتحرير تقرير في الغرض ...
كنّا في الطريق وكانت والدتي تردّد بلا انقطاع « سرقة قطيع من الخرفان مسألة فارغة  ؟ !»
ذات صباح ربيعي مشمس خاطبني أحد الأقرباء ليعلمني بأنه تمّ إلقاء القبض على عصابة اللّصوص على الحدود الجزائرية في سيارة مسروقة ...بعد أن قاموا بعملية سلب لمستثمرة ألمانيّة في المنطقة السياحية بين سوسة والمنستير ...تفاءلت خيرا وقلت هل استعادت الأجهزة ضميرها ؟
لكن أعلمني قريبي هذا بعد أيام أن زعيم العصابة تمّ تهريبه من غرفة الإيقاف في أسفل منطقة الأمن بجهة ساحلية وأنه خاطب أصدقاءه من الخارج .
فقلت : ألهذا الحدّ نخر الفساد والرشوة والجريمة جهاز الدولة ؟
تونس 2010/2011
قامت في تونس أحداث بين ديسمبر 2010 وجانفي 2011 اعتبرها ثورة ... وسماها بعضهم «ثورة الياسمين» وسماها آخرون «ثورة الحرية والكرامة» وتحدث السّياسيّون عن  كتابة دستور وتنظيم انتخابات و...و... أمّا «يمّة رقية» فكانت تنتظر أن تكون أهداف الثورة إلقاء القبض على لصوص المواشي واستعادة خرفانها المدللة وإنزال العقاب بشركاء اللصوص في جهاز الدولة من القمة إلى القاعدة ... وهي مازالت تنتظر .