في العمق

بقلم
شكري عسلوج
الإرهاب ، ما أشبه اليوم بالأمس

 باستثناء بعض الأحداث الشحيحة والمتفرقة مثل حادثة سليمان، فقد ضلّت تونس عصيّة على الإرهاب وفي مأمن منه في ظل الجمهورية الأولى. حتى عندما استعرت حرب أهلية في بلد شقيق ومجاور بين نظام الجنرالات ومجموعات ثائرة وُصمت بأنها إرهابية، كنتيجة  لإلغاء انتخابات كانت تشي بارتقاء الإسلاميين للحكم، فلم نرى في تونس لذلك من أثر يُذكر، إذا استثنينا طبعا الفظاعات والانتهاكات الوحشية التي مورست على قطاعات واسعة من الشعب الشقيق والتي كانت نشرات الأخبار تطالعنا بها بانتظام مقيت، ناسبة إياها للإرهابيين. في نفس السياق، طلع علينا في المدة التي تلت الانقلاب وبعد مقتل جنود مصريين على أرض سيناء، جنرالات العسكريتاريا الحاكمة في بلد الكنانة لمطالبة الشعب المصري بالخروج  إلى الميادين في جموع جمّة ومنحهم تفويضا مطلقا لمقاومة الإرهاب، الذي لم نرى إلى حد الآن من ترجمة له على أرض الواقع، سوى التنكيل بالخصوم السياسيين وتقييد الحريات والإسراف في القتل والإثخان في الجراح وانتهاك حرمات العُزَّل الذين وقفوا بسلمية ضد الانقلاب الذي أطاح بحكم الإسلاميين، والذي جاءت به أول انتخابات حرة ونزيهة في تاريخ بلاد الفراعنة الموغل في القدم.

ماذا جرى في المدة الأخيرة، حتى يضرب الإرهاب بهذا الصلف والعنجهيّة في ربوعنا ويحصد أرواح النّخبة من جنودنا البواسل ويمثّل بجثثهم ويسفك دماء الأمنيين بعدما كان قد أدخل البلاد من قبل في مسلسل الاغتيالات السياسية والتي لم نتبيّن إلى حدّ يوم الناس هذا إرهاصاتها ولم نستشرف بعد مآلاتها؟
انطلاقا من قاعـــدة أن التاريــــخ يعيد نفســــه وأن الإنســـــان وإن تطورت معارفــــه ووسائلـــه وأدواتــه بشكـــــل غير مسبوق، فإن ماهيته وطبيعته لم تتغير في شيء، فقد ارتأيت كتابة هذا المقال لتسليط الضوء على ما يُسمــــى بالإرهــــاب، الذي لا غـــــور أن الكثير من بين ظهرانينــــا، يعتقد جازما بأنه ظاهرة جديدة ومُستحدثة، ترتبط بشكل أساسي بالجماعات الإسلامية سيّان أكانت تحرريّـــــة أو جهاديّة،  تكفيريّة أو سلفيّة، وهابيّة أو إخوانيّة، دعويّة أو مسلّحة، سياسيّة أو عسكريّة .
يخبرنا التاريخ أن اختلاق العدو الذي يخدم الأغراض المُستهدفة، يُعَدُّ من أقدم الألاعيب والتكتيكات السياسية. كما يخبرنا التاريخ بأن الإرهاب والعنف المُفتَعَل يُمثل أقصر الطرق وأنجع السبل لإلصاق التهم بالخصوم السياسيين وبالتالي شرعنة قمعهم والقضاء عليهم وصولا إلى تكريس الدكتاتورية وتثبيت الاستبداد. وإليكم سردا تاريخيا حول ظاهرة الإرهاب التي أصبحت بامتياز، الشماعة التي تُعلَّق عليها كل المآسي التي تحيق بنا والانتهاكات من أعداء الدّاخل والخارج التي تطال الأمّة العربيّة والإسلاميّة في رجالها ونسائها وشيبها وشبابها، والتي تخلق الأعذار الواهية والترهات المفضوحة والتي تُسوِّغ اليوم للانقضاض على حكم الشّعب في دول الرّبيع العربي عن طريق الإطاحة بالمؤسسات المُنتَخَبة، بعد ما سوّغت من قبل لأنظمة الظلم والاستبداد التي حكمتنا ودنّست البشر والحجر وأهلكت الحرث والنّسل.
إمبراطورية روما مثالا:
في سنة 70 قبل الميلاد كان هناك رجـــل ثري وسياسي داهيــــة ذو طموح جامح لحكم روما ، يُدعى «ماركوس ليسينيوس كراسوس». ولكي نتعرف علـــى طبيعة هـــذا الرجل وجشعه، فيكفــــي أن نذكر أن ذهنه كان قد تفتـــق على حيلة شيطانية مكّنته من امتلاك مساحات شاسعة من حاضرة العالم القديم روما، ليصبح بذلك من أغنى أغنيائها. كان «كراسوس» قد كــــوّن فرقــــا من السخـــرة لإطفاء الحرائق، والتي كانت تصل إلى مكان الحريق مباشــــرة بعدم أن تكون فرق إشعال الحرائق قد مرّت من نفس المكان. يساوم «كراســــوس» صاحب العقار الذي تكون ممتلكاته تشتعل على مرأى منه، ويبتزّه حتى يتنازل عن ملكيته بأبخس الأثمان، فإذا ما رضخ صاحب العقار فإن الفرق تبادر بإخماد الحريــــق وإذا ما تجاســـر وتمسك بحقه فإن «كراسوس» يترك المبنى لقمة سائغة لألسنة اللهب حتى تسويه بالأرض. في هذه الحقبــــة كانت رومــــا محكومة بنظام جمهوري، الشيء الـــذي كان يحــــدّ من صلاحيـــــات وسلطــــــة الحكّـــــام.  غير أن «كراسوس» لم يكـــــن ليرضى بسلطــــة منقوصـــة ولذلك فقد أبتدع مخطّطا بارعا لبــــثّ الرّعب في قلب روما، مغتنما فرصة ثورة العبيد المجالدين بقيادة البطل الأسطوري «سبارتاكوس» والذين كانوا يُلَقّبون في ذلك الوقت بالإرهابيين، من قِبل خصومهم في روما. كان «سبارتكوس» قد هزم من قبل جيوش روما في مواقع عِدّة وجمع من الغنائم ما يكفيه للهروب بجيشه عن طريق البحر بعدما أشترى خدمات مرتزقة كانوا قد التزموا بتهريبه وجنوده إلى ملاذ آمن عن طريق البحر. لكن «كراسوس» لم يكن ليسمح بهروب «سبارتاكوس» في حين كان بحاجة ماسّة إلى عدوّ يُرهب به روما لتنفيذ مصالحه السياسيّة ويرجّح به كفة «جوليوس قيصر» أمام منافسه وغريمه «سيسارون». عمد «كراســـوس» إلى رشوة المرتزقــــة حتى يرفعوا قلاعهم وينشروا أشرعتهـــم ويمضــــوا بدون «سبارتاكـــوس» وجيشه الذي وجد نفسه أمام مصيره المحتوم، في مواجهة جيشين رومانيين، تمركزا بدقة لكي لا يتركا له من منفذ للنّجاة سوى التوجّه نحو روما، والتي هاجمها بالفعل ليجد حتفه مع جنوده على يد «كراسوس» الذي كان قد تمّ اختياره من قبل لقيادة الدّفاع عن عاصمة الإمبراطورية تحت تأثير الخوف والتّرهيب من اجتيــــاح الثوّار لروما. بعد سنـــة من حسم الأمور تم تنصيب «كراسوس» قنصلا على روما، التي ودّعت من غير رجعة النظام الجمهوري لتنتقـــل إلى مجلس حكم متكون من الثلاثي «جوليوس وكراسوس وبومبي» قبل أن تسقط في قبضة الأباطرة الذين حكموها كآلهة تحكم بأمر السماء. بذلك سقط مواطنو روما في الفخّ الذي نُصب لهم وخسروا نظامهم الجمهوري وأصبحوا رعايا وعبيدا لأباطرتهم الذين أذاقوهم لاحقا من الذلّ والهوان ألوانا.
ألمانيا النازية مثالا
لم يشُذّ هتلر عن القاعدة وهو الذي لم يكن ليرضى بأقل من الحكم المطلق الذي رفعه إلى ما يشبه الإله المعصوم. أغتنم هتلر الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتأزم واستعان بالعصابات النازية التي تأتمر بأمره، للعمل على تغذية العنف والتسبب في المواجهات الدامية في شوارع المدن وتعطيل المرافق العامة والإخلال بالأمن واختلاق ما أمكن من المشاكل والصعوبات وإشعال الحرائق وبث الإشاعات ونشر الرعب. في نفس الوقت كان هتلر يجوب البلاد طولا وعرضا برفقة عضده ‘جوبلس’ عبقري الدعاية السياسية، مطلقا الوعود بأنه قادر على إيقاف العنف والإرهاب وإصلاح الأمور إذا مُنحت له سلطات مطلقة. وكان إحراق البرلمان الألماني ‘الرايختاج’  في عملية إرهابية منظمة، بمثابة الضربة التي قصمت ظهر البعير ودمرت النظام الجمهوري في ألمانيا وسقط الألمان إثرها  في الفخ الذي نُصب لهم وانطلت عليهم الحيلة وانضووا تحت حكم ‘الفوهرر’ المطلق، الذي أذاق في ما بعد بلاده وشعبه الويلات، ولم يسلم منه لا القاصي ولا الداني
الإمبراطورية الأمريكية مثالا
ما من شك بأن الساسة الأمريكيين الذين تعاقبوا على حكم هذه القوة العظمى، قد درسوا كتب التاريخ وتيقنوا بأن ترهيب شعبهم بإرهاب مفبرك، يمكّنهم من حشد تأييده وإجباره على الانصياع لهم عند تنفيذ سياسات ترهيب المنافس السياسي في الداخل مثلما تم قمع الشيوعيين الأمريكيين على يد «ماك آرثي»، مُنظِّر العصر الحديث لمحاكم التفتيش، أو ترهيب الشعوب الأخرى بإعلان الحرب عليها، وذلك خدمة للمصالح التي ترتئيها القوى الفاعلة في النظام. وإليكم بعض الأمثلة
الحرب الكوبية 
في سنة 1889 نُشرت مقالات في جريدتين الأكثر انتشارا في نيويورك، تحثّ الإدارة الأمريكية على التدخل في كوبا لحماية المصالح الحيوية الأمريكية، ولتحضير المقالات تم إرسال مصور لتوثيق الانتهاكات التي ترتكبها القوة الاستعمارية الإسبانية في حق الكوبيين وللوقوف على التحضيرات الجارية للحرب. ولما سأل المصور صاحب الجريدة ‘هارست’ عن أي حرب يتحدث، أجابه بكل بساطة أعطني صورا، أعطيك حربا. لمزيد إضفاء الشرعية على تدخلها المسلح، اغتنمت الإدارة الأمريكية حادثة انفجار البارجة ‘ماين’ الراسية في خليج هافانا، والتي كانت الولايات المتحدة قد أرسلتها للتأكيد على عزمها في المضي قدما من أجل الدفاع  عن مصالحها، لإلصاق التهمة بإسبانيا في هذا الاعتداء الإرهابي الذي تعرضت لها السفينة الحربية، وأعلنت بناءا على ذلك حربا ضروسا ضدها، انتهت بالاستيلاء على الفيليبين، بعدما استحوذت في الطريق إليها على أرخبيل الهاواي. في سنة 1975 أفضى تحقيق قام به الأميرال ‘هيمان ريكورا’ استنادا لأدلة تم جمعها سنة 1911، إلى أن حادثة السفينة ‘ماين’ لا يمكن أن تكون ناتجة على اعتداء من الخارج وأن الأقرب هو حدوث انفجار في مخزن المتفجرات على متن السفينة.
الحرب العالمية الثانية
أثناء ولاية الرئيس «ثيودور روزفلت»، كانت الولايات المتحدة ما زالت تئنّ تحت وطأة مخلّفات أزمة الكساد الكبير وكان «روزفلت» بحاجة ماسّة إلى حرب، رغم معارضة الشعب الأمريكي القطعيّة لكل عمل حربي، وذلك ليتمكّن من إخفاء مشاكله الاقتصاديّة تحت المجهود الحربي وليضع حدّا للزّحف العرم للجيوش النازيّة على كل الجبهات. ورغم تواتر الاستفزازات الأمريكيّة، فقد رفض «هتلر» الاستجابة لها والدخول في حرب مع «الولايات المتحدة» وآثر تحييدها عن الحرب الدائرة. ونظرا لأن «الولايات المتحدة» لم تكن في وضع يسمح لها بالمبادرة بالعدوان، فقد سعت لاستدراج عدوّ إلى مهاجمتها حتى تصبح في حالة دفاع شرعي لا يمكن لأحد أن يتملص منه أو يعارضه. اغتنمت الولايات المتحدة دخول دول المحور (ألمانيا – اليابان – إيطاليا) في حلف والتزامها بالدفاع المشترك في صورة تعرض إحداها للهجوم، لتنتهج مع اليابان نفس التكتيك الذي أنتهجه من قبل «كاسوس» مع «سبارتاكوس» عندما أغلق أمامه كل السبل ولم يترك له من منفذ سوى مهاجمة روما. بادرت «الولايات المتحدة» بفرض حصار اقتصادي على اليابان يشمل بالخصوص النّفط والحديد بهدف شلّ صناعتها واقتصادها وآلتها الحربيّة، الشيء الذي دفع اليابان للاستحواذ على «اندونيسيا» الغنيّة بالنفط وبالمعادن ولم تنتظر «الولايات المتحدة» طويلا لتحريك أسطولها إلى «بورل هاربور» في «هاواي» في عملية بدت كتمهيد لضربة استباقية على «اليابان». بهذه الطريقة حشر «روزفلت» اليابان في الزاوية ولم يترك لها من بدائل للحفاظ على وجودها سوى مهاجمة أمريكا، وهذا ما تم فعلا. فقد هاجمت الطائرات اليابانيّة الأسطول الأمريكي في «بورل هاربور» وأغرقت الكثير من بوارجه وقتلت الكثير من الأمريكيين. بعد هذه الحادثة التي أرهبت الأمريكيين، لم يجرؤ أحد على الاعتراض على دخول الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الثانية وخروجها منها كالقوة الأعظم في هذه المعمورة بعدما دمرت كلّا من «اليابان» و«ألمانيا». في ما بعد تبين أن «الولايات المتحدة» كانت على علم مُسبق بتقدم الأسطول الياباني بما فيه حاملات الطائرات، ولكنها أحجمت عن إعلام قيادة أسطولها في هاواي «الجنرال شورت والأميرال كيمال» لاتخاذ الإجراءات الدفاعية اللازمة، وكأنها كانت تريد لليابان أن تتسبب  في كارثة على التراب الأمريكي. 
حرب الخليج الأولى والثانية
 دفعت الولايات المتحدة «صدام حسين» الذي كان يحلم بزعامة الأمة العربية لخوض حرب على «إيران» وقدمت له كل الدعم اللوجستي والتسليح. من المفيد أن نتذكر في هذا السياق أن «إسرائيل» التي ما من شك في أنها الحليف الأول للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، كانت قد قدّمت بدورها الدّعم والسّلاح لإيران في حربها ضد العراق. بعدما خرج العراق منهكا من الحرب، تم إغراق السوق بالنفط مما تسبب في انهيار أسعاره وتراجع عائداته، الشيء الذي حرم العراق من موارد كان في أمسّ الحاجة إليها لإعادة البناء. لم يجد «صدّام» من بُدّ، خاصة بعد تلقيه ضوءا أخضر من السفيرة «أبريل جلابسي» والوزير «ديك  تشايني»، سوى الوقوع في الفخ الذي نُصب له بإحكام ومهاجمة الكويت وفي نيته وضع يده على نفطها وفتح منفذ بحري لا يكون على مرمى قذائف العدو الإيراني مثلما هو الحال في البصرة. بعد إجراء مسرحية كانت بطلتها ابنة سفير الكويت بأمريكا والتي قدمت نفسها على أنها ممرضة في مستشفى فى الكويت وكيف أنها قد شاهدت بأم عينها، الجنود العراقيين يرمون الرضع خارج المحاضن الآلية ليتركوهم يموتون بردا وجوعا وكيف تتعرض نساء الكويت إلى الاغتصاب الممنهج من أزلام «صدام»، لم يكن هناك بعد ذلك من أمريكي يعارض تعريض حياة أبنائه للخطر من أجل مصالح آل بوش النفطية، وهكذا تم الإعلان عن حرب عاصفة الصحراء. وتواصلت المسرحية واختلاق عدو وهمي  لإرهاب الشعب الأمريكي حتى يساير سياسات حكامه في حرب الخليج الثانية بعدما طلع علينا «كولين باول» في مجلس الأمن ليرينا صورا لأقمار صناعية، زعم أنها قرائن لا غبار عليها تُثبت أن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل وأن «صدام» في علاقة وثيقة مع الإرهاب العالمي، الشيء الذي يطرح مخاطر وجودية على الشعب الأمريكي. وقد ثبت في ما بعد أن كل هذا كان زورا وبهتانا بشهادة الرئيس «بوش الابن» نفسه. هذا لم يمنع أن العراق كان قد دُمّر في الأثناء ومات وشُرّد الملايين من أبنائه وتم الاستيلاء على ثرواته النفطيّة بعدما اغتصبت من قبل ثروات الكويت من أجل كذبة الإرهاب.
الحرب على الإرهاب
بعد انهيار المعسكر الشرقي كان لا بد لأمريكا من إيجاد عدو جديد ومتجدد. أعطى الإسلام الصاعد والذي أزاح المسيحية عن عرش الديانة الأولى في العالم من حيث عدد المتبعين، والخيرات الطبيعية التي تزخر بها ديار المسلمين والحركات التحررية التي يقودها بالخصوص تيار الإسلام السياسي للنهوض من تبعات الاستعمار، خير المبررات لجعل الإسلام العدو الجديد للعالم الحرّ أو العالم المتحضّر كما سماه الرئيس «بوش» (هكذا سمى الرومان أنفسهم عندما أعلنوا الحرب على القبائل الجرمانية البرابرة في القرن الثاني ميلادي). وكأن كل ما جرى لم يكن كافيا، فكان لا بد من عدم السماح للشعب الأمريكي ومن وراءه شعوب العالم كافة من التقاط الأنفاس والتفكير في مجريات الأمور من خلال إبقاء الجميع تحت تأثير التخويف والإرهاب، فجاءت تباعا أحداث تفجير مركز التجارة العالمي في نسختها الأولى والذي كان قد نظمها عميل لمكتب التحقيقات الفدرالي، كان قد أندسّ في مجموعة من المتشدّدين الإسلاميّين. بعدها شهدنا أحداث «الجمرة الخبيثة» التي روعت الأمريكيين والتي أثبتت التحاليل فيما بعد أن المصل الأصلي مصدره مخابر الجيش الأمريكي. ثم جاءت فزّاعة وباء «أنفلونزا الخنازير» التي ثبت فيما ما بعد بأنها كانت عملية تحيّل على الصعيد العالمي. لكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي أسالت الكثير من الحبر حول مدى صحة روايتها الرسميّة كانت غير مسبوقة في اصطفاف الأمريكيين وراء قيادتهم السياسيّة  في حربها على الإرهاب رغم  إصدار «القانون الوطني الأمريكي» (1) والذي أدّى إلى الحدّ من حقوق وحريات المواطنين الأمريكيين والتجسّس عليهم بشكل غير مسبوق. من المفيد في هذا السياق التنويه بأنه إلى حدّ الآن لم تتوصل دول العالم في إطار المنتظم الأممي حتى إلى تعريف للإرهاب، يكون منصفا ومعقولا لكل الجنس البشري ولا يخدم مصالح جهة بعينها.
التاريخ السياسي القديم منه والمعاصر يزخر بنماذج عديدة ومتجددة لتوظيف ما يسمى بالإرهاب من أجل حمل الشعوب على الانصياع طوعا أو كرها خلف أنظمة شمولية أو قوى استعمارية لا ترمي إلا لاستعبادها. كما أن التاريخ يرشدنا إلى أن اختلاق أعداء وهميين ووصمهم بالإرهاب ظلما وبهتانا أو التلاعب بمجموعات أو اختراق خصوم سياسييّن لتوريطهم في أعمال إجراميّة عنيفة أو حتّى استدراج دول وإجبارها على القيام بعمليات عدوانيّة، لشرعنة ضربها والقضاء عليها وذلك خدمة لأجندات معيّنة، يُعدّ أمرا مألوفا ومتواترا ويُعَدّ من الأساليب الشائعة في العالم السياسي.
لقد شهدت تونس كثيرا من الأحداث والجرائم التي روّعت وأرهبت الشعب وجعلت قطاعات واسعة منه تندم على ثورتها وتحنّ إلى الأيام الخوالي للاستبداد وتلعن الحرّية من حيث أتت، وهذا بالضبط ما سعت إليه قوى الثورة المضادة منذ اليوم الأول من قيام الثورة وما زالت كذلك. ما حدث في مصر والذي يتماهى بشكل غريب مع مجريات الأمور في تونس (القناصة، فتح السجون وإخلاء سبيل المجرمين – انتشار العنف والجريمة – حرب الإشاعات والأكاذيب – تعطيل وإفشال مخططات الإصلاح والتنمية والمحاسبة من طرف الدولة العميقة – تدمير الاقتصاد عبر التهريب والإضرابات مما يتسبّب في رفع الأسعار التي تثقل كاهل المواطن وتدفعه إلى الثورة من جديد - دور الإعلام في تأليب الرأي العام والتشهير بالشخصيات المنتخبة وضرب مصداقية المؤسسات الشرعية – تغذية استقطاب المجتمع – الدعوات الصريحة للانقلاب والعصيان المدني  والفوضى «حركة تمرد» – الإخفاقات والتسريبات والتجاوزات الأمنية – الدور المشبوه لبعض مكونات المجتمع المدني – المال السياسي الفاسد - العمليات الإرهابية والاغتيالات السياسية ووصم التيار الإسلامي بما فيها الأحزاب الحاكمة  بالضلوع فيها- الخ) ينبئنا بالمآلات التي تنتظرنا إذا قُدّر لهذا المخطط أن ينجح. الإرهاب الذي طرق باب الوطن والذي يهدّد بالرجوع مرارا وتكرارا إذا لم ينصاع الشعب ويتنازل عن سيادته وإذا لم يتخلى الذين أختارهم لقيادة مسيرته عن الحكم طواعية في إطار ترتيبات ما يسمى بالحوار الوطني بعدما فشل الانقلاب القسري، هو الحيلة القديمة الجديدة التي تُمارس على الشعوب لإرجاعها إلى بيت الطاعة. فهل تنطلي؟
المراجع 
(1)  American patriot act
Fake terror - The road to dictatorship
  by Michael Rivero