قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
رحيل مفاجئ

 ليس كمثل الموت شيء يطاوله ولا مهرب منه لحي وكل نفس ذائقة الموت، ولكن الرحيل المفاجئ في عز العمر والعطاء يجعل وقعه علي النفس أشد . وكم كان حزني عميقا على رحيل الأخ فرج بالحاج عمر طيب الله ثراه. وما كان مبلغ الحزن أن الرّجل رحل كهلا فى بداية الكهولة تاركا طفلتين صغيرتين لن يكون بوسعهما تفهم الموت، ولا كان هذا الحزن بسبب صداقة طويلة أو عشرة، فلم أعرف الرجل إلا منذ أشهر قلائل وما جمعتني به إلا لقاءات قليلة بعضها لم يدم الا دقائق معدودات وبعضها اقتصر على التحية فقط، ولكن مبلغ الحزن مأتاه أن الموت الذي غيبه كان بسبب ما تعرض له من قسوة وظلم .

لم ينتظر فرج مخرجات الثورة ولا فكر بمآلاتها  ولا انتظر قليلا حتى تهدأ عواصفها بل قاده الشوق الى البلد والأهل طوعا الى عودة سريعة متلهفة. يومان أو ثلاثة بعد فرار المخلوع من سلطانه كانت كافية ليجمع ما تيسّر من أغراضه ويعود تاركا عمله وبيته ودنيا اعتاد أن يحياها هناك فى بلاد الألمان ويعود لا يرجو الاّ لقاء الوطن الذى أخرج منه قسرا الى منفى طويل .حدّثنى أنه لم يفكر بشئ بل تعجل قراره عائدا الى الوطن الذى أحبه والأهل الذين اشتاق اليهم وليس فى ذهنه سوى أن الثورة قد هبّت على الوطن بريح طيّبة وأن ما ترك البلد من أجله قد صار على مرمي ججر.
خرج فرج الى بلاد الألمان فارّا بعد معانات مع الإعتقال والسجن والتعذيب.  فقد أخذه البوليس السياسي من أمام كلية الآداب بعد اجراءه امتحان وكان ينوى أخذه من القاعة أصلا لتنطلق رحلة مرّة لم تنتهى مصائبها بفراره إلى ألمانيا فقد ظلّ النظام يلاحقه هناك ويكيد له ويحرّض البوليس الألمانى عليه حتى يئس من مبتغاه بعد أن تمت مراقبته مراقبة شديدة لم تفض الى شيء
حين قرأت نعيه أدركت أننا خسرنا بموته جميعا وكان هو الفائز الوحيدة. لم يطأطئ رأسه ولم يتملّق، فرحل حرّا شريفا كريما ولم يترجّل عن فرس النضال والإباء وظلّ الى آخر يوم يجاهد من أجل حقـّه حتى حصل عليه وتلك سمة الرّجال الشجعان الذين لا تثنيهم المصاعب ولا المكائد بل إن الرجل رفض أن يتقاضى مرتبا لقاء عمل لم يعمله وانتظر صابرا محتسبا حتى تسنى له أن يحصل على ما يتيح له أن يأخذ أجره فى إيباء تام لا يدرك كنهه الا عظام الرّجال.لم يخسر معركته ولا أتعبه طول الإنتظار ولكن ساءه ما لقيه من وطن أحبه وكابد من أجله مشقـّة أخذت منه أجمل السنين، وطن ظنّه تحرّر من الظلم والتمييز والحقد والكراهيّة، فاكتشف أن الحاقدين والظالمين غيّروا وجوههم فقط ولكن شيئا من أمر الوطن لم يتغيّر .
اتفق لي أن سألته هل تخاف على الثورة، وكان ذلك  بعد عودته من رحلته الى ألمانيا التي وقع فيها كتابا أصدره باللغة الألمانية عن الثورة التونسية، فأجابني بأن للبيت ربّ يحميه وللثورة كذلك ربّ يحميها، من دون أن يشكّ في نجاح الثورة ووصولها الى بر الأمان ولم يكن ذلك ألا من شدة ايمانه ونقاء سريرته وربما كانت رؤية الفيلسوف الذي يري ما وراء الأكمّة ويتبيّن الزّبد مما ينفع الناس. غير أنّي أكاد أجزم أن الثورة هي التى غدرته وقد عاد اليها مفعما بروح الفعل وقوة العطاء، فحولته كما حولــــت غيره من الرجـــال الصادقين الــى فراغ الإنتظـــار.لم توفه الثورة ولا من استنبتتهم من الثوريين حقه الذى يليق به كمناظل أفني عمره فى سبيل وطن ترتع فيه الفراشات من دون أن تحرقها النّار، وطن يستطيع كل الناس العيـــش فيه على قدم المساوات يعمل فيه الجميع من أجل أن يكون منارة تهتدي بها بقيـــة الأوطــان، لا وطن يرتع فيه الأشباه والأشباح ويبقى فيه ذات المتنفّذين من رعــاة الدكتاتورية والمتوهّمين لأوطـان تخصّهم وحدهم ليس للناصعين والصّادقين من أمثاله مكان فيه .
لو كان أخي فرج قاني الحمرة أو غربي  الهوي، لأقيمت له المآتم ولتفانى الأشباه في تعداد خصاله وربما أكره البلد كله على الحزن عليه، ولكنه كان إسلاميَّ الهوى، صادق المعتقد لا يستطيع أن يرى فى هذا البلد إلا منارة من منارات الحضارة الإسلامية ولذلك حورب حيّا ونُسِيَ ميّتا ولولا أن نعاه منتدي الفارابي وحركة النهضة لكان موته موتا عابرا ولكان طواه النسيان.
ليس كمثل الموت شيء في دنيا الناس هذه، تعددت الأسباب والموت واحد.وسوف يكون موت رجل في علو أخي فرج حدثا مهيبا لزمن طويل عندنا نحن الذين عرفناه وعند اللذين صادقوه ورافقوه وألف النّضال ومقاومة الطغيان بين قلوبهم وستبقي حياته القصيرة نجما يضيء بنوره الوقّاد دنيا ابنتيه وزوجه لا ليلفهم بحزن أبدي ولكن ليعطي حياتهم ذات المعنى الذي أراده فرج لبنتيه وزوجه وهو معني الحياة في كنف الحق والإنحياز الدائم إليه في كل معركة، مستأنسين بقيم دين عظيم جعل الدنيا بلاغا للآخرة وجعل الآخرة دار الخلد والجزاء بعدكدح طويل. رحم الله أخي فرج و أسكنه فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون  .