رسالة المغرب

بقلم
فؤاد بوعلي
معركة التعليم: اللغة العربية في المدرسة المغربية

 تتيح قراءة الوضعية اللغوية بالمغرب معرفة دقيقة بالنسيج اللغوي للمدرسة والإشكالات المرتبطة به. فقد تبلور المشهد اللغوي في المغرب عبر مراحل متعددة تفاعلت خلالهــــا عناصر تاريخية وحضارية وثقافيــــة وسياسيـــة أسهمت في بناء الوضع الحالي المميــــز على الخصوص بوجود العربيـــة في منافسة غير متوازنة مع اللغات الأجنبيــــة باعتبارها المدخل الطبيعــــي لسوق الشغـــل. فقد توصّل البرنامج الوطني لتقويـــم التحصيل الدراسي الذي أنجزه المجلس الأعلى للتعليم حول مدى إدراك التلميــــذ المغربي لثلاثة مواد أساسية هي الرياضيات والفرنسيــــة والعربيــــة، إلى أن غالبية المتعلمين في الأسلاك المختلفة غير متمكنين من المهارات القرائية، والعربية منها على الخصوص. وتشير الدراسة إلى أن المتمدرسين يعانون مشاكـــل على مستـــوى الرصيد المعجمي وعلى مسـتـــوى فهم المقروء واستثماره، وعلى مستوى الإنتاج الكتابي، كما يعاني غالبية التلاميذ من صعوبات في التعبير والإنشاء على المستوى المعرفي والمنهجي واللغوي. وهذا نتيجة للعجز المتراكم في مجال القدرات القرائية وضعف تحصيل الموارد اللغويـــة. وتعزو الدراسة هذا التدني في المستوى إلى كون برنامج اللغة العربية بالمدرسة المغربيــــة كثيف جــــدا، تتداخل فيه كثيــــر من دروس الصرف والنحو التجريديــــة ويغلب عليه الطابع المعياري في تناول القواعد على حساب الجانب التواصلي والوظيفي للغة مما يحد من درجة التحصيل (1).

وقد لا يحتاج الأمر إلى دراسة لكي نصـــل إلى أن الوضعية التي وجدت العربية نفسها فيه داخل المدرسة المغربية تتميز بتهميش شبه مطلق مقابل الاهتمام الفائـــق باللغات الأجنبية. والواقع، أن هذا التهميش طبيعي عندما نربطه بالواقع الاقتصادي والاجتماعي للأمـــة في ظل غيـــاب مجالات واقعيــــة لتوظيف لغة الضّاد التي وجدت نفسها سجينة الكتب القديمــــة والخطب الدينية والسياسيــــة والأحاديث الوجدانيـة. فصحيح أن حضور البعد الهوياتي ضروري في بناء شخصية المتمــــدرس، لكن تبيئــة  socialisation  اللغـــة من خلال إدراجها في برامج التنميـــــة وإعطائهـــا طابعـــا وظيفيا هو الذي سيؤهلهــا للقيام بدور جوهري في التلقين ونشر المعرفة. وهذا ما لم يتحقق لمنهاج العربية في المدرسة سواء من حيث المحتوى أم من حيث منهجية التدريس. وقد أدت هذه الوضعية إلى جعل العربية لغة مدرسة من بين اللغات الملقنة في التعليم، بدل كونها لغة تدريس للمواد المختلفة كما تبدو من خلال اعتماد رؤية منهاجية غير متكاملة، من حيث الكفايات المستهدفة وطرائق التعلم والتقويم، وغياب أطر مرجعية للكفايات اللغوية، وغلبة الجانب الكمي ومحتويات لتعليم اللغة العربية لا تعكس دائما المضامين المرتبطة بجمالية هذه اللغة وجاذبيتها (2) .
ويكتشف المتأمل في مختلف مشاريع الإصلاح التي بلورتها الدولـــة في مقارباتهـــا المختلفة منذ الاستقلال فشل واضطراب السياسة العمومية في الانتقال بالعربية إلى مصاف لغات التدريس. «ويكفـــي أن نذكر أن أول مشروع تعليمي أقره المغرب غداة الاستقلال أكد ضرورة اعتماد اللغة العربية لغة رسمية للتدريس، واعتبر أن مبدأ التعريب هو أحد الأعمدة الأربعة التي سيقوم عليها إصلاح التعليم بالمغرب، والمحددة في التوحيد والتعميم والتعريب والْمَغْرَبة. وقد أعلن وزير التعليم آنذاك محمد الفاســـي في ندوة صحفية في نهاية السنة الدراسية 1955 ـ 1956م أن اللغة الأساسية للتعليم هي اللغة العربية. غير أن الازدواجية ستظهر في أول خطوة تطبيقية بحيث أقرت اللجنة نفسهـــا في اجتماعها بعد سنتيـــن أي سنة 1958م تدريس العلوم باللغــة الفرنسيــــة، منذ القسم الأول» (3).  وقد بقي هــذا التعامــــل سائدا في كل مشاريع الإصلاح والمقاربات المعتمــــدة وصولا إلى المقاربة بالكفايــــات التي تبنتهـــــا وزارة التعليم وسنتها في مختلف أســـلاك التعليم. فجل الحديث يدور حاليا حول كيفية تدريس أنشطة اللغة العربية باعتبارها مادة من المواد الملقنة. 
ففي إطار التحولات التي عرفتها السياسة التربوية والاهتمام المتزايد بالمتعلّم ودوره في العملية التعلمية أصبح النسق التربوي متمركزا حول المتعلّم. لذا رسم مسار التدريس من خلال جملة من الأنشطة البيداغوجية لمكونات اللغة العربية (التعبير، القراءة الوظيفية، الكتابة الإنشائية..) انطلاقا من جملة من الكفايات التي ينبغي توفرها في المتعلّم . ففي المرحلة الأولى تحدّد الكفاية في «أن يتواصل المتعلّم حول موضوع الدرس بالنسق العربي الفصيح»، والهدف من الدرس «إقدار المتعلّم على التعبير الشفهي حول موضوع الدّرس مستعملا رصيدا لغويا وبنيا أسلوبية وتركيبية وصرفية محددة»، من خلال وسائل سمعية وبصرية وأخرى مختلفة. وفي عملية التخطيط هذه يؤخذ بعين الاعتبار جعل المتعلمّ يستضمر النسق اللغوي العربي الفصيح ببنياته الأسلوبية  والتركيبية والصرفية والمعجمية على شاكلة استضماره لنسقه اللغوي الأم. وفي جميع الأحوال يتعامل مع العربية كلغة مدرسة يماثل الاهتمام بها الاهتمام باللغات الأخرى من حيث الكفايات المطلوبة والأهداف المتوخاة، وليست لغة قومية ورسمية دستوريا. ونفس الأمر نجده في القراءات الرامية لبلورة رؤية قصد الارتقاء بتدريس اللغة العربية والتحكم في كفاياتها؛ تربويا ومعرفيا وتواصليا، حيث ركزت في توصياتها على الربط بين التمكّن من الكفايات اللغوية والسياسة التربوية وبرامج العمل لتجديد اللغة العربية وتأهيلها وتطوير سبل تدريسها والتحكم في كفاياتها ووظائفها (4). وإذا كان الميثاق الوطني للتربية والتكوين قد أقرّ جملة من الإجراءات لتعزيز مكانة اللغة العربية في التعليم المغربي من بينهـــا: تأسيس أكاديمية للغة العربية، واعتبار مادة اللغة العربية إجبارية في جميع التخصصات، والدعوة إلى إنشاء مسالك تعتمد التدريس باللغة العربية في كليات العلوم بالتعليم العالي، فإن ذلك لم يمنع من إعــادة التمكين للّغة الفرنسية لغة للدراسة ولغة للتدريس مع إدخال تدريس اللغة الإنجليزيــــة ابتداء من السنوات الأولى للابتدائي، إضافة إلى تدريس الأمازيغية؛ وهو ما يعتبر تجنياً على التلميذ المغربي الذي سيجد نفسه في سنواته الدراسية الأولى أمام خيارات لغوية متعددة تحرمه من إتقان اللغة العربيــــة، والانفتاح الموزون والمتدرج على اللغات الأخرى، كما تعتبر هذه الإجراءات ضارة بمكانة اللغة العربية في النظام التعليمي رغم ما قرر في شأنها من إصلاحات؛ وهذا يدل على طابع التوافقات السياسية، وهاجس التوازنات الذي لا زال يلقي بظلاله على الخيارات التربوية، في مجال التعليم والتربية، منذ عهد الاستقلال إلى الآن (5).
الهوامش
(1) المجلـــــــس الأعلــــى للتعليـــم، دفاتر التربيــة والتكويـــن، ( الرباط، العدد الرابع -27-04-2011)، ص36 .
(2) أنظر : سعيد بنكـــراد ، نتائج أعمال الورشة المتخصصة حول اللغـــــة العربية في المدرسة المغربية، (ندوة المجلس الأعلى للتعليم :تدريس اللغات وتعلمهــا في منظومـــات التربية والتكويــــن: مقاربات تشخيصية واستشرافية، الرباط 20 و21 أكتوبر 2009).
(3) خالد الصمــــدي، جوانب مـــن تأثيـــــر الفرنكوفونيــــة في نظام التربيــــة والتعليم بالمغــــرب،( مجلة البيان، المنتدى الإسلامي،العدد33)،ص177
(4) سعيد بنكراد ،نتائج أعمال الورشة المتخصصة حول اللغة العربية في المدرسة المغربية.
(5) انظر: خالد الصمدي، ص