من وحي الحدث

بقلم
اسماعيل بوسروال
بين حمار الحوار الوطني وسباق الخيول العربية الاصيلة

 أثارت سبق اللســـان  أو  «زلّة اللّســــان»  لدى المتحــــدث باســم الرباعي «الراعي للحوار الوطني» في تونس شتّى التعاليق السّاخرة وغير الساخرة. فقد تعثّر رئيس الرابطة التونسية لحقوق الانسان أكثر من مرة لينطق لفظ «حوار» وكان لسانه يتّجه الى عبارة «حمار» وتوقف عندها ليسجل التاريخ وقوف الحوار الوطني عند «الحمار».

وبلا شك فإن التونسيين يتذكّرون مسرحية الفنان السوري دريد لحّام متقمّصا شخصيّة «غوّار الطّوشي» عندما سأل عن الدستور قائلا: «أين الدّستور؟»، فأجابه صديقه  : «أكله الحمار». ولمّا أراد أن يتثبّت ويتأكّد أعاد «غوار الطوشي» الســـؤال على مخاطبـــه : «أين الدّستور؟» فأجابه رفيقه مؤكدا: «أكله حمـــــــار الضيعة».
أثارت في نفسي هذه اللقطة المعبّرة حادثة عشتها في ربيع 1970 أمام المعهد الثانوي بالمنصورة –القيروان- تتطلب نوعا من السّرد التاريخي والاجتماعي لما لها من دلالات تتعلق بالأحداث الراهنة.
كان الفصل ربيعا مبشّرا بصابة في جميع مجالات الإنتاج الفلاحي، إذ أن فيضانات سبتمبر وأكتوبر 1969 وبعد لملمة آثارها السلبية ظهرت نتائجها على فلاحة المزروعات من حبوب وبقول وعلى إنتاج الأغنام والأبقار. وبدا الوضع الاقتصادي يستعيد عافيته خصوصا بعد وقف تجربة التعاضد.
كانت القيروان محطة مركزية في سياسة الحكومة «الاشتراكية» في الستينيات وكان الوالي ( المحافظ) أحد المنظّرين الرّئيسيين لسياسة التّعاضد ومن أبرز المتحمسين لها وقد بذل أقصى جهوده لتعميمها.ولمّا قرّر الزعيم الحبيب بورقيبة التّراجع عن «التّعاضد» مسح الأخطاء كلّها في وزير الاقتصاد وثلاثة ولاة من بينهم والي القيروان. فكانت القيروان تحتاج إلى لمسات جديدة تضمّد جراحها من خسائر التعاضد المعنوية ومن خسائر الفيضان المادية. تمت برمجة احتفالات تنشيطية خلال عطلة الربيع 1970 تمتد من عيد الاستقلال 20مارس إلى الأسبوع الأول من شهر أفريل. ومن بين الفقرات التي تشدّ المواطنين، فقرة قارة كلّ يوم هي «سباق الخيول» حيث تمّ تهيئة مركض مقابل للمعهد الثانوي بالمنصورة وإعداد منصّة شرفية للمشرفين على الاحتفالات والذين يتولّون تسليم الجوائز للفرسان الفائزين وللجياد الرابحة .
كان سباق الجائزة الكبرى للخيول العربية الأصيلة ذات صباح ربيعي منعش في ضاحية المنصورة القيروانية يستقطب جزءا هاما من المتفرجين، لاسيما وأن المدينة تحظى بتنشيط متميز لإحياء الهمّة الوطنية وتجديد حيوية النظام البورقيبي من الدّاخل بوجوه جديدة وبفعاليات ثقافية متعددة.
كنت ضمن الشباب الفضولي أقف مباشرة بجانب المنصّة الشرفية التي تضمّ ممثل الحكومة المركزيّة والوالي وكبار «المناضلين» الذين حرص النظام على استيعابهم من جديد وفي مقدمتهم «القائد العجيمي بن مبروك» رحمه الله. وهو شخص له مكانة خاصة لدى «المجاهد الأكبر» لاسيما وأن «القائد العجيمي»  هو من جهّز حصانا أنيقا ومظلّة من ريش النعام للزعيم بورقيبة يوم عودته من فرنسا يوم غرة جوان 1955 الذي سماه «عيد النصر». وصورة الزعيم وهو يمتطي صهوة ذلك الحصان ظلت مرسومة في الكتب المدرسية إلى حين إلغائها بعد الانقلاب النوفمبري. و«القائد العجيمي» له قيمة اعتبارية في الأوساط الشعبية ولدى العروش والقبائل – وفق المفهوم القديم – لأنه مكافح ضد الاستعمار ومجاهد حمل السلاح للدفاع عن الوطن وقاد مجموعات من «الفلاّقة» الذين صعدوا إلى الجبال أيّام الثورة التونسية المسلحة. وأتذكّر أن من بين الشهداء الذين سقطوا في معارك حرب التحرير أحد جيراننا رحمه الله وكان مقاتلا تحت إشراف «القائد العجيمي» وبذلك تأكّدت وأنا طفل صغير أن «القائد العجيمي» مقاتل حقيقي من أجل الاستقلال لا شك في ذلك وتأكّدت من «شرف الكفاح» الذي ناله من شهادة المقاتلين الذين جاهدوا معه وحكاياتهم. فكان رجلا عظيما في عيون الشباب لأنّه رمز وطني له مصداقية المجاهدين .... ومع أنني لست مع تدريس التاريخ  من وجهة نظر المنتصرين، فإنني أقصّ تلك الأحداث من باب إغناء السرد بتفاصيل تضفي على المقال حيوية محبّذة.
كان سباق الجائزة الكبرى مسبوقا بفقرات غنائية تبثّها إذاعة محليّة أعدتها مصلحة الثقافة، أمتعتنا بأغاني صباح وفيروز وعبد الحليم وفريد ...ثم قدمت الخيول المتسابقة وإسطبلاتها التي تربّت فيها  ومالكيها الذين رعوها  وفرسانها الراكبين الذين سيروضونها لتسابق الريح وتفوز بالجوائز.
كان السباق هو الأطول والمثير ...شهد تقلبات عديدة حيث لم تنفصل الكوكبة عن بعضها الا في المنعرج الأخير، منعرج الهروب، حيث انفصل جواد  القائد عين وجواد الشيخ مطر ... فاشتدّ بينهما التنافس ... وانتهى السباق بفوز جواد «الشيخ مطر» بالمرتبة الأولى وجاء جواد «القائد العجيمي» في المرتبة الثانية. و «الشيخ مطر» من أثرياء الجهة وكان من وجهاء القوم في عهد الاستعمار وأجداده كانوا دوما يمارسون السلطة ومقرّبين من البايات وكانوا نظافا غير مورطين في قضايا ولكنهم اعتبـــروا من رجالات الحــــرس القديم. وعندما جاء الاستقلال تقلّص نفوذهم ولكنهم بقوا أثرياء يملكون العقارات والمزارع والمواشي ... وكانت سعادتهم غامرة لفشل سياسة التعاضد لأنهم عارضوها بشدة واستعادوا ثقة الناس فيهم وعادت إليهم أملاكهم التي صادرها «تعميم التعاضد». وكان أحد أوجه استعادة صورتهم المشرقة هو تربية الخيول العربية الأصيلة والمشاركة في السباقات الجهوية والوطنية ووجدوا في ذلك تعويضا عن الدور السياسي الآفل وسبيلا لاستعادة المجد التّليد.  
كنّا ننتظر أن تعلن الإذاعة المحلية عن نتائج السّباق...واستعدّ النّاس للاحتفــال بالفرســــان الأبطال ... وكان «الشيخ مطر» واهله يتقبلون التّهاني  ... كنّا ننتظر تسمية الخيول الفائزة بالمراتب الأولى ولكن خيّم صمت على المنصة الرسمية وسكت المذيع وبقينا ننتظر حائرين.
بعد برهة تقدّم «القائد العجيمي»  إلى المصدح المثبت في واجهة المنصة الرسميّة وشرع يلقي كلمة بدأها باسم الله والصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وسلّم ) وسلّم على الجماهير الحاضرة، ثمّ أعلن أن السّباق لاغ وباطل ويجب أن يُعاد لأنّ «الدّيبار غالط» هكذا نطقها وهو يقصد أنّ « الانطلاق غالط» أي أنّ المتسابقين لم يحترموا إشارة الانطلاق، ولذا فنتائج سباق الجائزة الكبرى لاغية ويجب إعادة السباق  من جديد.
انتاب الذهول الشباب الحاضر خاصة وهو الجيل الطامح إلى حياة سياسية واجتماعية لا مجال فيها للميز والظلم والمحاباة ... وعلت الدهشة وجوه المشاهدين الحاضرين ... وتوجه الفارس الفائز بالسباق  والمتعاطفون معه إلى المنصة الرّسمية قصد مخاطبة الوالي ( المحافظ) وممثل الحكومة المركزية إلاّ أنّهم منعوا من الاقتراب من المسؤولين الحكوميين  ولكنهم أسمعوا احتجاجاتهم وبلغت أصواتهم التي أجابت عنها ابتسامات المنصة الرّسمية وكأنها تقول لهم لا قدرة لنا على مواجهة أحكام «القائد العجيمي»  فهو صديق حميم للمجاهد الأكبر وهذا سبب كاف ليكون «الحاكم بأمره» ولا قدرة لنا على مواجهته .
نزل الصف الثّاني من المنصة الشرفية واتجه صوب الفرسان المشاركين في السباق وتحادث مع المالكين الأصليين للخيول المشاركة. هدأت بعد ذلك النفوس تدريجيا وأقنع المحاورون جميع الفرسان بإعادة سباق الخيول العربية الأصيلة.
وأعيد السباق. وعند منعرج الهروب تميّز المشهد  بتفوّق جواد «العجيمي» وانفصاله عن كوكبة الخيول المسافة وقيادته السباق. فحقق فوزا باهرا بعيدا عن جواد «الشيخ مطر» وغيره من الخيول. انشرحت وجوه الجالسين في المنصة الرسمية وتبادلوا التهاني مع «القائد العجيمي» واسترسلت الإذاعة الداخلية في التعريف بالفائزين وبث الموسيقى المرحة والزغاريد.
كنت ضمن الشباب الحاضر لذلك المشهد السريالي الغريب وغير المعقول، نتساءل كيف يكون أحد المشاركين في السباق ( القائد العجيمي ) هو نفسه الحَكمٌ الذي يقرّر عدم  صحة النتائج ويطعن في «الانطلاق» ويصمّم على إعادة سباق ما دام جواده لم يكن الفائز الأول فيه، ويكسّر قواعد اللّعبة. ثمّ تتم إعادة السباق وفق إرادته  ويفوز جواده بالجائزة الكبرى!!!!!
كنا نتساءل عن المسافة التي تفصل الطبقة السياسية من  التونسيين عن «العقلية الديمقراطيـــة»  والقبــــول بنتائج سباق خيـــل أو نتائج صندوق اقتراع ينزع السلطة من حاكم ويمنحها لآخر ويقبل الطرفان  بالأحكام.
وفي سنة 1979 أراد الحزب الاشتراكي الدستوري توسيع دائرة الديمقراطية داخله فبعدما كان عدد المترشحين يكون بعدد المقاعد تحت شعار «لا إمساك ولا تشطيب». قررت قيادة الحزب آنذاك التخلص من تبعات الصدام مع الاتحاد العام التونسي للشغل وتبعات «الخميس الأسْود 26 جانفي 1978» وذلك بإجراء انتخابات تشريعية في ظلّ الحزب الواحد ولكن بقائمة مرشحين تضمّ ضعف عدد المقاعد يتولى الناخب الاختيار و «التشطيب» ... وهي مرحلة متقدمة في الممارسة السياسية في تونس إذ كان من شأنها «دعم النفس الديمقراطي» داخل الحزب الاشتراكي الدستوري.
كان من نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 1979 «سقوط» بعض الوجوه المعروفة وبعض القيادات الوطنية. سقوط بالمعنى الانتخابي أي عدم الحصول على مقعد في البرلمان. ففي القيروان لم ينجح «القائد العجيمي» و في صفاقس لم ينجح وزير الشؤون الاجتماعية «محمد بن جمعة» و في قابس لم ينجح «حسين المغربي» المدير المساعد للحزب الحاكم آنذاك. وتقدّمت طعون في النتائج. وفي الأثناء قدّم التلفزيون الرّسمي في نشرات الأخبار «استقبال» المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة للقائد العجيمي بن مبروك ...وفي الغد صدر بلاغ عن وزارة الداخلية التونسية يشير أنه تمّ النظر في الطعون وتمّ قبول الطعن في نتائج الانتخابات التشريعية في ولاية القيروان وتقرّر إعادتها وتم رفض بقية الطعون !!!!
كان واضحا أن «القائد العجيمي بن مبروك» شكا إلى الزعيم الحبيب بورقيبة خسارته للانتخابات التشريعية واعتبرها إهانة له ولنضاله ولكفاحه ولصورته كقائد وطني ساهم في استقلال تونس ومن الواضح أن المجاهد الأكبر استمع بانتباه إلى «عدم قبول» صديقه الحميم «القائد العجيمي» لخروجه في صورة «المهزوم»أمام منافسيه في القائمة الانتخابية . 
وتمت إعادة الانتخابات التشريعية في القيروان 1979 لأن «القائد العجيمي بن مبروك» خسرها  كما تم إعادة سباق الخيل سنة 1970 لان حصان «القائد العجيمي بن مبروك» لم يفز بالجائزة الأولى وكما أخذ والي القيروان بخاطر «القائد العجيمي» وأعيد سباق الخيول سنة 1970  ...أخذ المجاهد الأكبر بخاطر «القائد العجيمي» سنة 1979 وقرّر إعادة الانتخابات التشريعية في دائرة القيروان .
كانت انتخابات 23 أكتوبر 2011 علامة فارقة في التاريخ التونسي الحديث فهي تعدديّة نزيهة شفافة، ولكنها ذكّرتني بسباق الخيول العربية الأصيلة في القيروان سنة 1970. فلم يقبل بنتائجها من خسر السّباق الانتخابي منذ أول لحظة، فقرروا محاربة الفائزين بكل الوسائل. فالعقلية بقيت على شاكلة عقلية سباق الخيول في القيروان  عام 1970 إمّا أن أكون أنا الفائز أو فإن الـــ «ديبـــار غالط». فقد قال صحافيون ومثقفون منتسبون إلى التيارات التي كانت نتائجها ضعيفة في الانتخابات : «أنّ الشعب التونسي ساذج ...الشعب التونسي غالط...» مادام لم ينتخبهم ...لقد عجبت لثقافة  التيار الشيوعي الذي جنى الفوائد والأرباح من النظام النوفمبري ...كانت لهم دور الثقافة ومحطات التلفزيون والآفاق العلمية والجسور المفتوحة مع الغرب ومنظماته المعتنية بحقوق الإنسان التي تهتز عندما يمسّ النظام أبسط حقوقها ولا تنبس بكلمة عند سجن الإسلاميين وتعذيبهم وقتلهم أثناء التحقيق وتطليق نسائهم وتشريد أبنائهم و «خلاء بيوتهم».
إنّني أعبّر عن خيبتي من «نقص عقول» المثقفين اليساريين التونسيين بمجرّد الإعلان عن نتائج انتخابات 23 أكتوبر،حيث استمعت بأذنيّ وأنا صاح وواع وعينيّ مفتوحتان إلى الشاعر «المنصف الوهايبي» والصحافي «توفيق بن بريك» في محطات إذاعية في برنامجين مخصصين للحديث عن انتخابات المجلس التّأسيسي وكان حديثهما « أنّ الشعب التونسي ساذج ...الشعب التونسي غالط... مادام قد انتخب الإسلاميين متمثلين في النهضة والعريضة الشعبية» لقد ذكرّني كلاهما بسباق الخيول العربية الأصيلة في القيروان 1970 و «الديبار الغالط» مادام لم يفز حصان «القائد العجيمي» بالمرتبة الأولى ...
لقد تابعت وقوف القوى الغربية والاتحاد الأوروبي وصحافيون بلا حدود مع «توفيق بن بريك» عند إعلانه «إضراب الجوع» في عهد بن علي، ونزول أرملة «فرنسوا ميتران» إلى تونس لمساندته. في حين لم تكلف هذه المنظمات نفسها إصدار بيان مساندة للمساجين الاسلاميين والقمع البشع الذي سُلّط عليهم. وأورد هنا مثالا من الواقع الذي عاشته مدرسة ابتدائية في ولاية سيدي بوزيد – شغلت في وقت سابق خطة مدير لها - حيث تم سجن عدد من المعلمين بتهمة «الانتماء إلى جمعية غير معترف بها»  لمدة ثلاث سنوات ونصف مع مراقبة إدارية لخمس سنوات أو عشر سنوات ...أثناء السجن تم إجبار إحدى الزوجات على الطلاق وبعد الخروج من السجن منع الزوج من العمل ومن التحرك ومن التنقل وأجبر على التفريق بينه وبين زوجته وأبنائه ...وقد تطلّب الأمر كثيرا من المعاناة والصبر لرأب الصدع الأسري وتخفيف الضغط بتدخل العائلات ... إن مثل هذه المعاناة كثيرة ولكنها لم تكن تثير ضمير «المجتمع المدني» ولا «المنظمات الحقوقية» في الداخل والخارج .
وإني أتذكر موقف الأحزاب اليسارية التي لم تقبل نتائج الانتخابات من خلال خطتها المعلنة لتعطيل أشغال المجلس الوطني التّأسيسي واعتبار الانتخابات أداة غير سليمة لاختيار ممثلي الشعب ...كما إن إغفال أعضاء المجلس التّأسيسي الإشارة إلى موعد انتهاء العهدة النيابية التأسيسية ينبئ عن رغبة في الالتزام بالتعهد القبلي وهو نوع من «التشبث بالكرسي» على شاكلة سباق الخيول العربية الأصيلة في القيروان 1970 وعدم التفريط في «الجائزة الكبرى» التي تم الحصول عليها ذات مرّة .
إن عقلية النخبة السياسية التونسية في معظمها متشابهة تجاه «التداول السلمي» و «قبول نتائج صندوق الاقتراع» فهذه النخبة لا ترضى بغير الفوز الأبدي بالجائزة الأولى في سباق الخيول العربية وإذا لم تفز فلن تقبل بقانون اللعبة لأن التفكيرالسياسي في تونس بقي  أسيرا للتبرير الموروث « الديبار غالط» «وعدم قبول النتيجة على شاكلة القول الشهير « هو قبول ولكننا لا نقبل بمثل هذا القبول»!!!.