الكلمة الحرّة

بقلم
يسري بوعوينة
شهريات ...شهريات... لا بطالة مدى الحياة

 الشعار الشهير الذي رفع خلال حكم اللصّ المخلوع «حريات حريات... لا رئاسة مدى الحياة» كان أحد النواقيس التي دقت لطاغية نوفمبر بأن الساعة قد أزفت وأن زمن التغيير الحقيقي حان..السيد الرئيس البنفسجي لم يصغ جيّدا للشعار ولم يفهمه إلا يوم جاءه الإشعار أن لا مقام له بيننا فركب الطائرة وقصد بلاد «الحرامية» (وليس الحرمين) لتبدأ صفحة جديدة في تاريخ تونس عنوانها الأبرز الثورة والشعب يريد...الثورة المغدورة في تونس فشلت إلى حد الآن في جعل شعار «حريات حريات ... لا رئاسة مدى الحياة» أمرا واقعا، فالحريات إقتصرت على حرية السباب ومواقع التواصل الإجتماعي، وهي أحد جنود الثورة، أصبحت مواقع للخصام الإجتماعي. أما مرض الرئاسة مدى الحياة فانتقل من السلطة إلى المعارضة التي حافظت على نفس الوجوه القديمة الهائمة حبّا بالكرسي العزيز على القلوب فكانت كاللائم غيره وهو أولى بالتعليم.

اليوم هناك شعار آخر يجب أن يرفع وأن يسمعه أولو الأمر منّا قبل أن تتكرر القصة...يجب أن يصيح الجميع اليوم « شهريات، شهريات... لا بطالة مدى الحياة». ولا بأس وقد نسبت لنفسي شرف إبتكار هذا الشعار أن أفسّر ما غمض فيه وإلتبس.
«الشهرية» بلهجتنا التونسية نقصد بها المرتب..ونقول «شهرية» كناية عن الإنتظام والتشابه. فالمرتب لا يزيد فلسا إلا بعد أن تقوم الدنيا ولا تقعد. لذلك يبدو المرتّب الذي يقبضه الموظّف التونسي جامدا لا يتغير ولا فرق بالتالي بين جويلية وسبتمبر وجانفي...فكل شهر نأخذ نفس المبلغ من النقود.
«الشهرية» هي اليوم حلم الشباب...لم يعد مهمّا أن تكون الشهرية هزيلة أو أنها تتنطط كالغزال الرشيق على مختلف أيام الشهر دون أن يكون لها موعد محدّد.. المهم أن نكون من القلائل الذين أنعم الله عليهم وحازوا على عمل يقيهم ويلات البطالة...إننا اليوم في زمن يتقدم فيه 100 طالب شغل لفرصة عمل يتيمة.. في زمن الحاصل فيه على عقد توظيف كالحاصل على جائزة نوبل للإقتصاد...الذين يجلسون في المقاهي كل يوم في بلادنا يتجاوز عدد العمال والفلاحين والتلاميذ والطلبة مجتمعين..يدرس البعض منا عشرات السنين ليحصل على عشرات الدنانير فقط...الثورة غيّرت الوجوه ولكنها لم تغير بعد السياسات و لذلك من الواجب أن نواصل في نفس النهج..بالأمس صرخنا في الوجوه البنفسجية واليوم في الوجوه الزرقاء وغدا في وجه أيّ لون..المهم أن نصرخ وأن يسمع العالم كله صياحنا...نريد عملا وشهرية تفتح لنا أبواب الحياة التي نحن اليوم على هامشها..شهريات شهريات هي الجزء الثاني من القصة وكاتبو السيناريو هم العاطلون عن العمل والذين تغلي قلوبهم قهرا وألما و هم يرون أعمارهم تذوي وخريف عمرهم يقترب وهم مازالوا يحلمون بشهرية. الذي فجّر الثورة الأولى هو بائع متجول وليس منظّر سياسي ولا قائد جماهيري لأن الثورة تدعو أبنائها وليس أبنائها من يقررون تاريخ ولادتها..الثورة تسكن في قلب كل إنسان مظلوم حتى إذا آن الأوان فحتى القشة تقصم ظهر البعير...قد لا أفقه كثيرا في السياسة ولكني أعرف جيّدا أن كل رجال السياسة في تونس وإن برعوا في الكلام فهم فاشلون وفاشلون بإمتياز في الإختبار الإقتصادي...لا أحد يملك برنامجا واضحا لإخراج البلاد من أزمتها الإقتصادية والمالية ولا أحد يدري ماذا يخبأ لنا الغد الإقتصادي؟ إن الحريات والحقوق المدنية وحقوق الإنسان هي مساحات للجدال النظري وإستعراض العضلات الفكرية أما المال والأعمال فالجميع لا يملك لها حلاّ سواء كان المتحدث دستوريا أو إسلاميا أو قوميا أو يساريا..الشذرات من هنا و هناك لا تصنع برنامجا متكاملا وربما تونس بحاجة إلى خبراء إقتصاد أكثر من حاجتها إلى خبراء دستوريين.
الجزء الثاني في الشعار هو «لا بطالة مدى الحياة» عوض لا رئاسة مدى الحياة..الرئيس يختار البقاء على الكرسي عن عمد ويجنّد كل الجهود للبقاء في السلطة..العاطل على العكس يجبر على الجلوس على الكرسي (في المقاهي غالبا) رغم كل الجهود التي يبذلها لينهض بنفسه وحاله...في تونس البطالة لم تعد إختيارا ولكنه قدر...ليس من السهل أن تجد فرصة عمل هذه الأيام وحتى تلك الأعمال المهينة التي يقوم بها العاطلون فهي مسكنات تزيد من ألمهم و قهرهم...البطالة هي حكم قاسي على الشباب أو إعدام إجتماعي لهم ولكم أن تتخيّلوا كل هذا الحشد من الطاقات المعطلة في البلاد التي لو وجدت الظروف المناسبة لجعلت من تونس جنّة خضراء تحسدها روما وباريس..الظروف المناسبة غير موجودة الآن ولكننا لن نستسلم وسنصنعها...قد يحتاج الأمر وقتا..لا يهم فسلاح المثابر الصبر...المهم أن لا تبح أصواتنا بأننا لم نخلق للبطالة وأن أيادينا مجعولة للإنتاج لا لوضع مطالب العمل في مكاتب إستقبال الشركات والإدارات العمومية وأن عقولنا مجعولة لتفكر في غد أفضل وليس في الحرقة والبرومسبور.