في الشأن الوطني

بقلم
اسماعيل بوسروال
هل يستفيد التونسيون من دروس الأشقّاء ؟

 يتأكّد علينا نحن التونسيين أن نحرص أكثر من أي وقت مضى على استكمال المرحلة الانتقالية وانجاز انتخابات حرّة ونزيهة وشفافة حتّى نتجنّب ما تعيشه مصر اليوم من وضع مؤلم ونتمنى لها أن تتجاوزه لتعود إلى مربّع الأمن والسّلم. وأعتقد أنّ الانقلاب العسكري في مصر تمّ وفق ترتيبات أجنبية (الولايات المتحدة وإسرائيل) وعربية (السعودية والامارات والاردن) مع وجود عوامل داخلية (توتّر داخلي وانقسام الى معسكرين متعاديًيْن من خلال شعار «احنا شعب وأنتم شعب»). ولكنه انقلاب سيُدخل مصر في نفق مظلم لمدّة ليست قصيرة وهي مرحلة غير خافية على من خطّط للانقلاب وغير خافية على من يسير في ذلك الأسلوب الدموي في قمع المظاهرات وغير خافية على من يدفع الأوضاع الى مزيد الصراع وتأجيج الأحقاد بهدف العمل – بكل الوسائل -على نشوء جماعات مسلحة تحارب السلطة الفعلية القائمة وبذلك يطمئن الاستعمار على انكفاء مصر وانحسار اهتمامها بالأوضاع الإقليمية والعربية  وإغراقها في مشاكلها ومآسيها وإفساح المجال لدور مؤثر في منطقة الشرق الأوسط لكل من الكيان الصهيوني ولإيران وتركيا ...

وإنني استحضر بهذه المناسبة مرحلة مؤثرة في مسار أحداث الجزائر في التسعينيات ...
حدث انقلاب عسكري بغطاء مدني في 1992-01-11 ...حدثت بعده مظاهرات ..ثم اعتقالات...ثلاثون ألفا من أنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ تم سجنهم في محتشدات في الصحراء. ومن اختفوا تمت مطاردتهم، فصعدوا للجبال ( ولنقل جدلا أنهم اختاروا حمل السلاح ) فتكوّن الجيش الإسلامي للإنقاذ. لكن تكوّن بجانبه تنظيم عسكري سمّى نفسه الجماعة الإسلامية  المسلحة.
لمّا طال الصّراع وامتـــد وأصبح يعتمد الاغتيـــــالات، تأكّد العقلاء في المعسكريــــن أن أيادي أجنبية تغذّي القتال في الجزائر، فنشأت الوساطـــات. وتولـــــى قاصدي مربــــاح ( وزير أول سابق ورئيس الأمن العسكري في الجيــــش ) التفاوض باســــم النظـــام وتولى عبــدالرزاق رجام ( المكلف بالإعــــلام في الجبهة الإسلامية) صحبة محمد سعيدي التفاوض باســــم الجيــــــش الإسلامـــــي للانقـــاذ لوقف القتال والصلح واعتماد الحلّ السلمي. إلاّ أنه تم اغتيال المتفاوضين في وقت متقارب. فقد اغتيل قاصدي مرباح بتفجير سيارته في مرتفعات الأبيــار( ويتهم الملاحظــــــون قوى رافضة للتفاوض في الجهاز الرسمي باغتيالـــه ويحددون الفرقـــة ). كما وقع اغتيال عبد الرزاق رجام ومحمد سعيد برصاصات غادرة إثر دعوتهما  للتحاور والتقارب مع الجماعة الاسلامية المسلحة «GIA». ولما جــــاء الرئيس بوتفليقــــة إلى الحكم، أنجز جزءا من المصالحة مـــــع 8000 مقاتـــــل من الجيش الاسلامـــــي للإنقاذ بقيــــادة «مدني مزراق» ألقوا السلاح واندمجوا في المجتمع وعادوا الى «المدنية». لكن المسار توقف بسبب عـــودة عمليـــات الاغتيال حيث طالت «علي مراد» نائب قائد الجيش الاسلامــــي للانقــــاذ الذي اغتالـــه من يسمّون « الحرس البلدي» أمام منزلـــه ...والهدف هو فقدان الثقة في امكانية المصالحة .
إن مثل هذه الأحـــداث تدعونا لندرك حقيقة استهداف البلدان العربية لتتحـــول إلى دول غير مستقـــرة وذلك بتغذية الصراعـــات فيها كما تكشف لنا أن منطق المؤامرة ليس التفسيرالقسري الوحيد السليم للأحداث ولكن توفّر العوامل الداخلية يسهّل عمل التدخّل الخارجي. وودت التذكير بهذه الاحداث الدامية في تاريخ المنطقة وتطوّر الصراعـــــات فيها بوجود العنصر الخارجي الغامـــض الذي يشجّع على تعميق الأزمة واستدامتها لأن مصلحته تكمن في خراب بلداننا ...
وفي تصوّري فإن تونس لا تحتمل ما تحمّلته الجزائر في  التسعينيات كما أنها لا تحتمل ما تتحمله مصر اليوم  كما لا تخفى على النخبة السياسية التونسية هشاشة الاوضاع الامنية في ليبيا الشقيقة وانتشار السلاح فيها ونشوء مراكز قوى مسلحة عشائرية وقبلية وعقدية تمسك بالحكم في عدة جهات وأقاليم وتبيع النفط مباشرة للشركات الأجنبية وتقبض الثمن ويتعاظم دورها وتقوى سيطرتها الى حد «اختطاف» رئيس الوزراء بما يطرح ألف سؤال وسؤال حول مدى انفلات الوضع الأمني في ليبيا الشقيقة وهي مظاهر مزعجة تؤثّر في الحالة التونسية حتما. والوضع في ليبيا مكشوف للدول الغربية حيث أن المخابرات الأمريكية قامت بعملية انزال في العاصمة طرابلس واعتقلت مواطنا ليبيّا ونقلته الى السجون الأمريكية لتحاكمه هناك ...مشهد سبق أن نفّذته الولايات المتحدة ذات مرّة في قلب القاهرة أيام حكم مبارك. وهو مشهد نأمل ان يدرك التونسيّون من خلاله حجم الأخطار المحدقة بأمننا الوطني وسلامة تونس ..
 إن الاغتيالات السياسية في تونس هي النقطة الفارقة في الانتقال الديمقراطي، لأنها تهدف إلى تحويل المسار الانتقالي من مسار سلمي إلى صراع دموي عنيف ... وبغض النظر عن الفاعلين المنفّذين، فإن حضور العامل الأجنبي مسألة مؤكّدة بالنسبة لي ويبقى التحقّق منها موكولا للباحثين المكلفين بالقضايا .
نلاحظ في تونس تفاقم الشرخ بين الفرقاء السياسيين ومرور هذا الشرخ الى التطبيق في مؤسسات الدولة حيث ضعفت سلطة رجل الأمن ومسؤول الادارة ومدير المعهد وأصبحت مراكز قوى توجه المواقف وتتخذ أشكالا من التعطيل المكشوف لمردود الأجهزة المدنية للدولة ... إن هدف هذه الاعمال معلن وهو تسجيل «فشل» في ميدان ما للاستدلال على الكفاءة المنقوصة ولكنه سلوك مناف للقانون لم يقابل بــالاجراء المناسب ليعيد السلوك الخاطئ إلى  جادة الصواب . 
إن ضعف جهاز الدولة وعدم إنفاذ القانون أدّيا إلى تحول سلبي في سلوك المواطنين والموظفين والعملة وتجسّد في المؤسسات التربوية حيث لم يعد يسيرا للمدير وللإدارة أن تنظّم العمل العادي للمؤسسة وهي تواجه سلطات متعددة. فلكل صنف نقابته وتعتبر نضالها يتوقف على « مواجهة الإدارة» متناسية أن دور منخرطيها هو أداء واجبهم طبق القانون ...لقد تحولت بعض المعاهد الثانوية إلى مؤسسات غير قابلة للتسيير إطلاقا ...فالأساتذة لا يدخلون إلى قاعات الدرس في أوقاتهم والتلاميذ لا يأتون للدروس في الساعات المحددة لهم وأعوان التاطير يتردّدون في أداء مهامهم نظرا لغياب أدوات الرّدع المعنوية  التي كانوا يملكونها. وقس على ذلك مؤسسات إدارية وخدمية أخرى...ظاهرة تكاد تكون طاغية مع وجود الاستثناء طبعا.
إنّنا بصد التحوّل الى دولة غير قابلة للتسيير. فعون الأمن يلاحظ مخالفة المرور ولا يوقف السائق المخالف والدورية الأمنية تشير للمهرّب وهو يحمل البنزين في شاحنته بالوقوف فيتجاهلها ويمرّ، فتبقى في مكانها ولا تطارده... ومراقب الأسعار يلاحظ مخالفة التاجر ولا يشير إليها في غياب فرقة أمنية تحميه...والموظفون يغادرون مكاتبهم لقضاء شؤونهم الخاصة على حساب «المجموعة الوطنية» ولا يستطيع المسؤول الاداري أن يسألهم ولا أن يحاسبهم لأنه يخشى « ديقاج» ... ويمكن تعداد أمثلة كثيرة من هذا « الخلل» وهي مرحلة خطيرة إن لم يقع تداركها فلن يحدث انتقال ديمقراطي سلمي بل سيتصاعد الانفلات ويقوى التفكك وستظهر أشكال أخرى من «العبث» بمستقبل الدولة وسيشتاق الشعب التونسي إلى « الدكتاتورية» لأن الحاجة إلى استمرار الدولة التي تضمن الأمن تسبق الحاجة الى الدولة التي تصون «الحريات». ولا أحمّل المسؤولية إلى الحكومة القائمة فحسب، بل تتحملها الطبقة السياسية والمنظمات الاجتماعية لأنها كلها ساهمت في الوصول الى وضع « الرّجُل المريض».
فهل يستفيد الساسة التونسيون من تجارب الأشقاء والجيران وينقذون الدولة التونسية من الضعف والتلاشي و يواصلون بناء «دولة مؤسسات» لا «دولة أحزاب».