وجهة نظر

بقلم
عادل السمعلي
اختلال المشهد السياسي في تونس

 كانت محطة 23 أكتوبر 2011 الانتخابية محطة سياسية فارقة في  المشهد التونسي وذلك ليس لأنها كانت موعدا لأول انتخابات شرعية ونزيهة في تاريخ تونس القديم والجديد، بل لأنها رسمت أول خارطة سياسية تعكس ميزان القوة الشعبية للأحزاب السياسية في تونس رغم ما شاب هذه المحطة الانتخابية من قوانين وإجراءات كانت تهدف للتأثير على هذه الخارطة خاصّة قانون أفضل البقايا الذي لا يمكن أن يكون قانونا ديمقراطيا والذي كان من شأنه  تمكين (الشتات السياسي) من حصول على مقاعد في المجلس التأسيسي لم يكن ليحصل عليها لو طبق قانون الانتخاب النسبي مثلا وهذا لا يشكّك البتّة في نزاهة وصدقيّة النتائج، بل يفتح الباب أمام تحسين أشكال القوانين الانتخابية المزمع تشريعها في الدستور الجديد حتى تكون نتائج أي انتخابات قادمة أقرب ما تكون للخارطة الفعلية والحقيقية للمشهد السياسي التونسي .

ومع اقتراب يوم 23 أكتوبر 2013 وهو تاريخ  الذكرى الثانية لأول انتخابات شرعية وغير مزورة في تاريخ تونس الحديث وما أكتنف هذه الفترة القصيرة من صراع إيديولوجي وشدّ وجذب من جميع أطراف المشهد السياسي يدعونا ويحفزنا لتقييم هذه الفترة وقراءة  الخارطة السياسية والمجتمعية للوضع التونسي الجديد  لنقف على نقاط القوة ونقاط الضعف في الخارطة الجديدة وعلى مدى قدرة المجتمع السياسي والمدني التونسي على مجابهة التحديات المطروحة وعلى إمكانيات  إنجاح المسار الانتقالي والخروج من الأزمات المتتالية التي عايشناها منذ سقوط رأس النظام خاصة مع مسارعة كل الأطراف السياسية والإيديولوجية بطرق شرعية وأحيانا وبطرق ملتوية أحيانا أخرى لملء الفراغ السياسي الناتج عن الثورة وحجز مكان دائم لها داخل المشهد التونسي الجديد.
إن الفترة الأولى اللاحقة  لظهور نتائج انتخابات يوم 23 أكتوبر 2011  اتسمت بما نسميه فترة (الصدمة) وذلك ينطبق على الأحزاب الفائزة في الانتخابات كما ينطبق على الأحزاب المنهزمة على حدّ السواء فالأحزاب الفائزة وجدت نفسها فجأة وبدون سابق إنذار أمام مسؤولية الحكم وقيادة البلاد في فترة حسّاسة وصعبة من تاريخ تونس تفوق حسّاسيتها فترة الاستقلال الأول وخروج الاستعمار خاصة وأن التركة التي ورثتها تركة ثقيلة من مخلفات الفساد والاستبداد ومن التمييز الجهوي ومن التقسيم الظالم لثروات البلاد وهي التي لم تتعود على الحكم ولا خبرة لها تُذكر في القيام بأعباء السلطة ومجابهة المصاعب والتحديات الداخلية والخارجية، كما أن موقف الأحزاب المنهزمة كان يغلب عليه الشعور بالصدمة والخذلان لأنها وجدت نفسها على هامش القرار السياسي وخذلتها الجماهير في هذه الانتخابات في الوقت الذي اعتقدت فيه بوثوق مبالغ فيه أنها ساهمت في الثورة بجدية وفعالية وأن هذه الانتخابات ستمكنها من كسب المقاعد الانتخابية واكتساح المجلس التأسيسي .
إن تمشّي الأحزاب السياسية في تونس بعد الانتخابات لم يكن سليما وهذا الوصف ينطبق على الائتلاف الحاكم من أحزاب الترويكا كما ينطبق أيضا على أحزاب المعارضة، فنحن لم نر أي حزب من هذه الاحزاب يقدم قراءته لنتائج هذه الانتخابات ليتمكن من إصلاح ما يجب إصلاحه فليست المعارضة وحدها مطالبة بالمراجعة والنقد والتحليل بل ربما تكون الاحزاب الفائزة أولى من غيرها بالمراجعات لمعرفة أسباب القوة ودعمها ومعرفة الخلل والنواقص وإصلاحها فالتقييم الموضوعي للخارطة السياسية الجديدة ما بعد 23 أكتوبر  كانت ضرورة ملحة لكي يطرح الفائزون السؤال المنهجي : لماذا فزنا؟ ويطرح كذلك المتأخرون : لماذا تأخرنا؟ ولكن للأسف لا هذا ولا ذاك طرح الأسئلة الضرورية المنهجية فأصاب الزّهو والنشوة الأحزاب الفائزة وغلب الذهول والإحباط الاحزاب المنهزمة وهذا مما يدلل على الهشاشة الفكرية وفقدان البوصلة الاستراتيجية لمعظم الاحزاب المكونة للمشهد السياسي حكما ومعارضة .
إن المشهد  التونسي ما بعد الثورة  اتسم  بضعف أغلب الاحزاب السياسية وهشاشتها التنظيمية والشعبية وتحول الجمعيات المهنية والنقابية والحقوقية إلى شبه  أحزاب سياسية  غير معلنة إذ تحول اتحاد الشغل الي حزب سياسي معارض واستحالت رابطة حقوق الانسان ونقابة الصحفيين إلى هيئات سياسية على حساب البعد الحقوقي والاجتماعي  مستغلين في ذلك  المطالب الاجتماعية والنقابية والمهنية وحتى الحقوقية للضغط على السلطة الجديدة وكسب نقاط سياسية لحساب طرف سياسي أو آخر .
إن تخفي  الأحزاب السياسية  التي فشلت في إقناع الرأي العام في الانتخابات الاولى وراء مكونات المجتمع المدني والتترس وراء المطالب الاجتماعية والمهنية له ما يبرره في الواقع التونسي فهي تستعمل كل ورقات الضغط الممكنة حتى لا يستفرد خصومها بقيادة المشهد الجديد ولكي تربح أقصى ما يمكن من النقاط في انتظار الانتخابات القادمة خاصة وأنها الاعلم والأدرى بضعفها الهيكلي وعجزها عن الاستقطاب  الجماهيري وخاصة قناعاتها الخفية والغير معلنة على عدم قدرتها على المنافسة الشريفة .
إن هذا المنحى الجديد الذي لم يتعوده التونسيين وإن أستنكره البعض بشدة إلا أن ذلك يعد موقفا طبيعيا بل غريزيا في مسار انتقالي تكون فيه المعركة عل كسب المواقع وعلى تثبيت الاقدام على الارض عنيفة وشديدة يمكن أن تقارن بمعركة الوجود أو معركة الحياة أو الموت وهذا ما يفسر حالات التشنج والتوتر الشديد التي ترافق عادة هذه الصراعات.
وهذا ما يفسر جزئيا قيام إتحاد الشغل بإضرابات عامة ذات طابع سياسي بحت كما يفسر أيضا قيام نقابة الصحفيين مرتين على التوالي بإضرابات لم تجرأ على القيام بها زمن المخلوع على الرغم من أن نظام بن علي كان كاتما على أنفاس كل الصحفيين وكل الاقلام الحرة  وكان الإعلام بمختلف مكوناته العمومي والخاص لا يدور إلا في فلكه ونفس هذه الأسباب السياسية هي التي دفعت رابطة حقوق الإنسان الى الانحراف عن مبادئها الحقوقية الكونية والتّحول الى مهمّة خصم سياسي يستغل التجاوزات والانتهاكات المتواصلة منذ زمن المخلوع لتسجيل نقاط سياسية في مرمى الطبقة الحاكمة الجديدة .
بالإضافة لذلك كانت هذه الجمعيات والنقابات في العهد السابق طائعة ومساندة لنظام بن علي الذي عرف كيف يخترقها ويدّس فيها من شاء من عناصر نظامه من مهنيين حقيقيين أو مخبرين أمنيين دخلاء على العمل الصحفي أو النشاط النقابي أو النضال الحقوقي.
إن انخراط مكونات المجتمع المدني مباشرة وبطريقة فجائية وبدون مقدمات في مسار الثّورة وهي التي لم تدعو لها بتاتا ولم تشارك فيها أصلا وبدون أن تطهّر صفوفها من المنتسبين لها المحسوبين على  نظام بن علي الذين وصلوا لمراتب قيادية متقدمة في هذه الجمعيات هو الذي أوقعها في فخ الانخراط المفضوح في الثّورة المضادة فمن كان يستفيد ويتنعّم من نظام بن علي لا يمكن له بتاتا القبول بالتغيير الجذري ولا الايمان بأهداف الثورة التي أتت أصلا لاستئصالهم وإخماد جذوتهم .
إن المجتمع المدني التي تم تشكيله زمن بن علي هو مجتمع مدني مزيف قائم على الموالاة مقابل السكوت والامتيازات ولا يعول عليه في المساهمة في إنجاح الثورة بل هو في شكله الحالي أكبر عائق لتحقيق أهدافها ويفوق خطره الأحزاب السياسية التي لا وجود حقيقي لها إلا في وسائل الاعلام التي تروج لها وتنفخ في صورتها بدون فائدة ولا مردودية.
لقد ساهمت وسائل الاعلام التي يعلم كل الناس جذورها التجمعية الدستورية المرتبطة بالنظام السابق مساهمة فعالة  في تشتيت وتهميش المعارضة التونسية من حيث لا تدري ولا تعلم، حيث أن التركيز المفرط فيه على  استدعاء واستضافة وجوه سياسية لا وزن لها على الأرض قد ساهم في نفور الناس منهم وعدم التصويت لهم لأن التونسي بطبعه يرغب في التجديد وتبديل الأفكار والوجوه، كما أن هؤلاء السّاسة قد شغلهم الحضور الاعلامي الدائم على تخصيص أوقاتهم للبناء والتنظير الفكري واستقطاب الجماهير واعتقدوا خطأ أن إقامتهم  الدائمة والمتواترة  في مقر الاذاعات  أو الفضائيات وتواجد صورهم وتصريحاتهم في الصفحات الاولى للجرائد والمجلات  سيكفيهم مئونة مخالطة الناس والتحول داخل البلاد للتعريف بأنفسهم وبرامجهم مما أوقعهم في وهم الشعور بالشعبية والجماهيرية والتي لا وجود لها إلا في متخيلاتهم وفي منابر الإعلام فقط وخير دليل على ذلك أن عمليات سبر الآراء التي قامت بها هيئات أجنبية أخيرا تؤكد نزول شعبية الائتلاف الحاكم الى أدنى درجاته بدون أن يصاحب ذلك صعودا في شعبية الأحزاب المعارضة، بل أن هذا النزول في الشعبية للائتلاف الحاكم الذي أكّده أكثر من استطلاع للرأي كان لفائدة الممتنعين عن التصويت وهو ما يؤكد أن المعارضة ساهمت في إضعاف شعبية الترويكا دون أن تستفيد من ذلك لصالحها ولا بدّ أن أشير في هذا المجال أني أعتمد سبر آراء الشركات والهيئات الأجنبية المستقلة المحايدة لأن شركات سبر الآراء في تونس مازالت  للأسف  تعتمد تزوير الوعي العام  لأغراض سياسية  ولا يعتمد عليها.
ما فتئت أكرر وأعيد أنه ليس لدينا في تونس أحزاب سياسية قوية قادرة على قيادة المرحلة الجديدة بمفردها ولكن لدينا معارضة سياسية  ساذجة وعلى قدر كبير من الهشاشة الفكرية والبنيوية مما سهّل اختراقها من بقايا منظومة التّجمع المنحل  فهي تسارع إلى طرح أفكار وتصورات من بنات أفكار التجمع المنحل، وقياداتها لا تتورع في  تزوير التصريحات للخصوم السياسيين  والقراءة الخاطئة للنوايا وتلجأ أحيانا للفبركة والكذب من أجل حجز مكان داخل المشهد السياسي والإعلامي  في الوقت الذي ترتكب  فيه السلطة أخطاء ظاهرة للعيان ومكشوفة لكل إنسان يمكن استثمارها سياسيا بطريقة ذكية والاستفادة منها  دون الالتجاء للأساليب المنحرفة والملتوية التي كثيرا ما يثبت خورها وبطلانها فترجع عليهم بالخيبة والوبال وخاصة باحتقار الناس لهم ولبرامجهم المستقبلية التي تتّسم بعدم الوضوح والضبابية.
إن ضعف المعارضة التونسية وخورها البائن لا يهدد الحياة السياسية فقط بل هو مضرّ أشدّ الضّرر بالكتلة الحاكمة التي ستجد نفسها في طريق مفتوح للفوز بالانتخابات القادمة بدون منافسة تذكر إلا منافسة فلول التجمع مما يمنعها أن تراجع نفسها و تصوّب أخطاءها التي لا تحصى ولا تعد وبذلك ندخل في نفق حياة سياسية غير متوازنة.
إن قيام  المجتمع المدني بدور ضاغط على الحكم وعلى المعارضة على حد سواء  مسألة ضرورية في هذه المرحلة الانتقالية وتحكمها نواميس الطبيعة التي تأبى الفراغ وذلك حتى وإن كان هذا المسمى بالمجتمع المدني مازال مخترقا من بقايا النظام القديم لأن بقاء الائتلاف الحاكم بدون منافسة سياسية حقيقة يصيبه بمرض التفرد والغرور وهذه من مقدمات فساد الحياة السياسية وانحرافها عن أهداف الثورة الحقيقية.
إن بروز أحزاب الترويكا على المشهد السياسي التونسي كان نتيجة لنضالات سياسية وحقوقية ضد الاستبداد ولم يكن أبدا نتيجة لبرامج سياسية واقتصادية تبناها الشعب ولاقت منه الترحيب والاستحسان وأن هذه الحقيقة تجعل الخارطة السياسية قابلة للانقلاب رأسا على عقب ومؤهلة لإعادة التشكل في المواعيد الانتخابية القادمة حيث ينتهي رصيد النضالات السابقة وتبدأ الجماهير في المطالبة بحقوقها الاجتماعية والاقتصادية عن طريق فرز القوى المؤهلة أكثر من غيرها على قيادة المرحلة بما يلزم من الحسم والحزم لتحقيق أهداف الكرامة التي طال انتظارها.