نقاط على الحروف

بقلم
د.لطفي زكري
الفتنة: يثيرها الفاتن والفتّان

 يشهد الناس أفرادا وجماعات لحظات من الإرباك المخل بالسير العادي للحياة اليومية والمؤجج لتبادل الاتهامات بين الخصوم أو لتبادل عبارات التّوادد بين المعجبين. وحين يبلغ هذا الإرباك درجة متقدمة في الحدّة والخطورة يصفه الناس بالفتنة ويسارعون إلى التحذير من مخاطر الوقوع فيها أو الانخراط في صف مفتعليها. ولعل المفارق في الأمر كله هو أن يحذر من تلك الفتنة ويكتوي بها من كان أول زارعيها في الأوساط الاجتماعية أو الواقعين في شراكها الجذابة. فهل الفتنة حالة مرضية علينا أن لا نتوانى في مواجهتها ومحاصرة ناشريها أم هي حالة إبداعية يتعين علينا أن نجيد تمثّلها واستثمارها في خدمة الصالح العام؟ وهل فتنة الفاتن وفتنة الفتان واحدة أم مختلفة؟ وسواء كانت الفتنة هذه أم تلك فهل يمكننا أن نأمل في حياة خالية من الفتن أم أنه لا حياة لنا إلا بالفتن؟ لكن أنى لنا في مثل هذا الأمل وقد تجاوزت صناعة الفتن دائرة العلاقات الفردية والجماعية لتأخذ بعدا دوليا وعالميا؟ أفليس نشر الفتن بين الشعوب كان ومازال خيارا استرتيجيا في حالتي الحرب والسلم؟ فهل من المعقول أن نتخيل وضعا تاريخيا يتخلى فيه الخصوم عن أشد الأسلحة فعالية وفتكا وأقلها كلفة مادية ومعنوية؟

يورد ابن منظـــور في لسان العرب في باب الفاء تعريفا لبعض وجـــــوه الفتنـــــة فيقــــول:«جماع معنى الفتنـــة الابتـــــلاء والامتحان والاختبــــار، وأصلهــا مأخـــوذ من قولـــك فتنت الفضة والذهـــب، إذا أذبتهمــــا بالنـــار لتميز الرديء من الجيـــد، وفي الصحاح: إذا أدخلتـــه النــــار لتنظــــر ما جودته، ودينار مفتـــون. والفَتْنُ: الإحراق... ويسمى الصائــــغ الفتان وكذلك الشيطان ومن هذا قيل للحجارة السود التي كأنها أحرقت بالنــــار: الفتين... فالفتنة الاختبار والفتنة المحنة والفتنة المــــال والفتنة الأولاد والفتنـــــة الكفر والفتنة اختـــلاف الناس بالآراء، والفتنـــة الإحراق بالنار... يقال فلان مفتون بطلب الدنيا قد غلا في طلبها» ( ابن منظور: لسان العرب- المجلد الخامس ص 3344)
يبدو إذن أن للفتنـــة أكثر من وجه وأكثر من معنى. فقد تطلق على المكيدة التي يراد منهـــا تفكيك نسيج العلاقات الاجتماعية السائدة بين الأفراد أو بين الجماعـــات وقد تطلق على الأثر النفسي والعاطفي الذي تتركه الأمــــوال أو الأبنـــاء أو السلطــــة أو الشهرة في ذات الفرد. وفي الحالتيــــن يقترن معنى الفتنة باهتزاز يعصف بالبناء الذاتي أو الاجتماعــــي فتنكشف درجة صلابته أو هشاشتــــه. ولعل أشـــدّ وجوه الفتنــــة تأثيـــرا في العلاقــــات الاجتماعية هي تلك التي يتم تصنيعهـــا إعلاميــــا على نحو تقليــــدي أو حداثـــي وتأخــــذ في رواجهــا شكل النميمـــة (سرّا) أو الفضيحــــة (علنا) التي يستلذ سماعها الكثيرون في المجالس الخاصة والعامة. بيد أن الفتنــــة كما يعيشها المفتون ليست بالضرورة تهديدا للذات بل قد تكون سبيلا لإثرائهـــا ذلك أن المفتون بالمال أو الجمال أو السلطة أو الشهرة أو غيرها من موضوعات الافتتان والإغراء لا يشعر بنفس المشاعر التي تخالج المفتون بالإشاعة أو المكيدة أو الخيانة أو غيرها من صور تدمير الذات. وحتى إذا سلمنا بأن المفتون يبقى سلبيا أمام الفاتن والفتّان فإنه لا ينبغي علينا أن نغفل عن جوهرية الاختلاف بين الحضور العلني للفاتن والحضور الخفي للفتّان. إن فتنة المفتـــون بالفاتــــن تلقائية تخلو من الاصطناع أما فتنة المفتون بالفتان فاصطناعية تخلــــو من كل تلقائيــــة. وبين هذه وتلك تحرص المجتمعات على تحصين أفرادها ضد تأثير الفتن ما ظهر منها وما بطن وذلك بما تتخذه من تدابير وقائية وتربوية تنمي فيهم روح النقد والقدرة على المواجهة حتى لا يسقطوا ضحايا للتضليل أو للانبهار. ذلك أن الافتتان الفردي أو الجماعي قد يفضي إلى درجة خطيرة من الإرباك تدفع بصاحبها إلى فقدان توازنه واتباع ثنايا التيه والضياع.    
إن الفتنة في كل الأحوال اختبار لمدى هشاشة أو صلابة البناء الذاتي للفرد أو الجماعة، وهي بهذا المعنى لحظة ضروريــــة في مسار الكدح الإنساني إلى الله وفي مختلف صور نسيج العلاقات الاجتماعية، لكن هذه الضرورة لا تعني بأي حـــــال من الأحوال أن تكون الفتنة صناعة أو معيشا يوميا يعدم لحظات الاستقرار أو يجعل منها وضعا استثنائيا. لذلك كانت المجتمعات البشريـــــة تخشى انتشار الفتن في المكان واستمراريتها في الزمان فتسارع إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لمحاصرتها أو القضاء عليها. بل لعلنا لا نخطــــئ الصواب إن قلنا أن كل التدابير الاجتماعية لا تتخذ إلا بغرض درء الفتن واستبعاد إمكان حدوثها لضمان الاستقرار الضروري والمساعد على الإنتاج والإبداع. لكن إذا حدثت الفتنة واستطــــاع الفرد أو المجتمع مواجهتها ومن ثم أحسن استثمارها فإن اللحظة التي تليها تكون في الغالب مناسبة تحمل الفاتن على مراجعة حدوده أو تحمل الفتّان على العدول عن مشاريعه الفتنوية. بيد أنه في حال فشل المواجهة فإن الفتنة الصغرى قد تفضي إلى فتنة كبرى ينقلب فيها المفتــــون فتانا أو فاتنا ويصير فيها الفاتن أو الفتان مفتونا. إن سمة الفتن هو قابليتها للتوالد والتوسع والاستمرار لما فيها من آليات الجذب والإغراء ولما تحدثه فـــي المفتون من رهبة ورغبة. لكن المفتون الذي خبر آليات الإفتان والتفتين قد يكـــون أقدر على التحـــرر من سلبية الافتتان والارتقاء بحسه الجمالي والأخلاقي إلى أفق القيم الكونية المطلقة فلا يرى بعدها فتنة الفاتن أو فتنة الفتان ذاك الحد الأقصى الذي يربكه ويفقده توازنه بل يرى فيها لحظة عابرة في مسار مفتوح يسع الفاتن والفتان والمفتون وينتهي بهم جميعا إلى نفس المنتهى بعد انقضاء لعبة الفتنة طالما كانت الحياة الدنيا لعب ولهو وتفاخر بين الناس في الأموال والأولاد والشهرة والسلطان. 
إن تصاغر المفتــــون أمام تعاظم الفاتن والفتان هو وحده المولد للفتنة والضامن لحدتهــــا واستمراريتها، وهو وضع لا يتشكل إلا في ظل انغــــلاق العقل البشـــري على وجوده المتناهي ونسيانه للوجود اللامتناهــــي. لذلك كثيرا ما يبالغ المفتون في تضخيم حاجته إلى الفاتــــن وخشيته من الفتّان وفي المقابل كثيرا ما يبالغ الفاتن في إظهار مفاتنه ويبالغ الفتان في إبراز قدرته على صناعة الأحداث وشد الناس إليهــــا. ويتم هذا التضخيم والتضخيم المضاد في ظل نسيان الجميع لتناهيــــه ووجوده بين قوسين (الولادة والموت) لا يملك في الواقع حيالهمــــا حولا ولا قوة. وهذا يعني أن التعقل في مواجهة الفتن ليس سوى عرض للفاتن أو الفتــــان على محك الوجود اللامتناهي حتى ينكشف تناهيهما للعيان وتزول بواعث الافتتــــان فيعود التوازن وينتهي وضع الإرباك. وقد نجد لهذا المنتهـــى صدى في الأعمال الفنية التي تجد في الفتنة والفاتنين والفتانين والمفتونين مادة خصبة لإنتاج المتعة الجمالية وكشف الحس الإبداعي الذي يختزنه الفنان في مخاطبة جمهوره. إننا لا نبالغ في القول إن أكثر الأعمال الفنية روعة وجمالا هي تلك التي تتخذ من الفتنة موضوعا لها حتى أن المشاهد قد يتحير لدرجة التعقيد والتداخل بين جمالية العمل الفني وجمالية موضوعه. 
ليست الفتنة في النهايــــة هي ما يثيره الفاتـــــن والفتان وحسب بل هي أيضا ما يغذيـــــه المفتون بافتتانه الساذج أحيانا. لذلك لا نجد الناس عادة على رأي واحــــد في مواجهة الفتنة وإنما ينقسمون شيعا متفاوتة بين التسامـــــح والمغالاة أو بين دعاة للحــــوار وقبول المخالف والمختلف وبين دعاة للاستئصال والإقصاء. والرأي عندنا هو الإبقاء على فتنة صغــــرى خير من فشل في مواجهتهـــــا يجعلها تتحــــول إلى فتنة كبرى، ونحسب أن هذا المعيار كفيل بتصنيف تجارب الافتتــــان الفردي والجماعي قديما وحديثا والحكم لها أو عليهــــا. وهو في رأينا المعيار الذي يخول لنا الحكم بأن الفتن كانت تاريخيــــا حالات مرضيــــة تهدد الأفــــراد والجماعات أم كانت حالات إبداعية دافعة نحو الرقي والكمال الإنساني في مختلف مجالات الفعل والتأثير.