في العمق

بقلم
د.محرز الدريسي
مقدمة في استئناف التفكير في وظيفة الثقافة

 إن الثورة التونسية في تعبيراتها المختلفة وإن اندلعت في - سياق المطالب الاجتماعية- واستحقاقات الشغل، فقد عبرت في عمقها عن رغبة كامنة في الحرية والكرامة والتنمية. هذه القيم أو المثل تتجاوز طابعها المطلبي أو السياسي وتحتاج أن تكشف عن وجهها الثقافي ومعمارها الفكري، فبناء الكرامة وإنعاشها تستوجب مضامين نظرية وفنية وثقافية وانسانية، وأن تمتد لتجعل من التنمية الثقافية أحد الأبعاد الأساسية لتنمية البلاد وبناء الإنسان التونسي الفاعل. إن الفعل الثقافي لا يختزل في أداء نخبوي بل يتّسع أثره ومغنطيسه حتى تكون الثقافة للجميع ولكل مواطن، فلا مواطنة دون ثقافة ولا ثقافة دون تأسيس للمواطنة، وأن الحق في الثقافة جزء لا يتجزأ من الحقوق الأساسية للإنسان وللمواطن. وهو خيار أساسي ومحوري واستراتيجي، فالثورة التونسية إذا لم تصحبها ثقافة تفصح عن هويتها وتترجم قيمها، مهددة بالانتكاسة، والمطلوب أن تكون محركا للإبداع ولتقريب الثقافي من الجمهور العريض وأن تنزع عن الثقافة فئويتها وتعاليها، وتصبح غذاء الروح للمواطن.

شكل السؤال الثقافي – منطقة رمادية- أو شبه نائمة في صلب النقاش المجتمعي النخبوي أو القاعدي، ونستحضر سمات القلق والارتباك اللذين يتسم بهما مشهدنا الثقافي وخاصة جانبه المؤسساتي. فالمؤسسات الرسمية للثقافة المنوط بها القيام بعملية التأطير والتدخل وفق مجالات تخصّصها، وحجم إمكاناتها وترساناتها القانونية والبشرية لم تستطع توضيح دورها الحقيقي وحدود اشتغالها ،مع ايماننا عمليا أنها لا تؤطر إلا الجزء اليسير من القضايا الثقافية الوطنية، وحتى لا نحملها ما لا طاقة لها به فإن الجزء الأخر يدبر من طرف جهات أخرى تتناوله بمفاهيم وحمولات خاصة.
الأسئلة المحيرة على ضفاف الحراك الشامل الذي تعيشه بلادنا، وما أفرزته ثورة اندلعت وما اكتملت، زعزعت الثوابت، وحررت الأصوات المكبوتة والمخزونة في الوعي الفردي والجماعي، إلا أنها مازالت تبحث على ارساء قناعات وتحرص – في المطلق- على رفع الحظر عن كل اشكال التفكير والتعبير. 
لماذا غيّبـــت الأحـــزاب السياسيـــة وهيـــأت المجتمـــع المدنـــي والمؤسسات الرسمية الشرط الثقافي كقاعدة أساسية في تحديث ودمقرطة المجتمع؟ ألم يئن الأوان لصياغة ميثاق وطني للمسألة الثقافية بتونس تشارك فيه كل الأطراف؟ هل المجتمع المدني قادر على الإسهام الفعلي في النقاش حول الشأن الثقافي وإخراجه من الخلط والضبابية والعطالة ؟ 
إن أهداف الثورة الحق في الشغل والحق في الثقافة، ولكن نحتاج مع السياسي إلى أن تلتفت إلى الثقافي وأن تحرك داخل المؤمنين بها حقا ديناميّة أساسها ديمقراطيّة الثقافة كمناخ لتجذير القيم الديمقراطية والأرضية التي تبنى عليها ديمقراطية دائمة ومستمرة، وأن تفرض إعادة تأسيـــس السياسة الثقافيــــة لا بمركزتهـــــا في خاصرة الدولة أو أجهزتها، بل أن تنتشر عبر شعاع أنشطة الجمعيات الثقافية وفاعلي المجتمع المدني.
وأن تشع جمعيات- خلايا المجتمع المدني وتفعل عبر ورشات العمل ولجان استنباط التصورات وابتكار ممارسات ثقافية جديدة من حيث المضامين والأشكال التعبيرية، ولكن أيضا بتطوير صيغ الخطاب المستعمـــل ومفرداتـــه المروجــــة والمعلنــــة والعنــــاوين المعبر عنها. إن المســـار السياسي الصرف والمكثف حول بؤر النضال السياسي حول صياغة الدستور أو بناء المؤسسات أو العملية الانتخابية تتطلب كساء ثقافيا ينفث في روح البلاد معاني الجهد والنجاعة وإسنادا فكريا يغذي مفاصل الوطن. فالثقافة بمبدعيها ومحتوياتها وأنماطها محورية في المشروع المجتمعي الذي تطمح بلادنا إلى ارسائه، فهو الذي يكتشف الأبعاد الروحية والانسانية والفنية والذوقية التي تمنح المجتمع عمقه الانساني وملامحه البشرية.
والثقافة حقل أساسي وفعل سياسي بامتياز يتجاوز الإدارة اليومية- أو النشاط الرسمي- للمساهمة في اثراء وبلورة ملامح المواطن وتعزيز فاعليته، ونرى أن النشاط الثقافي بمكوناته جزء من المكون التربوي العام للذائقة العامة ومشارك في دعم الوحدة النفسية وتفعيل الطاقات وتجويد التوجهات.
ولا يمكـــن الإقـــرار بــــــأن الثقافــــة والفنــــون ديمقراطيـــــة حتى تكون ممكنة للجميـــع، وهذا الطموح لديمقراطيـــة الثقافـــة ينبع من أن الاحساس بالجمـــال لا معنــــى  له إن لم يكن أكثر الأشيــــاء قسمـــة بين المواطنيــــن. والثقافـــــة ليست خدمـــــة عمومية فقـــط، بل هي نسج للوعـــي المجتمعـــي والارتقاء بالدافعيـــة العامـــة، فهي إما أن تكون شعبيـــة أو لا تكـــون، بمعنــــى التمتع والاستفادة والتعلم منها والمساهمــــة في انتاجها، وأن تونس لن تكون كبيرة إلا بشعبها المتعلم والمثقف.
نعتبر أن ثورتنا لن يكتمل بناؤها ويترسخ جذعها إلا بإيجاد ممرات بين التربوي والثقافي وارساء هذه التشاركية، وهذا ما يؤكد الدور التاريخي للثقافة ويفعله في:
* اثراء شبكة القيم المجتمعية والتنموية البشرية والاقتصادية.
* بناء التغيير السياسي العميق وتعديل المشهد السياسي في البلاد واعطاء الأولوية التي يستحقها المجال الثقافي.
* نحت المواطنة المتكاملة وصناعة الداخل الانساني (الفكر-الثقافة-الفنون...)
* الاهتمام بالثقافة الشعبية (رقص الشوارع - المسرح- السينما- الصور الفوتوغرافية-الكاريكاتور- الموسيقى، الرسم...). 
* رفع شعار لكل شاب نشاط ثقافي وكل شاب يعزف على آلة أو يمارس نشاطا ثقافيا.
* تأسيس منتدى الجمعيات الثقافية مما يخرجها من حالة الصمت إلى حالة النطق الفاعل.
* تنشيط الفضاء العمومي ومناهضة انتشار ظواهر العنف التي نراها الآن في زحمة السياسي وتضخّم السياسي السطحي دون البحث عن العمق الانساني ومظاهره الروحية.
هذه بعض الإشارات العامة التي تحتاج إلى الإثراء، لكنها تتمحور حول فكرة ضرورة  الإصلاح الثقافي الذي لا ينفصل عن معترك الإصلاح السياسي، إن لم نقل هو روحه الحقيقية. فالثقافة بمخزونها تلعب دورا أساسيا في مقاومة الاستبــــداد والتصدّي للفســاد بأنواعه أو في تكريس ثقافة الخنوع والقبول بالواقع البائس والمتلبسة في أحيان كثيرة بممارسات مثقفي البلاط أو بفتاوى علماء السلطة، وإلا لما تمكن المستبد الضعيف العاجز أن يستذل ملايين البشر، وأن يسخِّرهم باتجاه مصالحه ورغباته التي تقوم على أنقاض إنسانيتهم الموءودة في رحم الواقع السياسي العربي اليوم. 
وحتى لا تستدرجنا هموم السياســــة التي لا تنضب، فالمقصود هنـــا أن هناك فرقـــا وبونــا شاسعــا بين تيـار عـــام يدفع للانغمــــاس في استحقاق الفعل السياسي بذريعة أن إصلاح الواقع الثقافي- الاجتماعـــي وتطويره هو نتاج المؤسسة السياسية وبين مقالة تيار محدود يدرك تماما أن شرط النجــــاح في الصراع من أجل الحرية والخبز يتطلب معركة مع ثقافة المجتمع المكتوبة والعرفية لتكون هذه ـ الثقافة- سندا للإصلاح لا حائلا دونه. إن تحديث ودمقرطة المجتمع شرطان متلازمان في فك شفرة المسألـــة الثقافية وبدونهما يبقي أي نقاش خارج السيــــاق، إن لم يستوعب الفعل الثقافي في تجلياته وتشكلاته المتعددة ضمن إطار شمولي، يجعل من الإنسان المواطن المتجانس مع عمقه الحضـــــاري وهويته المتماسكــــة وانفتاحه على مختلف أشكال الثقافات.
إن النظــــر إلى أولويــــة «المسألة الثقافية» تقوم على فرضيـــة أن السياسة هي فيض الواقع الاجتماعي- الثقافـــــي، وأن إصلاح السياسي يستدعي العودة إلى المجتمع لتفعيل ثقافته ورج قيمه، وهذه الرؤية تستبطن أن النضال من أجل الديمقراطية يستند إلى تحريك الطبقات الثقافية الكامنة وتحريك الوعي المجتمعي بأهمية الحياة الحرة الكريمة وأهمية استنشاق الهـواء النقي خارج أنفاق الاستبــــداد والفساد والظلـم، وهو ما يفرض الســــؤال عن دور الثقافة الفعلي والواقعي في معترك الإصلاح والتنمية والنهوض بالأبعاد المختلفة للبلاد. 
يمكننــــا الاستنتاج بكل يقيــــن أن المسألة الثقافيـــــة أبعد من السياســــة وأعمق، تتشعــــب إلى مستويات متعـــــددة وكثيرة، إصلاح التفكير الديني، يدفــــع إلى أن يكون الدين طاقــــة روحيــــة فاعلة ومتجــــددة في تونس نحــــو العلم والتقــــدم والحريـــة والعدالة، وإصلاح ثقافــــي يطــــال المجتمع ومفاهيمه وسلوكه وإدارة حياته اليومية فضلا عن حياتــــه العامة، وإصلاح سياسي يعبُرُ أزمة السلطة إلى استحقاق تعزيز ثقافـــة المواطنة والمسؤولية المدنية والأخلاقية، وإصلاح تعليمــــي وتربوي يستثمــــر في المستقبل وقواه القادمة. هي إذن سلسلة من الحلقات المترابطة والمتداخلة والمستمرة، كل منها تؤدي إلى التي تليها.  
إن موضــــوع الثقافـــــة جدل لا يهــــم الأطر الرسميــــــة فقــط ولا الجمعيات الثقافيـــة فحسب، بل يخـــص أيضا مراكز البحث والجامعــــات ومنصـــّات التفكيــــر الثقافي وكل مستويات الدينامية المجتمعية، إن بداية تلمس الفعل الثقافي تفكيرا وممارسة، تبدأ من دراسة التراث بصفة عامة المادي وغير المادي ومخزونه النفسي، وأن نبني قراءة سليمــــة للمسألــــة الثقافية تنطلق من كونها مؤسِسة لا مؤسَسة.