بهدوء

بقلم
فيصل العش
الحوار الوطني قريب من الفشل بعيد عن النجاح

 يجمع الحوار عادة أطرافا متخاصمة ومختلفة من أجل إيجاد حلّ للأزمة الناتجة عن هذا الإختلاف والتصارع. وهو أسلم الطرق لفضّ النزاعات والوصول إلى حلّ المشكلات . وهو مواجهة لموضوع ما نبحث عن جذوره لنستجلي الحقيقة بنيّة تجاوز العقبات وإيجاد الحلول.  وليس الهدف منه إلغاء الآخر أو هزيمته وإنما محاولة لتقريب وجهات النظر وردم للهوّة السحيقة التي تفصل بين طرفي الحوار وجسر تواصل وتفاعل خصب، يساعد على تكامل الآراء واتساع الأفق الفكري الذي يستوعب الحقيقة مهما كان مصدرها. ولإنجاز الحوار لابدّ من طرف ثالث يقرّب وجهات النظر ويقوم بدور الوساطة بين طرفي الحوار ويرعى مراحله ويوفّر الظروف الملائمة لنجاحه وهو ما يطلق عليه عادة «راعي الحوار»، من أهمّ مميّزاته التي تساعده على النجاح في مهمّته عدم انحيازه لطرف على حساب الطرف الآخر وعدم فرضه لشروط مسبقة تخدم أحد الطرفين. وفي التاريخ محطّات عديدة تؤكد الفشل الذريع لكل الحوارات التي أجريت برعاية قوّة منحازة ولنا في الحوار الفلسطيني الاسرائيلي الذي رعته الولايات المتحدة الامريكية  خير دليل على ما نقول.

مازلنا نؤمن بأن الحوار هو الحلّ الأنسب للأزمة الحالية التي تعيشها بلادنا والتي توشك أن تعطّل مسار الإنتقال الديمقراطي وتدخل تونس في أتون العنف وظلمة الأزمات الإقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولقد نبهنا منذ إندلاع الشرارة الأولى للصراع الخفي بين الفرقاء السياسيين المتمثلين في الترويكا من جهة وجبهة الإنقاذ من جهة أخرى إلى أهمّية جمع شمل هذه القوى وغيرها من مكونات المجتمع المدني والسياسي حول طاولة حوار وطني حقيقي لا يستثني أحدا ولا يفرض شروطا مسبّقة على المتحاورين للوصول إلى حلول تجنب البلاد مزيد الاحتقانات والتجاذبات والتصعيد ويمكّن من إنهاء المسار الانتقالي وتنظيم الانتخابات في أفضل الظروف. 
وقد استبشرنا خيرا عندما بادر الإتحاد العام التونسي للشغل صحبة إتحاد الصناعة التجارة وعمادة المحامين والرابطة التونسية لحقوق الإنسان بإطلاق مبادرة للحوار الوطني من أجل تجاوز الأزمة الحالية. غير أن الأمور لم تسر في الإتجاه الصحيح فقد رفضت ثلاثة أحزاب الإمضاء على مبادرة الرباعي منذ الجلسة الإفتتاحية وهي حزب الإصلاح والتنمية وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وتيار المحبّة في حين رفضت بعض القوى الممثلة في المجلس التأسيسي المشاركة أصلا في هذا الحوار كالتيار الديمقراطي وحركة وفاء. ولم يكن بوسع الأطراف المشاركة في الحوار الوطني والتي أمضت على مبادرة الرباعي الإنطلاق في تنفيذ خارطة الطريق التي رسمتها الرباعيّة واضطرت لإقامة جلسات تمهيدية تجاوزت الأسبوع وهو ما يوحي بتعثّر الحوار مما قد يؤدّي إلى تعطّله ومن ثمّ فشله منذ بداياته. فما هي أسباب تعثّر هذا الحوار وأي مستقبل  ينتظره ؟
إخلالات في المبادرة
تتضمن مبادرة الرباعي للحوار الوطني الكثير من الإخلالات التي نرى أنها ستكون حاجزا أمام نجاحها من بينها:
* في كل مبادرات الحوار في العالم، تتحاور الأطراف وتتوافق ثمّ توقّع على ما تمّ الاتفاق عليه ، لكن مبادرة الاتحاد بدأت مقلوبة حيث فُرِضَ التوقيع المسبّق على خارطة الطريق قبل الجلوس على طاولة الحوار وكان ذلك استجابة لمطلب جبهة الإنقاذ أحد أطراف الحوار الذي وضعته كشرط لمشاركتها في بيان أصدرته قبل يومين من انطلاق الجلسة الافتتاحية. وهذا يدلّ على عدم حيادية الرباعي الراعي للحوار إذا ما قارنّا تفاعله مع شرط الجبهة وتعامله بشدّة مع الترويكا وخاصّة حركة النهضة الذي تجلّى في المنحى التصعيدي في تصريحات بعض قيادات الإتحاد ورئيس الرابطة التونسية لحقوق الانسان خاصة خلال الندوة الصحفية ليوم 21 سبتمبر الذي أعلن فشل الحكومة وضرورة رحيلها قبل كل شيء بالإضافة إلى قرار التصعيد الذي اتخذته الهيئة الإدارية للإتحاد المتمثل في دعوة القواعد النقابية للتظاهر يوم الخميس 26 سبتمبر الفارط للضغط على الترويكا من أجل قبول مبادرته من غير شروط.
* عدم وجود هدف محدد وواضح للحوار، فجبهة الانقاذ والأحزاب التي تحوم في فلكها تشارك في الحوار بهدف إسقاط الحكومة وتعيين حكومة جديدة للإنقاذ بتعلّت أن الحكومة الحالية قد فشلت وانتهت شرعيتها وأن إنقاذ البلاد يمرّ حتما عبر اسقاطها . في حين تسعى النهضة ومن ورائها الترويكا  إلى تقريب وجهات النظر ليعود النواب المنسحبون من المجلس إلى مواقعهم داخله لإتمام المصادقة على الدستور وعلى الهيئة العليا للإنتخابات والقانون الانتخابي ولا يرون مانعا بعد ذلك في تغيير الحكومة بأخرى تضمن أكبر قدر من الحيادية في الإتخابات القادمة .
 * حصر الحوار في الأحزاب الممثلة في المجلس التأسيسي هي نقطة الضعف الثالثة للمبادرة لأنه:
- يضعف صبغتها الوطنية نظرا لإقصاء عدد كبير من القوى والأحزاب السياسية. فالحوار لا يمكن أن يكون وطنيّا إلا إذا كان فضاء جامعا لجميع الحساسيات السياسية ومكونات المجتمع المدني دون أي اقصاء. 
- يتناقض مع المنطلقات التي دفعت للحوار حيث أن الأزمة انطلقت أساسا من  إدعاء جزء من المعارضة بتآكل شرعية انتخابات 23 اكتوبر وانسحاب عدد من النواب على خلفية انتهاء شرعية المجلس الـتأسيسي، فكيف نعتمد شرعية منتهية أساسا لتحديد المشاركين في الحوار الوطني؟
- يستبطن الفشل قبل انطلاقه لأن الأحزاب الممثلة في المجلس لو أرادت حلّ اختلافاتها والوصول إلى توافقات بينها لفعلت ذلك داخل قبّة المجلس، فما الفائدة إذا من اجتماع نفس المكونات في مكان آخر ؟ 
- إذا افترضنا أن الحوار سيتضمّن مسألة التحضير للإنتخابات القادمة وتهيئة الأرضية الملائمة لضمان شفافيتها ونزاهتها فإن الحوار يهمّ أحزاب المجلس وغيرها من المتنافسين و بالتالي فإن اقتصار الدعوة للحوار على الأحزاب الممثلة بالمجلس مقياس منحاز ومصادرة لحقوق الأطراف الوطنية المعنية بالمشاركة في تحديد أرضية التنافس في الاستحقاقات الانتخابية القادمة.
* عدم واقعية الروزنامة المقترحة في خارطة الطريق نتيجة وجود مصاعب سياسية وقانونية للالتزام بتنفيذها في غضون شهر من تاريخ انطلاق الحوار. فحتّى لو فرضنا تجاوز الأطراف المشاركة في الحوار عقبة حكم المحكمة الإدارية في مسألة الهيئة العليا للإنتخابات ونجحت في إحداث هذه الهيئة، فإن مناقشة الدستور والمصادقة عليه فصلا فصلا لن يتمّ بسرعة، هذا إذا فرضنا العودة السريعة للنواب المنسحبين إلى مواقعهم داخل المجلس وهو أمر غير مؤكد. فإن الحوار سيصطدم بضيق الوقت ولن يكون قادراً على التقيد بإنهاء مسار الانتقال في شهر واحد لكثرة أعمال المجلس التأسيسي، لا سيما وأن موعد مناقشته ميزانية الدولة لسنة 2014 والمصادقة عليها بات على الأبواب.
* انعدام الثقة بين أطراف الحوار ممّا يفرض وضع ضمانات جدّية لهذا الطرف أو ذاك وهي ضمانات مفقودة في المبادرة خاصّة بالنسبة للترويكا المطالبة بحل حكومتها قبل أسبوع كامل من انتهاء أشغال المجلس الوطني وتحديد موعد الانتخابات القادمة.
قريب من الفشل ... بعيد عن  النجاح 
نحن لا نتمنى الفشل لمبادرة الحوار الوطني لكن الإخلالات التي صاحبتها  تجعلها قريبة من الفشل بعيدة عن النجاح . فقد بدأت متعثرة وعرفت جلساتها التمهيدية تجاذبات عطلت إلى حين السير الطبيعي لأعمالها. كما أن تصريح رئيس الحكومة المؤقتة السيد علي العريض في حواره على القناة الوطنية أشار إلى استحالة استقالة حكومته قبل المصادقة على الدستور وتحديد موعد للإنتخابات وهو ما يتناقض مع البند الأول لخارطة الطريق مما دفع قيادات معارضة إلى التلويح بمقاطعة الحوار. ولن يكون بمقدور الرباعية دفع المبادرة إلى النجاح خاصّة وأن الأطراف المعنيّة مباشرة ببنود خارطة الطريق (الحكومة والنواب المنسحبون) لم تتم دعوتها إلى الحوار كأطراف.
ومن الأسباب التي ستؤدي إلى فشل الحوار الوطني تمترس بعض أطرافه خلف أجنداتهم الحزبية وحساباتهم الايديولوجيّة الضيّقة وتسرّع البعض منهم للوصول إلى قصر قرطاج أو قصر الحكومة بالقصبة من دون المرور بالانتخابات ضاربين عرض الحائط المصلحة الوطنية  واستقرار البلاد ولهذا تراهم يجددون مطلبهم بإسقاط الحكومة في كل مناسبة تتاح لهم ويلوحون بمراجعة مواقفهم من الحوار الوطني مستعينين في ذلك بجزء كبير من ماكينة الإعلام.  وهو ما جعل جبهة الإنقاذ تؤكد على ضرورة البدء في تنفيذ خارطة الطريق في أجل أقصاه يوم 19 أكتوبر الحالي حتّى يتسنّى لها في حالة تعثّر المفاوضات الدعوة إلى التعبئة الجماهيرية في مختلف مناطق البلاد، وخصوصا في تونس العاصمة يوم 23 أكتوبر الحالي لتأكيد رفضها لما اعتبرته مماطلة من حركة النهضة وتجديد الدعوة لإسقاط الحكومة وتعيين حكومة كفاءات وطنية مستقلة هي أدرى أين تجدها.