قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
متى نجتهد؟

 لم تعد تفصلنا عن العيد إلاّ أيام قليلة وإذا كان حال البلد يزداد سوءا كما تقول المعارضة أو هو في حاجة لاتفاق الفرقاء السياسيين كما تقول ثلاثية الحكم، فالمؤكّد على أي حال، أننا بدأنا حوارا لم ينته الى حلّ .وليس شرطا بالطبع أن يأتي العيد والمعارضة وأهل الحكم قد اتفقا على الرغم من تدخل جهات عدّة لعل آخرها السفارة الأمريكية .والعيد عندنا نحن معشر المسلمين ليس أيّ عيد، فهو يأتي بعد يوم الحجّ الأكبر يوم عرفة الذي يجتمع فيه الحجاج على صعيد عرفات الطاهر في يوم عظيم أشبه ما يكون بيوم الحشر. كما أنه يأتي مباشرة بعدالإفاضة العظيمة من عرفات الى مزدلفة وهي نفرة ما وجدت لها شبيها في الديانات الأخرى، غير أن الذي يجمع المسلمين في طقوس العيد الأكبر هو النّحر أوهو خروف العيد الذي لا يستقيم إلا به . ليس شرطا في الدّين أن نشتري خروفا ولم يلزمنا الدّين بما لا طاقة لنا به ولكنّ «العيد الكبير» كما نسميه نحن أهل تونس، كاد يختصر في شعيرة النّحر حتى صرنا نلزم فيه ما لا يلزم ولا مفرّ لصاحب الدار من توفير الأضجية مهما كلفه الأمر .ولا شك أن فقهاء الدّين ملتزمون بما ذهب إليه الدّين من ضرورة التيسير حتى وضعوا الأضحية عن الفقير وصاحب الحاجة وظلّوا يؤكدون على كونها سنّة لا لزوم فيها للتّداين وغير ذلك من ضروب رفع الكلفة والحرج عن عموم المسلمين الفقراء ولكن ثمّة بون بين ما يوجبه الدّين من يسر وما يوجبه العرف وضرورات الإجتماع البشري من ضغوطات جعلت من الأضحية واجبا أسريّا لا مفرّ من أداءه. نستطيع أن ندرك بقليل من العناء أن الناس يبحثون دائما عن المشترك بينهم فيميلون إليه تحقيقا لما يحتاجونه من أمن إجتماعي وليس مهمّا أن يكونوا مقتنعين راضين أو منكرين ساخطين، المهم عندهم فقط ألاّ يصطدموا بالمجتمع أو يخرجوا عليه وهذا بالطبع ما يتيح لنا فهم الكثير من السلوكيات التي نراها في المجتمع والإجابة خاصة على السؤال الذي يحيّرنا باستمرار لماذا نلزم أنفسنا بما لا يلزم ؟ أليست العادات نوعا من الإلزام ؟ أليس التقيّد بالتقاليد في تفاصيلها خاصة فى الأفراح نوعا من الإلزام ؟ ألا نجتهد ونجد في المباهات باتباع التفاصيل والحواشي في كل ما هو تقليدي وقديم المنشأ من دون أن نفكّر ولو لهنيهة إن كان ما انتفع به الأقدمون وتواضعوا عليه مازال نفعه متاحا لنا نحن أيضا، أم أننا فقط متّبعون؟ من يرى جموع الحجيج على صعيد عرفات وقد نزعت عنها أغلال الدنيا واستحلت منها مقبلة على ربها في حرّ الشّمس مهلّلة كلّها بتلبية واحدة، ومن يراهم مفيضين من عرفات في موقت واحد يدرك أن الدّين لم يجعل عبثا عمل الدنيا توطئة لجزاء الآخرة ولا جعل على الناس من حرج في التّمرد على مكرهات الدنيا ووضع أثقالها عن البدن والنفس ولكن من ينظر إلى حالنا لا يرى الوحدة التي عليها الحجيج رغم الإختلاف ولا يرانا متحرّرين بل يجدنا أشدّ ما نكون تمسّكا بما لم يلزمنا به الدّين في روحه أو في شعائره نزداد تشدّدا كلّما أوغلنا في الدّين وهذا هو في إعتقادنا ما يجعل الناس لا تفكّر في مقتضيات الدّين إلا كما كان يفعل الأولون وحجتهم دائما واحدة «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمهتدون» فأين مكنونات التحرير في هذا السلوك الإتباعي وأين مكنونات التنوير في هذا الدين الذي جاء ليخرج الناس من ظلمات الإتباع الى نور المعرفة والإجتهاد؟. إننا بلا أي ريب نعدّ العيد الأكبر أعظم الأعياد عيد يأتي في مختتم أعظم الأركان ليس له مثيل في غيره من الديانات. كما أننا نعتبر سنّة النّحر سنّة من أعظم السّنن ومكرمة ربانيّة خصّ بها الله نبينا وأمّته من دون الأمم، ولكننا نريد أن نلفت الإنتباه الى أننا لا بد أن نتيح لمقتضيات الدّين مناخا إجتماعيا يسمح للنّاس أن تقيم فروضه وسننه من دون أن تكون مضطرّة للزوم ما لا يلزم أومن دون أن تمنعها قلّة ذات اليد من بلوغ المأرب. وما دفعني الى ذلك سوى إدراكي لحقيقة ما يشعر به فقراء هذا البلد من ذلّ و خزي في يوم العيد وهم دون غيرهم لا يقدرون على اتباع سنة نبيهم .إننا في حاجة ماسّة لإعادة النظر في الكثير من المقولات التي لم تعد مناسبة لعصرنا ووضعنا الحالي، فإذا كانت مهمة الدّين أن ييسّر على الناس ما استطاع بغية استيعابهم، فإن مهمّة المجتمع البحث عن سياقات أخرى للتيسير تتيح لكل الناس من دون استثناء المشاركة في كل ما يقتضيه الدّين في جانبه الإجتماعي. وكما سبق لنا أن قلنا بضرورة القضاء على الفقر في رمضان بواسطة جهد اجتماعي منظم فإننا نرى كذلك أن الذي يجب عليه لزوم ما لا يلزم في توفير الأضحية وتمكين العائلات من الإحتفال بالعيد على قدم المساواة جميعا هو المجتمع وليس الفقراء الذين لا يجدون لذلك سبيلا. لو وضعنا نصب أعيننا ضرورة أن ينتهي الإقصاء الإجتماعي على الأقل في المناسبات لانتهى ولكن متى نسعى بجدّ للبحث عن سياقات جديدة بدل القديمة البالية ومتى نجتهد. 

--------------