بكل حرية

بقلم
اسماعيل بوسروال
مسار الحركة النقابية التونسية – وجهة نظر -

 تعيش بلادنا تونس العزيزة – بعد الثورة - مرحلة حبلى بالتحولات ومفتوحة على احتمالات عديدة وما قد يصحبها من تقلبات ...ولكن العنصر الثّابت في كل هذه الأحداث هو مسؤولية أبناء هذا الوطن في نحت مرحلة «بناء دولة مؤسسات نصّا وروحا وممارسة» وليس  بناء أحزاب وجمعيات ونقابات وأقليات و...و...» تكون سببا في ضعف الدولة وتفككها لا قدّر الله ...ويومئذ لا يلوم التونسيون إلا أنفسهم لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى اللحظة التاريخية التي وهبتها لهم الأقدار إلى جانب إرادة الشعب .

إنّ القضايا التي تثيرها هذه المقدمة تدفعني إلى تحميل مسؤولية الأوضاع الراهنة لكل الاطراف، للحكومة الائتلافية ولأحزاب الترويكا وكذلك لأحزاب المعارضة وأيضا للتيارات العنيفة «الجهادية» المخترقة والمصنوعة صنعا خارجيا لتفجير تونس من الداخل عند الاقتضاء ... وكذلك أيضا  مسؤولية  النقابات وما تدعو إليه من اعتصامات  وإضرابات ...وإنّني سأخصص هذا المقال لإبداء الرّأي في «الوضع النقابي» وسأترك الموضوعات الأخرى – رغم أهميتها - لفرص قادمة إن شاء الله ...
العمل النقابي والعمل السياسي .
إنّ الدور المتميّز للاتحاد العام التونسي للشغل في الكفاح الوطني ضد الاستعمار الفرنسي  مسألة ثابتة تاريخيا ورصيد نضالي يعتز به أنصاره إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من تحليل عميق للمسار الذي اتّخذه العمل النقابي في المراحل المختلفة التي مرّ بها منذ بداية القرن الماضي  وخاصة أنني عايشت فترات هامة منذ السبعينيات  كفرد انتمى وينتمي إلى هذه المنظمة.
 إنّها قراءة تحليلية تأملية ولكنّها في ذات الحين قراءة  وفق التجربة الشخصية المصحوبة بأدوات تحليل موضوعية – إلى الحدّ الممكن – قراءة  تشمل الفترات الثلاث البورقيبية والنوفمبرية وما بعد الثورة.
إن نظرة تاريخية تعود بنا إلى الوراء... إلى بداية القرن العشرين وتأسيس «الجامعة العامة لعموم العملة التونسيين» من قبل محمد علي الحامي 1924 تؤكّد تلازم الخط النقابي مع الخط السياسي الوطني بما يجعل من «الطبيعي تماما» أن يكون للاتحاد العام «موقفا سياسيا» من القضايا الوطنية العامة.  
وبما إنّه من «الطبيعي» أن يكون للنقابات موقف سياسي من المسائل الوطنية، فإنّه من «الطبيعي» أن يكون هذا الأداء النقابي السياسي محل تداول ونقاش داخل مؤسّسات المنظّمة النّقابية في مستوى القواعد العريضة المنخرطة في هياكل الاتحاد العام  .
الجذور التاريخية للحركة النقابية التونسية 
يوم 1 نوفمبر 1924 انبعثت «جامعة عموم العملة التونسيين» وأسندت الكتابة العامّة لمؤسّسها محمد علي الحامي وكان أحد مساعديه  شخصية إصلاحية بارزة وهو الطاهر الحداد. وضبط القانون الأساسي للمنظّّمة الأهداف التي أُنشئت من أجلها  ومنها :
*الدّفاع عن مصالح العمّال بصرف النّظر عن أديانهم و جنسيّاتهم.
* تحقيق المساواة بين الفرنسيين والتّونسيّين. 
* تأسيس النّقابات داخل البلاد وتنظيم تحرّكات النّقابات التّونسيّة. 
نشأة الاتحاد العام التونسي للشغل
انعقــــد المؤتمـــر التأسيســــي للاتحاد العـــام التونسي للشغـــل في 20 جانفي  1946  في مقر الجمعية الخلدونية التي يرأسها الشيخ محمد الفاضل بن عاشور تحت شعار «استقلالية العمل النقابي في تونس» وهو شعار بليغ ظل يتردّد صداه عبر الحقبات التاريخية إلى يوم الناس هذا، حيث سعت القيادات النقابية منذ ذلك الوقت إلى أن تكون للمنظّمة النّقابية مقارباتها المتمايزة عن الأحزاب الحاكمة خصوصا ...وقضية استقلالية الاتحاد العام عن الأحزاب قضية لازمته أثناء فترات الحكم التي أعقبت الاستقلال .
 أفرز المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام التونسي للشغل مكتبا تنفيذيا  يرأسه الشيخ «الفاضل بن عاشور» رئيس الجمعية الخَلدونية وهو من شيوخ ومدرسي جامع الزّيتونة المعمور. وتولّى الأمانة العامة للإتّحاد الزعيم النقابي الخالد فرحات حشّاد . ويبرز هذا الثنائي (بن عاشور / حشّاد ) تلاحم أبعاد الهوية الوطنية التونسية ذات المضمون العربي الإسلامي حيث كان الشهيد فرحات حشّاد مناضلا نقابيا وملتزما بسلوك الفرد المسلم وكان الشيخ الفاضل بن عاشور مدرّسا زيتونيا مهتما بالشؤون الوطنية والاجتماعية . استمرّت رئاسة الشيخ الفاضل بن عاشور للمكتب التنفيذي إلى حين انعقاد المؤتمر الثاني 19و20 و21  جانفي 1947 الذي ألغى منصب الرئيس .
القوى الوطنية وتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل 1946 
حظيت عملية بعث نقابة تونسية (1946) فكرا وروحا ومضمونا وأهدافا بدعم عديد الحركات والقوى الوطنية التونسية المتمثلة في الحركة المنصفية نسبة للمنصف باي الذي حكم تونس بين جوان 1942 و ماي 1943 والحزب الحر الدستوري الجديد و الحزب الحر الدستوري القديم والشبيبة الزيتونية وتشكيلات اليسار التونسي. أي أن بعث منظمة نقابية تونسية حظي بتوافق وبتأييد واسع وظهر كأنه فضاء يجمع التونسيين حول مضامين نضالية اجتماعية وسياسية.
ولكن تجدر الملاحظة أن الحزب الشيوعي التونسي فضّل البقاء في نقابات الـــ س.ج.ت التي تعتبر في ذلك الحين وثيقة الصلة باليسار الفرنسي وتعتبر أهدافهما متكاملة ومترابطة وهي مسألة تتعلق بتقدير موقف في زمن محدد وليست موقفا مبدئيا ثابتا .
اتجاهات الاتحاد العام التونسي للشغل 1946
يمكن القول أن الاتحاد العام التونسي للشغل ولد شامخا منذ اللحظة الأولى بفعل الشخصيات التي حضرت تأسيسه والوجوه الوطنية التي ضمها مكتبه التنفيذي وخاصة الأهداف النبيلة التي وضعها لنفسه وهي أهداف جعلت منه هرما من الأهرامات التونسية ذلك أن الاتجاه الذي تبناه هو «الاتجاه الوطني الشعبي  العام» تماما مثلما ورد في  تسميته «الاتحاد العام» وقد وردت الأهداف كما يلي :
(1) المطالبة باستقلال تونس عن فرنسا
(2) الدفاع عن العمال التونسيين 
(3) الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي 
وتبرز جلية درجة الوعي العميق بخاصيات العمل النقابي لدى المؤسسين الأوائل حيث وردت الأهداف النّقابية مدرجة وسط هدفين رئيسيين هما استقلال تونس عن فرنسا والدفاع عن الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي وهي أهداف تنمّ عن عبقرية تونسية حقيقية ربطت بين الحقوق النقابية للتّونسيين وحقوقهم السّياسية والمقوّمات الحضارية لهويتهم. لقد كانت المسألة السّياسية حاضرة في أدبيات الاتحاد العام منذ لحظة التّأسيس الأولى ولعّلّنا ندرك مدى استشعار القوى الاستعمارية الفرنسية لعناصر المقاومة العميقة للاتحاد العام التونسي للشغل تلك المقاومة التي تجسّدت في المطالبة باستقلال  تونس عن المستعمر من خلال أحداث أوت 1947 بصفاقس والدّورالبارز للمرحوم الحبيب عاشور وكذلك من خلال أحداث النفيضة في 21 نوفمبر1950  فاغتالت عصابة  «اليد الحمراء» زعيمه التاريخي فرحات حشاد كما اغتالت لاحقا مناضلين وطنيين آخرين كالزعيم الهادي شاكر والطاهر وعلي حفوز.
وقد مثلت جريدة «صوت العامل» الناطقة باسم الاتحاد أداة إعلامية مدافعة عن  المطالب النّقابية والوطنية للعمّال التّونسيين،لا سيما و أنّ الصّحيفة تحمل اسم «صوت العامل» وقد تجسّد برنامج النّضال النّقابي في الأجور والمنح العائلية والتّشريعات الاجتماعية وتمثيل الإتّحاد في المجالس الاستشارية والوزارات وتحسين ظروف العمل والصحة والسلامة المهنية للعمال.
سمات الوضع النقابي داخل الاتحاد العام التونسي للشغل 
اثر مؤتمر طبرقة ديسمبر2011
أفرز مؤتمر طبرقة ديسمبر 2011 قيادة نقابية يسارية وهذا مجرد وصف فقد تكوّن المكتب التنفيذي من اليسار الماركسي ومن القوميين العرب...وفي اعتقادي، فإن الرّابط الذي يجمعهم هو أنهم يعتقدون أنّهم  «حداثيون» فلم تعد مرجعية اليسار التونسي المدارس السّوفياتية أو الصينية أو الكوبية بل أصبحت مرجعيتها  قيم الثقافة الفرنسية  وبذلك تكامل اليسار الماركسي مع البورجوازية التونسية المتمثلة في الجمعيات النخبوية كالنساء الديمقراطيات وهو نوع من الاصطفاف الناتج عن التحالف الموضوعي الذي بنى عليه نظام 7 نوفمبر خطة «ضرب الحركة الإسلامية واجتثاثها» منذ بداية التسعينات حيث أن الأبواب كانت تفتح أمام أصحاب  نمط العيش الحداثي للشغل والارتقاء المهني وليتبؤوا المراكز الحسّاسة في الدولة في الأمن والإعلام والتربية والثقافة في حين توصد جميع الأبواب في وجه أصحاب النفس الإسلامي بل تمت مطاردتهم والتنكيل بهم...إنّ نتائج مؤتمر طبرقة 2011 هي إفراز لما أنتجته «صناديق الاقتراع» في المنظمة النّقابية ...ولكن ما أودّ التّأمّل فيه جيدا هو ذلك الشكل الذي بنيت عليه المنظمة وهو «الاتجاه الوطني الشعبي العام» 
لقد اختل المبدأ الأخلاقي في الممارسة النقابية للاتحاد العام التونسي للشغل خلال تسعينيات القرن الماضي أثناء هجمة النظام النوفمبري على المعلمين والأساتذة والموظفين والعمّال حيث قام النّظام بطردهم من وظائفهم وسجنهم ومراقبتهم ومحاصرتهم وقطع موارد الرّزق عنهم ....لم تكن هناك تهم حوكموا من أجلها عدا «الانتماء إلى جمعية غير معترف بها» أو « الاحتفاظ بجمعية غير معترف بها» .لم يكن للاتحاد العام التونسي للشغل – الذي أنتمي إليه من 1973 إلى اليوم – أيّ موقف ينكره على النظام من سجن وتعذيب وهرسلة مواطنين تونسيين بسبب أفكارهم ...فلا جرائم أخرى حوكموا من أجلها ...
...ولما سقط النظام في 14 جانفي 2011 سقط مؤقتا «النظام السياسي» وبقيت «الدولة العميقة» بجميع أجهزتها التي سهر البوليس السياسي على تنقيتها من كل من له ملامح الشخص الذي تربطه صلة ما بالحركة الإسلامية وتمت تصفيتهم سواء في الإدارات أو الجمعيات والمنظمات ...لقد استمرّت خطة تجفيف المنابع وفق الاصطفاف الذي صنعه النظام السّابق ضد الهوية العربية الاسلامية باعتبارهذه الهوية «ايديولوجيا» وهو تحديد مفهومي  ضبطه البوليس السياسي ...كما بقيت متداولة في المجال السياسي والاعلامي المقولات التي رسّخها النّظام السّابق بأن «الاسلاميين»  يمثّلون  خطرا على المجتمع ويجب تحرير الوطن منهم وهي المقولات الذي بسببها أطرد عشرات آلاف الموظفين والعمال وتضرر منها حوالي 150ألف تونسي بما أن النظام السابق لم يكتف بالعقوبة الجزائية الفردية بل مارس العقاب الجماعي على أساس مجرد الشبهة والاقتراب من الأشخاص ...ومسؤولية الاتحاد العام في تلك الفترة ثابتة في الصمت على كل هذه الجرائم ...ولم تراجع الجهات اليسارية النقابية  موقفها من «حرمان» طيف من التونسيين من حرياتهم السياسية بل من حقوقهم الاجتماعية ...وان كانت عملية النقد الذّاتي مطلوبة من الجميع فإنّ الحديث هنا يخص طرفا محددا.
ولو فُتحت ملفات البوليس السياسي لأمكن الوقوف على مدى هيمنة البوليس السياسي على الوظيفة العمومية والصفقات العمومية وتحكّمه الخفي عن بعد – وإلى حد ما – في كل الأحزاب والمنظمات إلى 2010  حين اندلعت الثورة... فقد تحكم جهاز «أمن الدولة» في تفاصيل الحياة السياسية وراقب بالدقة اللاّزمة المنظمات ... بـــ «المنحة الرئاسية» وأخرى يتم التحكم فيها عبر المنحة الوزارية القطاعية ...وتم تحديد «مربع التحرك» للاتحاد العام التونسي للشغل من قبل المخططين الاستراتيجيين للنظام السابق .
وسنبقى ننتظر «العدالة الانتقالية» التي تأخرت كثيرا لتبوح لنا بكيفية اشتغال تلك الآلة الاستخبارية السّحرية 
العمل الحزبي في المنظمة النّقابية بعدالثورة
* إنّ المجال النقابي في منظمة عتيدة مثل الاتحاد العام يقتضي يفترض  نوعا من «التعايش» و «القبول بالآخر» وهو سلوك غائب لدى عديد النقابيين في الميدان. 
* الممارسة النقابية بعد مؤتمر طبرقة 2011 اعتمدت الأسلوب الحزبي حيث تميزت التصريحات النقابية بالشحن العدائي للحكومة ولحركة النهضة وللترويكا...ولم يقف الخطاب النقابي عند الإعلان عن معارضة الحكومة وتجييش وتحشيد العمال والموظفين والمعطلين عن العمل ضدها، فهذا أمرقابل للنقاش ولكنه اصطبغ بنبرة اقصائيّة للتيار الإسلامي وتشكّل في خطاب إيديولوجي بامتياز ينفي وينكر على الإسلاميين  قيم العدل والإنصاف والمساواة والحريات العامة والفردية وحق العمل النقابي ويحتكر لنفسه - عن خطإ في تصوّر الذات وخطإ في تصوّر الآخر- لقيم حقوق الإنسان و الديمقراطية والمدنية وكذلك احتكارالتاريخ النّقابي. كما احتكراليسار الفضاءات النقابية (الاتحادات الجهوية / المقر المركزي / ساحة محمد علي) و أصبحت حكرا علىيهم لكونهم الحلفاء الوحيدين واعتبار المنخرطين الآخرين أعداء للحركة النقابية ..ولقد لاحظنا احتضان فضاءات الاتحاد العام لاجتماعات يشرف عليها سياسيون من اليسار وهو شكل حزبي يفقد الاتحاد العام صبغته كمنظمة «ذات بعد وطني شعبي عام». 
نتائج السلوك الحزبي في الميدان النقابي
نتج عن توظيف الاتحاد العام التونسي للشغل من قبل الأحزاب اليسارية خلل في «العقد الاجتماعي» بسبب القوانين الحمائية التي تكرّس دكتاتورية اليسار وهيمنته من خلال استخدام لجنة النظام كأداة تأديبية لفرض الإضراب ومعاقبة كل من يعبر عن معارضته لقرار إضراب قطاعي، ففي حين تطالب المعارضة السياسية في المجلس التأسيسي وفي كل المواقع بأن يكون لها صوت ورأي ودور فإن الهياكل النقابية للاتحاد العام سلكت سلوكا  مضادا لمراعاة التنوع داخل المنظمة وهو أسلوب هيمنة وإقصاء يتنافى مع الشعارات المرفوعة التي تنادي بالديمقراطية والحرية وحق الاختلاف ...الخ...الخ ...  .
لقد لمست من خلال الوضعيات النقابية التي عايشتها سلوكا لا تتوفر فيه الحيادية والنزاهة في الجهاز النقابي المشرف على تسيير المؤتمرات النقابية وذلك بالعمل في بعض الأحيان وفق منهج يؤدي وجوبا إلى نتيجة لفائدة «اليسار» وبانتهاج أساليب مخالفة للنظام الداخلي للاتحاد العام وفي خرق واضح له...ولم تقبل الطعون المقدمة  مادامت صادرة عن أطراف وجب إقصاؤها بكل الوسائل ...إنّ أسلوب عمل كهذا، فضلا عن مخالفته للنظام الداخلي، هو إجراء يتناقض مع قيم المنظمة الشّغّيلة التي كانت لوائحها المهنية تُذيّل بالشعار التالي«عاش الاتحاد العام التونسي للشغل ديمقراطيا حرّا مستقلا ومناضلا».
كما أن تشكيلات نقابية وأشخاصا يتحملون مسؤوليات نقابية عارضوا تطبيق مرسوم العفو العام في جزئه الثاني وشنّوا حملة على «إنصاف المظلومين» وألبسوا الحق لبوس الباطل عندما ضمّنوا في لوائح إضراباتهم القطاعية « الانتدابات العشوائية» وفي لفظ آخر شنوا حملة على  «تحزيب الإدارة»عند الحديث عن تفعيل مرسوم العفو العام . وهو إصرار على مواصلة اضطهاد فئة اضطهدها النظام السابق ...متعللين بأن الظلم قد شمل الشعب كله وأن الأولوية في التشغيل للعاطلين عن العمل الذين يعانون البطالة منذ عقد أو عقدين...نعم إن المعطلين عن العمل ضحايا ولهم كامل الحق في أن يتم البحث عن حلول لمشاكلهم ولكن يجب التذكير بما يلي :
* رغم أن الاتحاد العام التونسي للشغل حقق تحسين المقدرة الشرائية للموظفين والعمال من خلال المفاوضات الاجتماعية والتي كانت تحصل كل ثلاث سنوات، لكنه كان شريكا في السياسات السابقة الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى هذه النتائج. فهو لم يعترض على الانتداب بالتعاقد في المؤسسات ولم يقاوم المناولة وأوضاع التشغيل الهشة والتفريط في المؤسسات الاقتصادية الكبرى لفائدة القطاع الخاص...وهنا عليه بنقد ذاتي يستعيد به موقفه الذي كان يجب أن يكون .
إنّ الخلل في العقد الاجتماعي في المجال النقابي داخل الاتحاد العام أدى إلى دخول أطراف من «المجتمع المدني» لتعديل ميزان القوى في المجال الاجتماعي فلاحظنا على سبيل المثال دورا هاما لـ «جمعية الأئمة والخطباء» في  مسيرة صفاقس ضد الإضراب العام...وهو أمر يجب أن تتوقعه الطبقة النقابية اليسارية التي تمسك بالمكتب التنفيذي وبالقطاعات، لأنه لا يمكن إقرار الاضرابات والتحركات النقابية واتخاذ إجراءات ردعية لفرضها وتصوّر أنّ المنخرطين في الاتحاد  سيساقون كالقطيع مرة أولى وثانية وثالثة ...إلى حين إسقاط الحكومة. إنّه  أسلوب عمل لحزب شيوعي ستاليني يعتبر أن له «طليعة» قيادية  وله أتباع مهمتهم تتلخص في تطبيق رؤية القيادة «الملهمة».
إن العنف الذي استهدف ساحة محمد علي يوم 4 ديسمبر أمر غير مقبول ومدان ...والحكمة تتطلب اجتناب توظيف ساحة محمد علي حزبيا والتفكير في أية خطة تستهدف استقلالية المنظمة النقابية وحرية قرارها . فالإتحاد العام التونسي للشغل هو الإطار الذي يحتمي به جميع التونسيين بمختلف مشاربهم الفكرية والسياسية بمن فيهم الإسلاميين الذين يعتبرون الاتحاد العام الخيمة المفضلة لهم في الميدان النقابي وأن خيار التعايش السلمي مع جميع التيارات فيه خيار استراتيجي وإنّ نضال النقابيين الإسلاميين ضد الظلم الاجتماعي فضاؤه الأمثل هو  ضمن أطر «الاتحاد العام»...
وإنّي أرى أنّ تصعيد الإضرابات والاعتصامات في وضع أمني هش وفي جسم مجتمعي رخو وفي اقتصاد يعاني مصاعب هيكلية والذي مارسه «الاتحاد العام» وهدف به إسقاط حكومة الترويكا هو أسلوب غير مدروس لأن إحداث فوضى أوجرّ البلاد إلى حالة  فراغ سيؤدي – حسب نظري – إلى إعادة إنتاج نظام بوليسي قمعي سواء بوجوهه القديمة أو بوجوه جديدة ...والحل الأمثل هو فرض مناخ يتيح التداول السلمي على السلطة بواسطة الانتخابات ....
أمّا ما يمثّل هفوة تقديرية ورعونة سياسية في سلوك المكتب التنفيذي للاتحاد العام فقد تجسّد – حسب نظري – في بيان 04 جويلية 2013 الذي هنّأ الشعب المصري بالانقلاب العسكري ... إنّه فشل ذريع في التعبير عن موقف صحيح يتناسب مع حقيقة الأوضاع ...لقد تلخّص المشهد المصري في بيان لوزير الدفاع عزل رئيسا منتخبا وعيّن رئيسا منصّبا أي أن وزير الدفاع هو رئيس الرّؤساء «من باب التداول السلمي على السلطة ؟ !»  ...وتزامن ذلك مع حل مجلس الشورى والهجوم على مقرات حزب الحرية والعدالة وحزب الوسط ... وتزامن أيضا مع الهجوم المسلح على 17 محطة فضائية من باب « حرية التّعبيرالموعودة !؟» ...إنّ بيان المكتب التنفيذي يوم 04 /07/2013 هو بيان ذو صبغة حزبية ضيقة من جهة وهو بيان متناقض مع المبادئ التي يدعو إليها أنصار الديمقراطية والحرية ...أنا لست على اطلاع كاف على الأوضاع في مصر ولكن يقتضي المنطق أن تتم العودة الى الشعب عبر انتخابات سابقة لأوانها دون الانقضاض على المؤسسات الشرعية المنتخبة ...إن الاحتكام إلى صندوق الاقتراع هو أفضل أداة لحسم الخلاف بأسلوب سلمي راق . ...ولكن المكتب التنفيذي للاتحاد العام هنّأ الشعب المصري بالانقلاب العسكري ربّما لأنه «ضد الإخوان» حتّى وان صنع هذا الانقلاب بواسطة المخابرات الأجنبية وبتمويل منها وقصدت به الزج بالشعب المصري في نفق مظلم يدوم عشرات السنين .
إن النضالية النقابية  اليوم ليست إضرابات ولا إعتصامات ولا سبّا وشتما للآخرين. بل هي  «عمل جاد» في الميدان لتنمية الموارد وخلق فرص الشغل للمعطلين ، و «احترام الآخر و التعايش معه» بدل الاقصاء والاستئصال وكذلك العمل على بناء اقتصاد وطني قوي بدل تدمير المؤسسات الصناعية والاقتصادية... والنضالية  النقابية اليوم هي بناء الديمقراطية داخل المنظمات ومنها الاتحاد العام التونسي للشغل وداخل الأحزاب سواء كانت إسلامية أو اشتراكية أو ليبرالية، لتصبح تونس بلدا ديمقراطيا يضمن حقوق المواطنين على قدم المساواة...وأختم بما ورد في مقدمة المقال «: ولكن العنصر الثّابت في كل هذه الأحداث هو مسؤولية أبناء هذا الوطن في نحت مرحلة بناء دولة مؤسّسات نصا وروحا وممارسة وليس  بناء أحزاب وجمعيات ونقابات  وأقليات كأنّها «جزر منعزلة».