الكلمة الحرّة

بقلم
عبداللطيف العلوي
في نقد المسألة التّربويّة : المُعِيقُ البشريّ ...

 من أكثر المسائل الحارقة المطروحة في الحقل الوطنيّ منذ ما يزيد عن عشريّتين، المسألة التّربويّة والتّعليميّة بشكل خاصّ، غير أنّ هذا الطّرح لم يكن يوما شفّافا ومحايدا لارتباطه بكثير من الحسابات الدّعائيّة والتّسويقيّة .. حيث تداخل الثّقافي والتّربويّ بالسّياسيّ، وصار من الصّعوبة بمكان تلمّس الوضع الحقيقيّ لما آلت إليه مستويات التّعليم والتّكوين في بلادنا ..

والحقيقة أنّ الأنظمة الشّموليّة عموما، لم تسمح – على مدار التّاريخ – بقيام نظام تربويّ وتعليميّ فاعل، يبني الإنسان ويحفّز قدراته ويؤهّله لأن يحيا بمواطنيّة حقيقيّة، ويكون شريكا في صنع المصير.. فجاءت برامجها مغلقة على الايديولوجيا الحاكمة، ممجّدة لتاريخ زعمائها ومبرّرة لكلّ حدث أو اختيار تقوم به مهما كانت تبعاته...
لم يكن الأمر في تونس ليشذّ كثيرا عن هذه القاعدة ، حيث راهنت دولة الاستقلال ظاهريّا على التّعليم ليكون الرّافعة الأساسيّة للإنسان والمجتمع، غير أنّ تلك الاختيارات الوطنيّة لم تكن وطنيّة بمطلق التّحليل، ولم تكن غايتها الوحيدة هي تحديث المجتمع و تأهيل إنسان واع متعلّم قادر على التّفاعل الإيجابيّ مع «باني تونس الحديثة وصانع مجدها»، مثلما كان بورقيبة يصرّح في أكثر من مناسبة ... بل كان الهدف هو تغيير بنية المجتمع التّونسيّ وثقافته وثوابته ليصبح قادرا على استيعاب فكر الزّعيم و تبنّيه بمطلق الحرّيّة المسلوبة، وإعادة إنتاج ثقافة بعينها فشلت بغزاتها فاتّخذت لها مسلكا جديدا عبر الوكلاء.
لقد كان بورقيبة يريد أن يثبت للأب الكولونياليّ أنّه قادر على أن ينجح فيما فشل فيه هو طيلة العقود الاستعماريّة ، وأنّه – وهو الملوّن – الحاضن الجينيّ للثّقافة الغربيّة ، قادر على أن ينقل «اللاّمجتمع» التّونسيّ العشائريّ الباترياركاليّ ، من طور البداوة إلى طور التّنظّم المدنيّ الحديث وفق قواعد الثّقافة الغربيّة وقيمها ... لم يكن يريد حقّا شعبا مثقّفا يشاركه البناء و التّحديث وتقرير المصير، وإنّما شعبا متعلّما قادرا على أن يدرك أسرار عظمته ، وعبقريّته ، وعلى أن ينزّل مشروعه التّحديثيّ على أرض الواقع، تماما كالمهندس المعماريّ الّذي يريد يدا عاملة ماهرة ومؤهّلة، لتجسّم تصميمه وتخطيطه الخاصّ على أرض الواقع، دون اجتهاد أو ابتداع،  ... لذلك كانت البورقيبيّة فكرا ونمط حياة ..
انطلاقا من هذه الرّؤية، تحرّكت الأقلام المعتمدة لدى الأجهزة الرّسميّة للدّولة، لتسطّر البرامج التّعليميّة داخل هذا المربّع الثّقافيّ الجديد، فكان أن سقط التّاريخ في اختبار الجغرافيا، واختصر البلد كلّه في واحد بفكره وشخصه وسيرته ومسيرته، وضرب التّعليم الزّيتونيّ، وصيغَ الموقف من التّعريب وفق هذه الاعتبارات طيلة الحقبة البورقيبيّة من عمر ما يسمّى : «بالدّولة الوطنيّة»...
إلاّ أنّه رغم كلّ ما يمكن أن يؤخذ على فلسفة بورقيبة في المسألة التّعليميّة ، لا يمكن أن نكون منصفين إذا لم نقرّ له بدوره الحاسم وأثره في نشر التّعليم في تونس ... تماما كما نقرّ للهلاليّين ، بدورهم التّاريخيّ في نشر اللّغة العربيّة بالمغرب العربيّ ، بقطع النّظر عن ملابسات ذلك الواقع وأهدافه وتبعاته السّياسيّة والحضاريّة ...
لم يكن بورقيبة عدوّا للمعرفة مهما تعدّدت قراءاتنا لمواقفه طيلة فترة حكمه ، لذلك وجد الجيل الأوّل فرصته في التّعلّم النّوعيّ – بقطع النّظر عن مسألة التّوظيف – لكنّ الأمر سيختلف تماما في الفترة «البنعليّة»  حيث كان هذا الأخير عدوّا حقيقيّا للمعرفة لاعتبارات كثيرة شخصيّة وموضوعيّة ..
كان بن علي رجلا مهمّشا ، غير ذي حظّ من التّعليم والثقافة – عكس بورقيبة -  تقلّب في كلّ المناصب الّتي تقلّدها بفضل مؤهّلات أخرى لم يكن الجانب الثّقافي والعلميّ أحدها ... ولمّا قفز إلى كرسيّ الرّئاسة ذات 7 نوفمبر ، أحاط نفسه ببطانة لا تقلّ عنه احتقارا لشأن المعرفة .. عصابة من المستفيدين من روابط المصاهرة، يعيثون في السّوق ويخلقون قوانينهم الخاصّة في التّنفّذ والسّيطرة على كلّ مفاصل العجلة الاقتصاديّة، وبمثل ما اشترى لنفسه من الشّهائد العلميّة من كثير من جامعات العالم، كان يعتبر أنّ أقصى غايات المؤسّسات التّعليميّة هي أن تبيع الشّهائد، كان يراها مجرّد مصانع لإغراق السّوق بالشّهائد العليا، ولكن بدون رصيد معرفيّ حقيقيّ ...
لذلك وجدنا أنّه نتيجة لما سمّي بالإصلاح التّربويّ، حدث أمران في غاية التّناقض : تدنٍّ رهيب في المستوى المعرفيّ والعلميّ لخرّيجيّ « سوق التّربية» ، مقابل ارتفاع مهول في عدد المتخرّجين وتضخّم كبير في المعدّلات في كلّ المستويات .. 
هذان المعطيان يبدوان للوهلة الأولى في غاية التّناقض ، إلاّ أنّ قليلا من التّحليل قد يغني عن كثير من التّأويل ، .. فما سمّي بالإصلاح التّربويّ الّذي بدأ في التّسعينات برعاية السّفارات الأجنبيّة، كان عملا تخريبيّا ممنهجا للعقل التّونسيّ ، حيث وقع تفريع التّعلّمات في المرحلة الأساسيّة إلى ما يزيد عن عشرين مادّة دون برامج مدروسة أو تكوين للمدرّسين ، وسوّى المشّرّع في الضّوارب وفي التّوقيت بين ما كان يعتبر موادّ رئيسيّة ، وبين الموادّ الجديدة المستحدثة ، فكان أن تشتّت مركز اهتمام المعلّم والتّلميذ، وامتلأت بطاقات الأعداد بأرقام غير ذات رصيد حقيقيّ في عقل التّلميذ، وتمادى المشرّع المعتمد لدى سلطة القرار في تمييع المنظومة، فوقع إلغاء مناظرة السّادسة من التّعليم الابتدائيّ، وهي الّتي ظلّت طيلة سنين محطّة رئيسيّة في التّقييم الجدّيّ الرّسميّ، واستحدثت مناظرات أخرى بروتوكوليّة اختياريّة لها هدف تفضيليّ لفئات معيّنة وليس إشهاديّا، ولم تسلم حتّى مناظرة الباكالوريا من التّمييع والتّحريف، فقفزت المعدّلات ونسب النّجاح فجأة وامتلأت السّوق الوطنيّة بأعداد من المتخرّجين غير المؤهّلين تفوق طاقتها على الاستيعاب  ..
كلّ ذلك كان محلّ دعاية النّظام القائم ومفاخرته في المحافل الدّوليّة، وصار التّعليم في تونس مجرّد أرقام وإحصائيّات كسريّة وعشريّة مضلّلة لمن يعتمد على معطيات الواقع في التّقييم ..
وككلّ نظام قائم على الدّعاية عوض الحجّة والبرهان، كان لا بدّ من أن يتحوّل صنف كامل من رجال التّربية والتّعليم، وهم المتفقّدون والمرشدون البيداغوجيّون والمساعدون والمكوّنون والباحثون وحتّى المديرون، إلى أدوات تسويق ومنتدبين للدّفاع الدّائم عن غائيّات الإصلاح التّربويّ وفلسفته ... بل أكثر من ذلك، وقع إغراق الحقل البيداغوجيّ عمدا بترسانة ضخمة من المصطلحات التّربويّة المستحدثة والآليّات، الّتي أُريدَ دائما أن تُقدّم بشكل تعجيزيّ مقصود، بغرض تقزيم عقل المتلقّي والتّلبيس عليه كي لا تترك مجالا لمنطق الحجّة في تقييم هذا التّمشّي .. فصار المعلّمون تلاميذ محبطين متبلّدي الذّهن، أمام جنرالات الإرشاد والبيداغوجيا الّذين اختصّوا بعلم المصطلح، وصاروا هم المصدر الوحيد لمعرفة المجال، ولا سبيل لمناقشتهم، بما أنّ التّواصل المعرفيّ معهم قد انقطع تماما ..
معطى آخر أُضيف إلى المعيق البشريّ الرّسميّ، حيث، وفي ظاهرة غريبة ومفاجئة منذ بداية التّسعينات، لوحظ تزايد عدد المعلّمات الإناث في مختلف المؤسّسات التّربويّة على حساب عدد المعلّمين الذّكور، وبعيدا عن أيّ مزايدات جنسويّة تافهة ، يجدر التّنبيه إلى جملة من الحقائق السّوسيولوجيّة والسّلوكيّة النّاتجة عن اختلال التّوازن في الإطار البشريّ المدرّس على العمليّة التّربويّة بشكل عامّ ، إذ يحتاج التّلميذ لسلطة اعتباريّة مزدوجة ذكوريّة و أنثويّة تتلاءم مع مختلف جوانب شخصيّته في مختلف أبعادها، ويؤدّي افتقار العمليّة إلى أحد هذين الاعتبارين إلى اختلال في الجوّ المدرسيّ الملائم، إمّا في اتّجاه التّصلّب والسّلطويّة، أو في اتّجاه الانحلال والتّراخي، كما أنّه من الثّابت أنّ أغلب منتسبي  هذا القطاع هم من الطّبقتين الوسطى والدّنيا في المجتمع، وهو ما يحيل على وضعيّة خاصّة للمرأة المثقلة بالالتزامات المعيشيّة اليوميّة، حيث تجد المرأة / المدرّسة نفسها مجبرة على تحمّل كلّ أعباء العمل الوظيفيّ، والشّؤون المنزليّة اليوميّة بشكل مرهق و قاهر .. ماهي علاقة ذلك بما نحن بصدده ؟؟
المقصود أنّ تأثير هذه الوضعيّة الاجتماعيّة على المربّية سيكون ظاهرا وحاسما في مستوى تكوينها المعرفيّ و قدرتها على اكتساب الثقافة أو تجديدها، حيث لا تجد الوقت ولا الطّاقة الإضافيّة للبحث والتّكوّن الشّخصيّ، وحيث أنّ الهمّ الثّقافيّ المجرّد يصبح خارج قائمة الأولويّات، ويصبح الوقت المحدود الّذي تتخلّص فيه المرأة من الهمّ اليوميّ موجّها  للمسلسلات الشرقية والبرامج التّرفيهيّة المبلّدة للذّهن، عكس الرّجال – وبحكم نفس عوامل الوقت والطّاقة الذّهنيّة والجسديّة – تظلّ لديهم القدرة على نوع من التّجدّد والتّحيين لمعارفهم ولو في شكلها العامّ والسّطحيّ ، إذ يجدون الوقت أكثر لمتابعة الأحداث الرّاهنة أو المستجدّات المعرفيّة المتاحة والتّحاور في شأنها. كلّ ذلك جعل التّلميذ يجلس في أغلب الأحيان أمام معلّمات تجمّد رصيدهنّ المعرفيّ منذ سنوات التّخرّج ، واقتصر على الحدّ الأدنى من المعارف الوظيفيّة الضّروريّة حسب البرامج الرّسميّة ، وهو ما سوف ينعكس بالضّرورة على مستوى التّلاميذ ... وطبعا لا ندّعي أنّ هذا المشكل خاصّ بالمعلّمات وحدهنّ دون المعلّمين ، ولكنّه يطرح بأكثر حدّة لدى الإناث ، ويؤثّر بشكل مباشر على المستوى التّعليميّ بحكم أغلبيّتهنّ العدديّة الكاسحة في مؤسّسات التّربية والتّعليم ...
خلاصة المعضلة التّربويّة اليوم في تونس ، هي أنّنا كنّا جميعا طرشان حول مائدة الحوار ، فالجميع بدون استثناء – من المختصّين وغير المختصّين – يقرّون بتراجع الحاصل المعرفيّ لدى التّونسيّ إلى درجة منذرة بخراب العقول ، لكنّ الموظّفين الرّسميّين في المسلك الدّعائيّ الحكوميّ وحدهم كانوا يروّجون الصّورة بشكل مقلوب تماما ، والجميع يدعون إلى حلّ وطنيّ شامل لهذه المعضلة ، لكنّ الحلول كانت تضيع دائما في أدراج اللّجان ، أو في احتفاليّات الاستشارات الوطنيّة ، الّتي تكون دائما على مبدإ « شاور النّاس الكلّ واعمل شور راسك». ويبقى هذا الملفّ مجمّدا بعد الثّورة ، في انتظار فتح مختلف الورشات ذات الصّلة بمقاييس وطنيّة حقيقيّة هذه المرّة ، تعيد لهذا القطاع دوره الفاعل في بناء الدّولة وأنسنة الإنسان ، غير أنّه لا سبيل إلى ذلك في اعتقادي إلاّ بإنشاء «هيئة وطنيّة مستقلّة» تشرف على هذا القطاع ، وتخرجه من دائرة التّجاذب السّياسيّ والتّوظيف الايديولوجيّ ، عندها يمكن أن نطمح إلى برامج دراسيّة جادّة مربوطة بأهداف وطنيّة جامعة ، ويمكن أن نأمل في تقييم دوريّ نزيه لمستوى الحاصل العلميّ في مختلف المستويات ، وتعود للشّهائد التّونسيّة قيمتها التّنظيريّة ، وفاعليّتها في معترك بناء الوطن الجديد