نقاط على الحروف

بقلم
شكري عسلوج
لمذا أفلس التعليم في تونس؟

 من بين نذر الشؤم والفشل والخسران، الأكثر وقعا على نفسي والتي ما فتئت وسائل الأعلام تطالعنا بها في كل آن وحين، بسبب وبدون سبب ، خبرا مفاده أن أول جامعة تونسية تأتي في المرتبة 70. عندما نستحضر أن الدولة التونسية قد راهنت منذ فجر الاستقلال على التعليم وعلى التنمية البشرية أو الاستثمار في «المادة الشخمة» كما درج الرئيس بورقيبة على التأكيد على ذلك في خطاباته وتوجيهاته الشهيرة، حيث كان يفاخر بأن تونس لا تشتري سلاحا وإنما ترصد ثلث ميزانيتها للتعليم، قد يذهب البعض منا إلى الاعتقاد أن التصنيف قد شمل دول العالم قاطبة أو دول العالم الإسلامي أو حتى دول العالم العربي مجتمعة، ولكننا عندما نتأكد يقينا بأن الترتيب لا يتجاوز حدود القارة السمراء، وأن جامعات من أوغندا وكينيا وبتسوانا وأثيوبيا وبوركينا فاصو والصومال، تتوشح بمراتب متقدمة بالمقارنة بالجامعات التونسية، فأن كل ذي بنان لا يلبث أن يدرك الحالة الكارثية التي تدحرج إليها التعليم في ربوعنا وينفطر فؤاد كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد على الجرائم التي أُرتكبت بحق هذا الوطن وبحق أجياله الصاعدة. 

يتدعّم هذا الانطباع عندما يخرج علينا وزير التعليم السابق ويصرّح على الملأ، لكن بعد خروجه من الوزارة، بأن مائة ألف تلميذ قد هجروا مقاعد الدراسة وأداروا ظهورهم للعلم وأهله في السنة الدراسية 2012 – 2013، ويدعو بالمناسبة كأي مواطن عادي، لا كمن تقلد أعلى مسؤولية على التعليم في البلاد،  إلى إصلاح المناهج التعليمية المتخلفة التي لا تشدّ التلميذ إليها.
في ذات السياق، ما زلت أذكر جيدا بداية الثمينات من القرن الماضي عندما كانت ألمانيا الاتحادية تناظر البكلوريا التونسية بالألمانية وتخصص تبعا لذلك صفا خاصا للتونسيين دون سواهم لتعلم اللغة الألمانية في سنة واحدة قبل الالتحاق بجامعاتها، بينما يكتظ باقي الطلبة من مختلف الجنسيات (عربا وإيرانيين وأتراكا، وأفارقة وأمريكيين جنوبيين وأسيويين، إلخ) في صفوف مشتركة في المدارس التحضيرية ولسنوات عدة، لإعادة اجتياز البكلوريا بالمواصفات الألمانية. هذا الامتياز ألغي فيما بعد، عندما تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم يعد هناك شك من تقهقر المستوى التعليمي في تونس خاصة خلال السنوات التي تلت التحول المبارك.
لقد أتيحت لي فرص التدريس في جامعة ألمانية وفي جامعة تونسية وفي جامعة بوروندي في منطقة البحيرات الكبرى الأفريقية، هذا البلد  الذي مزقته حرب أهلية ضروس وشهد واحدة من أسوأ المجازر وجرائم التطهير الأثني في تاريخ الإنسانية الحديث، وبذلك يمكنني ضمنيا أن أستقرئ أوجه الخلل في منظومتنا التعليمية التي تجعلها بعيدة كل البعد على مستوى المنظومة التعليمية في دولة متقدمة مثل ألمانيا، تتربع اليوم على عرش دول الاتحاد الأوروبي كما تجعلها تتقهقر دون هوادة بينما يتقدم مستوى التعليم في دول ما زالت تستنفر في مخيالنا الجمعي التونسي، مشاهد الفقر والحروب والمجاعات والتخلف وحتى البدائية، بل ويتجاوزنا تاركا لجامعاتنا المراتب الدنيا في التصنيفات الموضوعية المقارنة.
ماذا جرى حتى تُكلل الأموال الطائلة التي رُصدت والجهود المُضنية التي بُذلت والتضحيات الجسيمة التي قُدّمت خلال ما يزيد على النصف قرن، بهذه النتائج الهزيلة بل الكارثية بكل المقاييس؟
(1) لا شك في أن هناك خللا هيكليا، يتمثل في سوء تحديد الخيارات الكبرى لدولة الاستقلال ككل وخيار أنموذج المنظومة التعليمة والثقافية بصفة خاصة، والذي يتماهى بل ويتطابق بشكل كاريكاتوري مع المنظومة الفرنسية. قد يقول البعض أن هذا كان من أهم الإملاءات والشروط التي فرضتها القوة الاستعمارية السابقة على بلادنا قبل أن تمنحنا الاستقلال حتى تضمن تبعيتنا ولم يكن لنا أصلا الخيار في ذلك، غير أني أردف أن هذا لم يكن ممكنا ولا متاحا لو لم تتوفر نخبة استلمت مقاليد البلاد ورسمت مصائر العباد، كانت قد درست في فرنسا وتشبعت بثقافتها وأدبياتها لا بعلومها الصحيحة وتقنياتها وتربت على ازدراء كل ما هو تونسي أصيل وعربي قح وإسلامي خالص، وأذكّر أن جامعة جامع الزيتونة المعمور والتي لم يجرؤ الاستعمار على المساس بها خلال 75 سنة من الوصاية على بلادنا بينما تم إلغاؤها بجرة قلم في كنف دولة الاستقلال. الخطأ الجسيم بل الجرم المشين الذي اقترفته نخب ما بعد الاستقلال والذي أصاب الوطن في مقتل، كان يتمثل في اعتقادها بأن التقدم والتطور والرقي لا يمر إلا عبر التنكر للتاريخ والانسلاخ عن الهوية الوطنية والأنبتات عن الدين الإسلامي وتهميش اللغة العربية والاستعاضة عنها بنماذج مستعارة وحلول جاهزة، مستورَدة من وراء البحار لا إلى التمكن من العلوم وخاصة الصحيحة والتقنية منها ومن ثَمّ تطويعها حتى توائم احتياجاتنا وخصائصنا وواقعنا وإرادتنا. إذا سلّمنا بأن اللغة وعاء العلم، فقد حُرمت الأجيال المتعاقبة على مقاعد الدراسة، كنتيجة لتهميش وإقصاء اللغة العربية، من وعاء تكرع به من مناهل العلم الثابت والنافع، وإذا سلمنا بأن لا جدوى في حشر الأدمغة بمعلومات لا صلة لها بواقعنا الحقيقي واحتياجاتنا الموضوعية، بينما العقول والأنفس مذبذبة بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء والمقاييس القيمية مهتزة والهوية ضائعة وكل واحد منا يطرح على نفسه إشكاليات وجودية من باب من أنا؟ وما هو الخطأ من الصواب والحق من الباطل، فإن فشل المنظومة التعليمية كان قدرا محتوما منذ اليوم الأول لإدراج مناهجها. يذكرني هذا في المقابل، بالتجربة اليابانية الناجحة والتي اختارت التطور مع الاستمرارية الثقافية حيث طُوّعت تعاليم ديانة الشنتو والموروث الثقافي الموغل في القدم لمحاربي الساموراي في مناهج تدريس نخبها، التي اضطلعت بدور رفع اليابان إلى المراتب المتقدمة للقوى الاقتصادية العالمية، في حين كانت وما زالت ترزح تحت خسائر الحرب العالمية والاحتلال الأمريكي المباشر، ولا تملك من الموارد الطبيعية شيئا يُذكر، ويعيش مواطنوها بصفة مستمرة، تحت هاجس الأعاصير والزلازل وموجات التسونامي المدمرة.
(2) الثقافة واللغة والنموذج الفرنسيين ذوي الأصول اللاتينية القديمة التي تبنتها تونس كمنوال للتنمية والتطور، أثبتت أنها لم تكن ندّا كفؤا للثقافة واللغة والنموذج الأنجلوسكسوني المُستحدَث (الانجليزي والأمريكي والألماني) أو حتى الاسكندينافي. وهنا أسوق تبيانا لذلك ما قاله أحد العارفين، من أن الأمريكي هو إنسان عملي لكنه يفتقر للعمق النظري، أما الألماني فهو إنسان عملي يُطَبِّق النظريات التي طورها بنفسه بخلاف الفرنسي فهو إنسان نظري يعوزه الجانب التطبيقي ويعتقد أن كل ما يفعله هو عين الصواب وأنه ينطق بالحكمة. في هذا الصدد لا يفوتنا تعريف العربي (التونسي) بأنه المستهلك الأمثل لكل ما يُنتج هؤلاء. كل من دخل العالم العَمَلي ومارس مهنة وهو مُنهَك من كمّ الحشو المعرفي الهائل الذي مورس عليه، لا بد وأنه تساءل لمذا أضعت الوقت والجهد في تعلم كل هذا الذي لا ولن يصلح لشيء؟  من الغريب أنه من الشائع أن نرى أساتذة حتى في المستوى الجامعي يدَرِّسون موادا ويتحدثون على أشياء لم يعرفوها إلا من خلال الكتب ولم يتسنّ لهم ممارستها أو حتى رؤيتها مباشرة من قبل ذلك. التعليم عندنا يقتصر في أغلب الأحيان على القصف العشوائي والمكثف لمعلومات لا أحد يفسر كيف نشأت وطُوِّرت ولا كيف يتم تنزيلها في الواقع المُعاش والاستفادة منها ولا من أين تتأتى جدواها على المُتلقِي. المعلم والأستاذ يسرد ما تلقاه دون معرفة خباياه وكنهه والتلميذ يحتفظ بالمعلومة دون إدراكها حتى اجتياز الامتحان، قبل أن يسقطها في غياهب الهجر والنسيان. أذكر يوما، وقد كنت أعلمت طلبتي في تونس بأن كل المراجع ستكون متاحة لهم يوم الامتحان ليستعملوها كيفما يشاءون على غرار ما هو معمول به في البلدان الأنجلوسكسونية، وأن المطلوب منهم يقتصر على استحضار المعارف التي فهموها واستوعبوها خلال السنة الجامعية ولا داعي لأن يحفظوا أي شيء عن ظهر قلب. كنت أتوقع أن يفرح الطلبة بهذه المنهجية التي توفر عليهم عناء السهر للحفظ أو لتحضير وريقات الغش، لكن أغلبهم كان قد صُعق لأنهم لم يألفوا هذه الطريقة وكانوا متوجسين من أن الامتحان سيكون عسيرا. لم تُفلح كل محاولاتي في إقناعهم بأن الأمر سيكون عكس ذلك، إذا كانوا قد التزموا بالحضور والانتباه خلال الدروس. هذا دعاني إلى التأكد من أن منظومتنا التعليمية تجعل من المعلومات المتلقاة والتي يتم حفظها عن ظهر قلب، لا تعدو أن تكون إلا وسيلة للنجاح في الامتحانات وكأنه هدف في حد ذاته وليس مجرد طريقة لتقييم المستوى المعرفي، عوض أن يكون الهدف الحقيقي من التعلم هو الحرص على تعميق الفهم وتطوير المدارك والمعارف وتحصيل الكفاءات وصقل المهارات.
(3) عدم توفر منوال تنموي مُوفَّق ومشروع حضاري طموح للتصنيع والبحث العلمي وامتلاك ناصية العلوم الحديثة يؤدي إلى خلق سوق للتشغيل تستوعب المتخرجين ذوي المهارات والكفاءات الحقيقية، جعل من منظومة التعليم في البداية أشبه بمنظومة محو الأمية ومن بعد أشبه بمؤسسات لاحتواء وإِشغال الناشئة وتلهيتها قصد إخراجها من الشارع حتى لا تتسبب في خلق المشاكل للنظام القائم. وبذلك تم تقريبا، إلغاء مبدأ النجاح واجتياز الصفوف حسب معايير صارمة وموضوعية تضمن جودة الشهادات وقيمتها، بأن لا يرتقي إلى المراتب العلمية العليا إلا من تحصل على الكفاءات اللازمة حسب المواصفات العالمية. هذا جعل من المنظومة التعليمية في تونس لا تتجه رفعة وصعودا نحو مستوى منظومات التعليم في العالم المتقدم، حيث الاقتصاد الحقيقي والحر والصناعة التنافسية التي تتطور بشكل مذهل والتي تفرض التطوير المتواصل لمناهج التعليم للاستجابة للمتطلبات المُشطّة والمتغيرة للمؤسسات ذات التكنولوجيا المتقدمة، حيث لا مكان إلا الكفاءة والجدارة والعمل المُتقن.
(4) لقد تربت الأجيال السابقة على احترام المعلم حَدّ التقديس، وكانت تحيط برجالات التعليم، هالة من التبجيل والتكريم حيث كان تُرَدَّد قصيدة أمير الشعراء ‘قم للمعلم وفّه التبجيلا  كاد المعلم أن يكون رسولا’. غير أن الهدف الذي رسمه النظام السابق لاستئصال التيار الإسلامي باعتماد سياسة تجفيف المنابع وسياسة سحب البساط، حتى يجعل عامة الشعب والشباب على وجه الخصوص، يحجمون ويُعرضون عن التدين بما ذلك من بُعد عن الأخلاق السمحة للدين الإسلامي، كما أن الضربة القاصمة التي وُجِّهت للناشئة بفصل التعليم عن التربية، جعلت السلطة المعنوية للمعلمين تهتز بل تنهار حتى وصل الأمر إلى تدهور الأخلاق عند الناشئة واستفحال ظاهرة الاعتداء المادي والمعنوي على الأساتذة والمعلمين من طرف تلاميذهم مما ساهم في تدمير المؤسسة التعليمية وتدنيس حرمتها وإلغاء دورها التربوي قبل التعليمي. كما ساهم نظام الفساد والإفساد في الحط من قيمة العلم والمتعلمين إذ لم يعد طلب العلم وتحصيل الشهائد العليا والكفاءة والعمل المتقن والوطنية الصادقة، أضمن الوسائل للرقي الاجتماعي والتحصيل المادي بل لقد استشرت المحسوبية والرشوة والانتماء الحزبي والاصطفاف الفئوي والتعصب المافيوزي والخضوع للعائلات المستفردة بمؤسسات الدولة والحكم والناهبة لخيرات البلاد ومقدراتها والراعية لمصالح وسياسات الدول الاستعمارية وأصبح كل ذلك هو الفيصل في التحصل على الوظيفة وفي التدرج المهني وتقلّد المناصب والمسؤوليات. كنت يوما في السيارة على الطريقة السريعة بصحبة صديق من أستاذة التعليم العالي، بعد مشاركتنا في مؤتمر علمي، وكنا في الأثناء نستمع إلى برنامج على أمواج الأثير يدور حول مشاركة فتاة تونسية في مسابقة للمواهب الفنية في بيروت. ما فتئ منشط البرنامج أن طلب من المستمعين الاتصال به لتقديم اقتراحاتهم والإجابة عن السؤال الحارق: كيف نستقبل الفنانة أماني؟ بعد مشاركتها البطولية في مسابقة الغناء والرقص والتي شرفت بها تونس في بلاد الأرز. ألتفت إلي صديقي الأستاذ وعبس وبسر وتنهد وزفر وكأن الدنيا لا تسع ضجره وحنقه قبل أن يسألني: هل فكر أحد في أن يستقبلنا، نحن من أبلينا زهرة الشباب في جامعات المهجر ومختبراته؟. نعم، تلك هي النماذج التي كانت تُقدَّم للناشئة من بين ظهرانينا. لم يسمع أحد في وسائل إعلامنا بعالم الفيزياء النووية التونسي بشير التركي، طيب الله ثراه والذي قضى العمر شريدا ومطاردا ومهددا في حياته، لأنه تحدى النظام الحاكم في خياراته العلمية والبحثية والذي أراد إرساء نهضة علمية حقيقية في وطنه، والذي كتب قبل وفاته عن السياسة المُمنهَجة في نسف المؤسسات العلمية والاعتداء على العلماء للحيلولة دون تطوير تونس لقدرات نووية سلمية، ولا سمعنا من قبل الثورة عن العالم منصف بن سالم، صاحب الدكتوراه المزدوجة وشهادة مهندس وأستاذ الفيزياء النظرية الذي حكم عليه الجاهل المستبد بالاسترزاق كبائع ‘معدنوس’ قبل أن تُنصفه الثورة وإرادة الشعب لترفعه لمنصب وزير التعليم العالي والبحث العلمي، وغيرهما مع الأسف كثيرون. في المقابل وقع التسويق وتسليط الضوء على نجوم الرياضة والفن كأنموذج للنجاح الذي لا يمر عبر العلم، كما تم الترويج للتربح السهل من خلال برامج مثل ‘صندوق عجب’ ومسابقات اليانصيب والمراهنة على مسابقات الخيول والبروموسبور حتى أصبح الشعب بصفة عامة والشباب بصفة خاصة، يزدري العلم والعمل ويعيش على أوهام الربح السهل والسريع إما قمارا أو سمسرة أو رشوة أو غشا أو سرقة.
(5) ضياع الوازع الأخلاقي وفقدان العلم لدوره كمصعد اجتماعي وكعامل أساسي في الرقي المادي وانهيار المنظومة القيمية والأخلاقية لمجتمعنا، وعدم توفر الإمكانية لكي يُنزِّل ذوو العلم معارفهم على الواقع وبالتالي الاستفادة منها ماديا ومعنويا، جعل العلم يفقد قيمته النسبية وصفته المطلقة في كونه هدفا نبيلا ومقدسا في حد ذاته، بل صار طلبة العلم في ربوعنا وكأنهم مُكرَهون، يُدَعّون دَعّا إلى المؤسسات التعليمية حتى شاعت المقولة المُعبِّرة: أن أمّة إقرأ لا تقرأ. لقد كانت لي فرصة تدريس الأفارقة من جنسيات مختلفة في تونس وخارجها، حيث تراهم في الصف وكأن على رؤوسهم الطير لا يُشتِّت انتباههم شيء ويلتقطون كل معلومة شاردة وواردة ، يدققونها ويسألون الأستاذ عنها حتى بعد انتهاء الحصة مرارا وتكرارا، حتى يستوعبوا ما تلقوه استيعابا تاما. أما الطلبة التونسيون، فأغلبهم يأتي متثاقلا ومتأخرا دون أن يُعِدّ واجباته ولا يجلس إلا وقد أحدث هرجا ومرجا ويقضي الحصة إما شاردا وإما مشاكسا يتلقف بالسخرية والتشويش، هفوات الأستاذ وزلاته وحتى طريقة كلامه وملبسه، فإذا ما انتهت الحصة هَبّ لا يلوي على شيء وكأنه تحرر من قفص كان يكتم أنفاسه ويُعيق حريته. كل هذا جعل من الأفارقة يتقدمون بثبات ويتفوقون علينا في المراتب العلمية وفي ترتيب الجامعات.
(6) انهيار مستوى التعليم في المؤسسات التربوية العمومية، لأن المعلم أصبح لا يقوم بالعمل المنوط بعهدته في الصف ولا يقدم المعلومة التي ُتمكَّن من تطوير المدارك والمعارف وإنما يعطي حصريا في دروس التدارك التي يعرضها على تلاميذه خارج الصف بمقابل، المعلومة التي تُمَكِّن من التحصل على عدد ممتاز في الامتحان. وبذلك دخلت السمسرة والغش والتفريق بين الطبقات الاجتماعية المؤسسات التعليمية، وأصبحت المدرسة والمعهد والجامعة  لا تضطلع بدور توفير تكافئ الفرص للجميع، وفرز الطاقات الذهنية والعقلية والنفسية وصقلها وتكوينها حسب أهليتها وذلك لإنتاج نُخَب في مختلف الاختصاصات، تتمتع بالكفاءة وتتحلى بالثقافة الواسعة، بل إن دورها تراجع إلى الفرز المادي للتلاميذ وإيهامهم عبر أعداد متضخمة، بمستوى افتراضي يتم شراؤه بالمال كرشوة للمعلم والأستاذ، تُقدَّم في صورة أجر لقاء الدروس الخصوصية.
بسقوط جدار الخوف وبتوفر هامش كبير من حرية الرأي والتعبير إبان الثورة، أكتشف التونسيون الحالة الكارثية في مختلف مناحي الحياة التي ترك عليها نظام الجمهورية الأولى، البلاد والعباد. كما أكتشف التونسيون فداحة الزيف والدجل وتلميع الصورة الذي مارسته بكل اقتدار وحرفية، بروباجندا النظام السابق وأبواقه الكاذبة والمتلاعبة بالحقائق، بينما البلاد والعباد في أسفل السافلين. ويبقى التعليم من أكبر وأهم الورشات التي على الجمهورية الثانية (إن قدر الله لها أن تكون) أن تضطلع بها بجدية، والتي بدونها يكون حلمنا بالتدرج في سلم الحضارة والتطور نحو الأفضل، مجرد أحلام يقظة اعتباطية.