نقاط على الحروف

بقلم
شكري عسلوج
ثورة الفرص الضائعة

 أبلغ وأدق ما تطرق إلى سمعي في تعريف السياسة، أنها فن المُمكن. في هذه الخانة تتنزل بامتياز التطورات الأخيرة على الساحة السياسية، والمُتمثلة في التقارب بين حركة النهضة ونداء تونس، واستتباعاتها الجذرية التي ستنكشف أطوارها تباعا والتي ستقلب ومن دون شك، المُعطى السياسي في تونس ما بعد الثورة، ظهرا على عقب، والتي ستكون بذلك حدثا فارقا سيؤثر حتما على مآلات التحول الديمقراطي في تونس.

ورغم الدهشة بل والصدمة وردات الفعل الانفعالية، الرافضة والحانقة على هكذا تطور والمواقف المعلَنة التي تصل إلى حد التخوين واتهام اللاعبين الأساسين (الغنوشي والسبسي) بعقد صفقة مشبوهة تلتف على أهداف الثورة ومكتسباتها وتتاجر بدماء الشهداء وعذابات جحافل السجناء السياسيين ومجموع الشعب التونسي في ظل دولة الاستبداد وذلك بتمكين النظام القديم، من الرجوع إلى سدّة الحكم من الباب الكبير بعدما لفظه التونسيون، فإني أقول جازما بأن كل هذا كان متوقعا، بل حتميّا كصيرورة منطقية لما حدث ويحدث في ربوع وطننا وفي محيطنا الإقليمي والعالمي. وقد كنت وثّقت هذا التحليل في مقال بعنوان : « التحيل ... عفوا، التحول الديمقراطي في تونس» (1) جاء فيه : «وبين هذا وذاك قد يجلس الفرقاء تحت يافطة الحوار الوطني، بعدما يئس كل واحد منهم من أن يحسم الأمور لصالحه ويُحكّمون بينهم في منأى عن مرجعية الشعب، ما يُسمّى بالواقعية البرغماتية أو العقلانية السياسية ويبرمون صفقة لإنتاج نظام هجين، يحفظ للنظام الجديد حدّا أدنى من هامش المناورة السياسية ولكن داخل حدود حمراء لا يُمكن تجاوزها، تُمكنه من النأي بالوطن عن الدخول في متاهات صراعات داخلية وخارجية وتقطع السبيل على رجوع الاستبداد، على الأقل بأشكاله البشعة والموغلة في الظلم وامتهان الكرامة البشرية وفي نفس الوقت، تحفظ للنظام القديم بشقيه الداخلي والخارجي، مواقعه ومصالحه وتحصّنه من المساءلة والمحاسبة». ليس ما كنت قد نشرته في 27 فيفري 2013 والذي يكاد يكون توصيفا دقيقا لما جرى ويجري هذه الأيام وسيجري إن شاء الله في قادم الأيام، والذي يبدو أنه قد أخذ الكثيرين  منا على حين غِرّة، نبوءة أو رميا بالغيب أو حتى فراسة المؤمن الذي ينظر بنور الله، ولكنه لا يعدو أن يكون سوى قراءة موضوعية ومتأنية، تنأى بالفكر عن الدغمائية والاصطفاف الحزبي والإيديولوجي الأعمى. 
كان من الممكن أن تسير الأمور بشكل أفضل من هذا بكثير ونجني كلنا المكاسب ولو بعد حين، لو وفّرت النخب وعموم الشعب الظروف الموضوعية المواتية لذلك وتحلّينا بالصبر ونكران الذات وفهمنا التحديات الحقيقية التي تواجهنا وأنحزنا إلى المصلحة العليا للوطن ولكن برعنا في إهدار المصلحة الوطنية وإضاعة الفرص بالجملة، والتي سأورد في ما يلي أهمها ذكرا لا حصرا:
الفرصة الضائعة (1)
كل من كانت له فرصة السفر إلى الخارج في أيام الثورة الأولى والأشهر التي تلتها، لا بد وأنه لاحظ الهالة التي أحاطت بملحمة الثورة التونسية ونظرات الاستحسان والإكبار التي كان ترمق كل من أفصح بأنه تونسي. لو كانت تونس قد أنفقت ما في الأرض جميعا في حملات دعائية وإشهارية، ما كانت لتتمكن من رسم تلك الصورة الناصعة في مخيال ووجدان شعوب وأمم الأرض قاطبة.  كان بالإمكان توظيف هذه الصورة في جلب السواح والمستثمرين الأجانب وإرساء شراكات إستراتيجية مع دول ذات شأن على مبدأ النديّة وبدون إملاءات وإسماع صوت تونس في المحافل الدولية للدفاع عن القضايا التي تتبناها وعلى رأسها القضية الفلسطينية وجعل تونس المثال الذي يُحتذى به في كامل العالم العربي وبوابة العالم الخارجي إلى المنطقة مما كان سيعطيها زخما دبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا وأمنيا ويمكنها من تبوء دور القوة الإقليمية برغم صغر الحجم ومحدودية الموارد. غير أن ما حدث وخاصة إثر صدور نتائج الانتخابات كان كفيلا بأن يخرّب كل ما بنته أرواح شهداء الثورة ودماء جرحاها ولا داعي للخوض في التفاصيل في هذا الصدد فالكل على بينة من ذلك.
الفرصة الضائعة (2)
كانت الثورة التونسية حدثا تاريخيا جللا، أثّر على التوازنات الجيوستراتيجية إقليميا وتعدّاها ليصل مداه إلى الصّعيد العالمي. كانت الفرصة متاحة لرفع سقف استقلالنا كدولة ذات سيادة وبالتالي تحسين شروط استقلالية قرارنا السياسي حيث لا يعني الاستقلال المطلق ولا حرية الإرادة الوطنية المتحررة من كل القيود شيئا، ولا يعدو ذلك أن يكون سوى أحلام يقظة طوباوية في ظل عالم متشابك المصالح لا يرحم الضعيف، خفت فيه موازيننا أمام اللاعبين الكبار ونحن أشبه فيه بالأيتام في مأدبة اللئام. أكتشف التونسيون إبان الثورة الكثير من المسكوت عنه، على غرار ما كثر الحديث عنه من بروتوكولات وملحقات سرية لوثيقة الاستقلال والتي يمكن أن تفسر المواقف المتشنجة للدولة التي استعمرت بلادنا وكأنها تدافع عن حقها المشروع وليس فقط عن مصالحها المكتسبة وذلك منذ الأيام الأولى للثورة التونسية وجهودها في ما بعد على الأقل في عرقلة النظام الجديد وتعقيد مسار التحول الديمقراطي في بلادنا الذي لا يستجيب لمصالحها، ولعل ما خفي عن بصائرنا كان أعظم. نعم كانت الثورة فرصة ذهبية لمزيد الإنعتاق من التبعية لولا هرولة العديد من الأطراف السياسية والنخب وإستقوائها على بعضها بالدول الأجنبية لترجيح الكفة لصالحها بما فيه من ارتهان للقرار الوطني عوض إيجاد حلول تحت سقف الوطن يكون الثقل الشعبي المتأتي من صناديق الاقتراع، الميزان الذي تقاس به الأمور وتحسم به لصالح طرف دون آخر. ليس من الصدفة أن تكون عاصمة الأنوار المكان الذي أحتضن مقابلة «إذابة الجليد» بين الغنوشي والسبسي برعاية سليم الرياحي بعدما احتضنت من قبل لقاء «تأسيس نداء تونس» بين السبسي والوليد بن طلال وبرلسكوني برعاية طارق بن عمار. 
الفرصة الضائعة (3)
كانت أول انتخابات حرة وشفافة ونزيهة في تاريخ تونس فرصة من ذهب للتأسيس لنظام جديد يكون فيه الشعب المصدر الحصري للسلطات عوض النظام القديم الذي كان مصدر السلطات فيه حكرا على مراكز القوى الداخلية والخارجية، التي تُعيّن نخبة على مقاسها للسهر على مصالحها، مقابل تمتعها بالتحكم في الرقاب والإشراف على سلب خيرات بني جلدتها وفرض أفكارها عليهم. ما جرى من اغتيالات سياسية بآليات مخابراتية يتواطأ فيها الداخل مع الخارج قصد الإطاحة القسرية بحكومات منتخبة وتصفية مؤسسات الدولة الشرعية وإجهاض المسار الديمقراطي هي لعمري دلائل وقرائن بيّنة، تُثبت لنا أن الحلم الجميل قد أنكشف وأظهر حقيقة أبعد ما تكون بالوردية ولم يبقى لنا إلا تجنب الأسوأ الذي لا يمكن إلا أن يكون استبدادا يفوق في جوره وبشاعته الاستبداد الذي تجاوزناه أو هكذا كنا نظن على غرار الحالة المصرية أو التدخل العسكري الأجنبي والاستعمار المباشر الذي جاءتنا نذره حيث نشهد حشد الجيوش وقرع طبول الحرب بمعزل عن الشرعية الأممية مما يحيلنا إلى الحالة السورية ومن قبلها العراقية أو حتى الحالة المالية أو الصومالية.
الفرصة الضائعة (4)
بعد سنوات التصحر العجاف في كل المجالات، سياسة وفكرا وثقافة ودينا وعلما والتي أتت على الأخضر واليابس، وبعد سياسة الترهيب والترغيب التي دنست البشر والحجر وجعلت من نخبنا ومثقفينا إلا من رحم ربك، أشبه بزوائد دودية تقتات على فضلات العصابة التي احتكرت الدولة، وبعد أن دفع اليأس وانسداد الآفاق الشباب المُهَمًّش والمغرور به إلى مواجهة آلة القمع بصدور عارية، والانتفاض على نظام الاستبداد وإجبار رأسه على الفرار، أكتشف الشعب التونسي بأنه بلا قيادة سياسية وروحية وتاريخية مُوحّدة (على غرار غاندي، مانديلا، الخميني...) يثق بها ويأتمر بأوامرها ويتبعها في السراء والضراء من أجل ضمان الانتقال إلى دولة القانون والمؤسسات. الهامش الغير المسبوق في حرية التعبير والتظاهر والتنظم السياسي الذي حبتنا به الثورة لم يكفل لنا بروز نخب تقود المسيرة نحو تونس أفضل وإنما ساهم في تأجيج الأوضاع واستقطاب الشعب التونسي إلى فرق متناحرة ومتدابرة تحت تأثير القصف الإعلامي الموجه وأتضح أن الكثير من الشخصيات القيادية المؤثرة في المشهد السياسي بما فيها التي راكمت رصيدا نضاليا كبيرا، انخرطت في منطق حزبي ضيق وتكتيكات ظرفية وحرب خنادق جعلت الكل يعمل ضد الكل ويحاول تضخيم مكاسبه وتثبيت مواقعه على حساب شركائه معتمدا على وسائل الابتزاز والتحيل بدون الاكتراث بتغيير المواقف والأقوال والتحالفات بطريقة عشوائية ومفضوحة مما حوّل المشهد السياسي إلى مهزلة حقيقية. وضعت المعارضة ومن لف لفها كل إمكاناتها ومجهودها في إفشال الحكومة دون الاكتراث بتقديم البديل المقنع الذي يمكن للشعب اللجوء إليه في قادم الانتخابات وبهذا أضيعت فرصة سانحة لتكوين نخبة سياسية ذات مصداقية تكون قادرة على النهوض بمسؤولية إرساء تقاليد ديمقراطية راسخة في ربوعنا وتأثيث آليات التداول السلمي على السلطة عبر صناديق الاقتراع يكون للشعب الكلمة الفصل فيها.
الفرصة الضائعة (5)  
كان متاحا لكلا الحكومتين المتعاقبتين في مد ثوري وبتأييد شعبي غير مشروط، شنّ حرب ولو محدودة تحفظ تماسك الدولة واستمراريتها من ناحية وتدكّ معاقل الفساد وتفكّك شبكاته الأخطبوطية التي تلتف على كل مناحي الحياة وتقضي على امتداداته السرطانية التي تنخر مفاصل الدولة وتعيق كل توجه إصلاحي من ناحية أخرى، عوض ترك الحبل على الغارب كما حصل، مما سمح للفاسدين المفسدين بتعزيز مواقعهم والتمادي في غيهم بكل صلف ووقاحة، بعدما أيقنوا أنهم سيفلتون من المحاسبة والعقاب مرة أخرى مهما فعلوا.
الفرصة الضائعة (6)
أضاعت المنظمة الشغيلة فرصة تاريخية في تثبيت دورها التاريخي كمنظمة وطنية جامعة تصطف إلى جانب الشعب وخيارته وتيسر التحول الديمقراطي عوض التغول على الدولة والقانون والمساهمة في الإضرار بالاقتصاد الوطني بإضرابات لا تنتهي والعمل على إرباك الوضع العام ومنح أطراف سياسية الثقل الشعبي الذي عز عليهم كسبه من خلال الانتخابات مما حدا بأحد قياديي هذه الأحزاب إلى إعلان إضراب عام على الملأ دون مراعاة «ولو صوريا» أن هذا من مشمولات المنظمة النقابية التي لها الحق دون سواها في إصدار قرار الإضراب بعد تمريره على هياكلها والمصادقة عليه قبل الإعلان عنه من طرف الممثل الرسمي للمنظمة. كما أضاعت الحكومة المنتخبة فرصة تحجيم الدور السلبي والمتورم للإتحاد عبر تفعيل التعددية النقابية والتعامل على حد سواء بين المنظمات النقابية كل حسب ثقله العمالي، حيث لم يعد هناك أي مسوغ منطقي أو أخلاقي أو قانوني لأحادية العمل النقابي بعدما تجاوزنا نظام الحزب الواحد. 
الفرصة الضائعة (7)
أضعنا كلنا معا، سواء أكنا نخبا أو قواعد شعبية، فرصة إحداث ثورة في العقول والنفوس تكون موطأ للتأسيس لمشروع حضاري وتكريسا للفعل البنّاء الذي يكون قوامه العلم والعمل والأخلاق. عوضا عن ذلك فقد شاعت بيننا التجاوزات وأكتشفنا أن «الطرابلسية» هم ثقافة تسكن عقول الكثير منا وتحدد تصرفاتنا قبل أن تكون عصابة جثمت على قلوبنا ونهبت بلادنا.
رغم كل ما سلف، فلست معنيا على الإطلاق بنشر الأفكار السوداوية أو نعي الثورة التونسية أو إنكار الإيجابيات المتعددة والمكتسبات القيمة وغض الطرف عن نصف الكأس الملآن فما من شك يخالجني بأن في مقابل الفرص الضائعة هناك عدد لا محدود من الفرص السانحة التي يمكن أن تجعل من تونس المثال الذي يُحتذى به والمنارة التي يهتدي بها غيرنا من الشعوب وأمل هذه الأمة في مستقبل مشرق إذا ما عقدنا العزم وأخلصنا النية. وفي هذا الصدد لا يفوتني أن أسوق مثال الشعبين الألماني والياباني الذين تمكنا من البروز كقوتين عالميتين وهما يرزحان تحت الاحتلال الأجنبي المباشر ويدفعان التعويضات الضخمة للقوى المنتصرة بعدما لحقهما دمار عظيم كنتيجة لخسارة الحرب العالمية الثانية.