في الصميم

بقلم
د. مصباح الشيباني
عندما تصبح خيانة الوطن وجهة نظر ! !

 عندما نرصد ونتابع تغير الأحداث والمواقف السياسية في الوطن العربي خلال السنتين الماضيتين نقف عند حقيقة مؤكدة وهي أن بلادنا العربية قد دخلت في مسار تحول خطير وغير مسبوق، وأنه ثمة تغيرات سوف تحدث لا تتوقف على مستوى التغيير السياسي والحكومي أو انتخابات المؤسسات النيابية، ولا تتوقف في مستوى توتر العلاقات بين الفاعلين السياسيين فقط، وإنما أيضا، وهو الأهم والأخطر في رأينا، هو أن هناك تغيرات لافتة في المستويات الأخلاقية والقيمية السياسية، تغيرات خطيرة في مستوى أدمغة بعض السياسيين و«المثقفين» وفي أنسجة عقولهم إن بقيت لديهم عقولا. فهؤلاء القادة السياسيون بدأوا يدمرون شعبهم بأيديهم عبر إثارة الفتن والصراعات المذهبية والعقائدية الداميـــــة والمدمــــرة لوحدة الشعــــب والوطــــن. إنها من أصعب المراحـــــل التي تمر بهــــا أمتنا العربية حتـــــى بات لدينا اقتناع أن «خيانة الوطن» أصبحت وجهة نظر لدى هؤلاء، وما كان غريبا ومحرما سياسيــــا أصبح مألوفــــــا، وأصبح المعتاد والمباح غريبا وغير مقبول، ووجد أصحاب العقول النيرة والمبــــادئ السياسية الوطنية والقومية والإسلامية الرّاسخة أنفسهم غرباء في أوطانهم.

فهناك اتجاه نحو إضعاف سلطة «الدولة الوطنية» والتخفيف من حضورها لصالح شبكات المصالح الحزبية والشللية السياسية الضيقة. بل هناك من القوى السياسية من تدعو جهلا وعلانية  ودون خجل إلى استيقاظ أطر الانتماءات السياسيــــة والاجتماعيــــة السابقــــة على الدولة أو المنافسة لهـــــــا. وأصبحت النتيجة شبــــه المؤكدة هو الاتجاه نحو تفتيت وحدة المجتمع وتشتته وفق مصالح سياسية وشخصية. ففي الحكومات المؤقتة كما في المعارضات المشتتة قــــلّ أن تجد شخصا نأى بنفسه عن التّخريب السّياسي (من الداخل والخارج) للمشروع الثوري العربي الوليد. وتحوّل هؤلاء الانتهازيون وأصحاب النظرة السياسية الانتهازية والسطحية للأشياء والمواقف الاعتباطية بين عشية وضحاها إلى «ثوريين» وأصبحوا سادة المشهد السياسي في بلادنا.
لقد بدأ الاتجار بكل شيئ: بالأرزاق والعباد وبالأمن والأوطان فنونا. أصبح القتل دون موجب وبغير حق فعلا ثوريا ومباحا، وأصبحت إذاعة أسرار المواطن والوطن خاضعة إلى قانون العرض والطلب في ساحة الصراع السياسي حتى تحولت الثوابت التاريخية التي نشأ عليها الشعب العربي والإسلامي وحمت وحدته في ظل المقاومة ضد الاستعمار وضد أنظمة الاستبداد والتي ترسّخت في مخياله الاجتماعي، على مدى قرون، مهدّدة بالزوال. ولعل أخطرها تلك التي تستهدف تشويه نفسيته وفكره السياسي حتى يبخس كلمة «الثورة» و«الديمقراطية» و«التعددية» و«التسامح» ..الخ وجميع المفردات السّياسية النبيلة الأخرى المشابهة لها والغائبة عن واقعه ولم ينشأ عليها .
لقد كان الوضع العربي مهيئا وناضجا لقيام الثورة (اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا على الأقل) ولكن السياسيين الذين اختطفوا مسار الحراك قاموا بدور العدوّ لهذه الثورة، وغلب على أسلوبهم السياسي أسلوب «الانتهازية» والتعامل معها بمنطق «الغنيمة» السياسية، ولم تدرك أن مطالب الثورة هي بالأساس مطالب اجتماعية وحضارية وثقافية ويجب أن تكون وفق رؤية علمية واستراتيجية وليست براغماتية. فالديمقراطية كما نفهمها هي مطلب حضاري يجب أن يشمل جميع أوجه حياتنا وطرق تفاعلنا مع بعضنا في جميع الساحات والمواقع. والثورة الحقيقية كما تعلمناها من أساتذتنا ومثلما قرأنا عنها في كتب التاريخ وتجارب الشعوب والأمم هي أوسع من أن تكون تغييرا سياسيا في تشكيلة الحكومة أو في المؤسسة النيابية، بل هي تغيير في نظام حياة شعب نحو الأفضل، تغيير في اتجاه حياة العزّة والكرامة.
كما أنّ مفاهيم مثل «الثورة» و«الشرعية» و«الديمقراطية» وغيرها من المفاهيم السياسية الفضفاضة ليست مجرد شعارات نرفعها أو نردّدها من حين لآخر، بل هي قبل كل شيئ أفعال وإنجازات وإرادات للإنسان وقدرته على بلورة سياسات اقتصادية واجتماعية وثقافية تفضي إلى تحقيق تحول نوعي في حياة الناس، أي أن هذه المفاهيم يجب تشمل السلوك والوعي معا. فالشعب الذي انتفض في تونس على نظام بن علي لا تهمّه التّنظيرات والخطب السياسية والبرامج الإعلامية التي سيطر عليها الصخب الأيديولوجي، ولكن الجماهيــــر المنتفضة مشغولــــة بالسياســــات والبرامــــج أي لا يهمها الأشخــــاص الذين يحكمــــــون بقدر ما يهمّهـــــا مدى قدرة الحاكم في الدولة على حل مشاكلها المعيشية والاستماع إلى مشاغلها اليومية.
يبدو أن لحظة فك الثوابت الوطنية وتحطيم الأوطان قد زفت في أمتنا، ولكن لو تحالفت جميع القوى السياسية ـ حكومات ومعارضات ـ لن تستطيع حماية شرعيتها إذا تعاملت مع «المنجز الثوري» وفق منطق الانتهازية ، وأنه مهما وضعت له من «مسكنات»، فإن شرعيتها ستظل واهية وسلطتها سوف تسقط ما لم تبرهن أنها ليست إلا إطارا سياسيا لتحقيق مطالبه. فالشرعية الثورية ليست صكا مقدسا وأبديا يمنحه شعب لحاكم معين، بل هي إحدى إفرازات التحول السياسي الديمقراطي لا يمكن أن يتأسس وأن يستمر دون تنمية أو دون اهتمام السياسيين والمسؤولين في الدولة بهموم الناس الذين صنعوا هذه الثورة وزكوها بدماء شهدائهم.
لقد فرضت الثورة العربية الراهنة واقعا إقليميا ودوليا جديدا، ومست كثيرا من المسلمات التي كانت راسخة إلى وقت قريب في مخيالنا السّياسي. ومن المسلمات التي بدأت تشهد انحرافا  بعد الثورة هي مسلمة «السيادة الوطنية» فكرا وممارسة. وأصبحت «السيادة الوطنية» لدى هؤلاء «التجار السياسيين» أمرا مشكوكا فيها ضمن منظومتها العقائدية والسلوكية. وبدا لنا من خلال رصدنا للأحداث السياسية على مدى أكثر من سنتين أن الانحراف شمل أيضا من كانوا يبدون أكثر السياسيين وعيا ووطنية. وقد بينت التجربة السياسية الراهنة كيف أن سلامة الاتجاه السياسي في أية حركة أو حزب، لا تمنع الخيانة والانحراف والتخريب عندما تصل إلى مرحلة التنفيذ وتحمل المسؤولية في الدولة. وقد بينت التجربة السياسية كيف أن أنبل المبادئ السياسية تتحول إلى نفاية قذرة في الأيدي الملوثة، وكيف أن أرقى القيم الإنسانية والدينية تصبح تضليلا سياسيا قبيحا من أفواه الكذابين!.
إنّ السّياسيين الذين يفتقدون المضامين الأخلاقية في مشاريعهم السّياسية لن ينجحوا في تلبية مطالب الناس، وسوف يسقطون مثلما سقط أسلافهم في أول مطب يعترضهم، لأنهم سيظلون فاشلين ولن يكونوا محترمين لا في سلطاتهم ولا في ألقابهم مهما علت هذه السّلطات وهذه الألقاب، وسوف يكونون «مُتغلًبِين لكل مُتغلّبِ وطُعْمة لكلّ آكلِ»(1).
الهوامش
(1) عبدالرّحمان ابن خلدون، المقدمة، دار الكتاب اللبناني للطّباعة والنشر، بيروت، 195، ص 264