من وحي الحدث

بقلم
فيصل العش
وتتواصل المأساة...

نعيش هذه الأيام على وقع التحضير الأمريكي لضربات جويّة في سورية على خلفية استخدام النظام السوري الأسلحة الكيميائيّة ضدّ المواطنين السوريين العزّل في ريف دمشق وانقسم الناس بين مؤيدين ومعارضين لها فمنهم من يرى أن نظام الأسد قد تمادى في قتل شعبه بأبشع الطرق مستخدما أخطر الأسلحة راميا عرض الحائط بجميع القوانين الدولية وحقوق الانسان ولابدّ من تأديبه وتعجيل الإطاحة به حتّى ينعم الشعب السوري بحرّيته وتنتهي معاناته مع ديكتاتورية عائلة الأسد التي استمرت أكثر من أربعين سنة .ومنهم من يقف في صفّ بشار ويرى أن أي تدخل أمريكي إنما هو تدخل في الشؤون السورية الداخلية ومسّ من سيادة السوريين وأن الصراع في سورية هو صراع مصطنع هدفه تحطيم ما تبقى من خط الممانعة والمقاومة المتكوّن من إيران وسورية وحزب الله بلبنان والذي يقف حجر عثرة في طريق تحقيق حلم الكيان الصهيوني المتمثل في بناء دولة اسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات. 

للمؤيدين حججهم وللمعارضين حججهم، لكنه لا ينبغي التعامل مع ما يحدث في الأراضي السورية من منطلقات إيديولوجيّة أو وجدانية،  وإنما يجب البحث العميق في الأهداف التي تريد الولايات المتحدة ومن ورائها حلفاؤها تحقيقها وقراءتها بموضوعيّة وواقعيّة. أمريكا لم تعوّدنا بتدخل عسكري لسواد عيون الشعوب المقموعة وهي بالتالي لا تنوي توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا من أجل حرية الشعب السوري وكرامته وعدالته وحقّه في تقرير مصيره ولتأديب بشار الأسد على ما اقترفته أيادي شبيحته من جرائم ضدّ الإنسانيّة في حقّ السوريين بريف دمشق وفي حلب ودير الزور ودرعة وغيرها من المدن والأرياف السورية.

وأمريكا لا تحركها نعراتها الإنسانية ولا الدفاع عن حقوق الإنسان والقوانين الدولية لأنها كانت دائما سبّاقة في اختراق القوانين الدولية والتعدّي على حقوق الإنسان. فما فعلته من قبل في أفغانستان ثم في العراق وما حدث في «قوانتانامو» وفي سجن «أبو غريب» دليل ناطق لما سبق ذكره. أمّا التعليل باستخدام نظام الأسد للأسلحة الكيميائيّة  المحرّمة دوليّا فهو حجّة واهية لأن القتل بالأسلحة الكيميائيّة  أو بالرّصاص أو حتّى بالأسلحة البيضاء هو جريمة بشعة. فأين كانت أمريكا وحلفاؤها عندما أجهز بشار على الآلاف من الأطفال والسوريين العزّل ؟ ولماذا لم تتحرك عندما قتل السيسي بدم بارد المعتصمين في ميداني رابعة والنهضة بالقاهرة؟ وأين كانت أمريكا وفرنسا وبريطانيا عندما استعمل الكيان الصهيوني سلاحا مُحرّما بحسب المواثيق الدولية، وهو الفوسفور الأبيض وقذائف الفلاشت لقتل سكان مدنيين في غزة سنة 2009؟، أو عندما استعملت اسرائيل من قبل القنابل العنقودية في لبنان ولم يُحرك العالم ساكنا.؟

ولا حاجة للتذكير باستعمال الولايات المتحدة سلاح الابادة الجماعية بطريقة وحشية، ونعني القنبلتين الذريتين على اليابان وقنابل النبالم على فيتنام. 

إن حقوق الإنسان لدى الأمريكان ليست مبادئاً تدافع عنها بالغالي والنفيس، بل هي شعارات وسلاح تشهره متى شاءت وتستخدمه مطيّة لإضفاء الشرعية على تدخلها باستعمال القوّة وممارستها للعنف.

أمريكا لا تحركها إلا مصالحها وتحقيق أمن الكيان الصهيوني وتنفيذ مشروعها القائم على تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم، وتأجيج النعرات والصراعات الطائفية، وبث الفرقة بين الأجناس والأعراق، لضمان استمرارية حالة الاحتقان والاقتتال الداخلي، حماية للأمن القومي الأمريكي الإسرائيلي.

ومن يتعمّق قليلا في تاريخ الحركة الصهيونية ويطّلع على تصريحات وكتابات  أكثر من زعيم لها، سيعرف  أن أمن الكيان الصهيوني مرتبط بوضعيّة العواصم العربية الثلاث «بغداد ودمشق والقاهرة». لقد سقطت بغداد في يد الأمريكان منذ سنوات ولن تمثّل بعد اليوم خطرا على تل أبيب وها هي القاهرة في طريقها إلى الخراب بعد نجاح الانقلاب العسكري بدعم سعودي إماراتي ومباركة صهيونية أمريكيّة وجاء الدور على دمشق التي اشتعلت فيها النيران منذ مدّة وأصبحت ساحة للتقاتل الداخلي بتمويل أجنبي وهي اليوم مهيأة  لتلقّي الضربة القاضية لتسقط كما سقطت بغداد من قبل..

هدف آخر تتطلع أمريكا وحليفتها اسرائيل لتحقيقه من خلال الضربة المتوقعة في سوريا ويتمثل في بعث رسالة تهديد مضمونة الوصول إلى طهران مفادها ضرورة خضوعها للمطالب الامريكية الاسرائيليّة في ما يتعلّق بالملف النووي وضمان وقف دعمها لحزب الله والمنظمات الفلسطينيّة وعلى رأسها حماس وهو ما عبّر عنه الصحفيان «عاموس يدلين وافنير غولوب» بجريدة «نظرة عليا» في مقالهما : «هجوم أمريكي على سوريا : معان لإسرائيل» حيث جاء فيه ما يلي : «توجد حاجة حيوية لأن تواصل القدس وواشنطن تنسيق نشاطاتها في الساحة السورية انطلاقا من رؤية شاملة للاستراتيجية المشتركة لوقف البرنامج النووي الايراني. يحتمل أن يكون ممكنا أن نرى في التطوّرات الأخيرة في سورية فرصة حيال طهران أيضا».

إن تأييد 67 % من الاسرائيليين للهجوم الأمريكي المحتمل  بحسب استطلاع صحيفة «اسرائيل اليوم» مفهوم، لأن شعار هؤلاء الرئيسي  في تعاملهم مع الشعوب العربيّة هو : «اضربوا العرب، ولا يهم لماذا، بل ما يهم هو أن يكون ذلك بأكبر قدر ممكن». فهم سيكونون سعداء لموت كل عربي، صغيرا كان أو كبيرا. لكنّ تأييد التدخل الأمريكي والتصفيق له من طرف بعض العرب والمسلمين لَيُعبّر عن مستوى عميق من «قصر النظر» لدى أصحابه وهو خطأ جسيم في حق الشعب السوري الشقيق لأن أغلب ضحايا هذا العدوان سيكونون من المدنيين وستبقى تأثيراته وخيمة على الوضع في سوريا، لأنها ستدفعه نحو مزيد من الاقتتال والتناحر خاصّة أن الولايات المتحدة لا تهدف بضرباتها إسقاط نظام الأسد وإنما اضعافه وتأديبه من جهة وترميم قوّة ردعها وإعادة مكانتها ونفوذها في المنطقة من جهة أخرى. 

الضربة آتية لا ريب فيها لكنها لن تفرّق بين القواعد العسكرية لنظام بشار ومواقع جبهة النصرة والجيش الحرّ، فالجميع مستهدف لا محالة بما فيهم المدنيين من أطفال وشيوخ ونساء.

أمّا اولئك الذين يرفعون صور بشّار الأسد في مظاهراتهم للتعبير عن انتمائهم العربي والدفاع عن المشروع القومي  ورفضهم للعدوان الأمريكي الإمبريالي على الشعب السوري فمنهم  من هو واهم ومخطئ، ومنهم من هو سجين لإنتماءاته الإيديولوجيّة والحزبية الضيّقة . فمتى كان بشار الأسد ومن قبله أبيه مدافعا عن المشروع القومي العربي؟ ومتى كان النظام السوري خطرا على الكيان الصهيوني وهو لم يطلق رصاصة واحدة لتحرير الجولان؟ ألم يكن النظام السوري أول من بارك التدخّل الأمريكي في العراق صحبة حليفته إيران؟ ألا يخجل هؤلاء الذين يرفعون شعار حقوق الإنسان ويدعون إلى الديمقراطية ويعتبرون أنفسهم طلائع الثورات العربية، عندما يرفعون صور بشّار الذي قمع التحركات السلميّة للشعب السوري وتسبب باستعماله القوّة العسكرية في قتل أكثر من مائتي ألف سوري؟ ألم تصلهم صور وأخبار جرائم بشار وميليشيات حزب الله في مدن وأرياف الشام ؟

إن ما يجري في سوريا وفي كافة المناطق العربية وما سيحدث في الأيام القادمة هو لعبة قذرة خططت لها الولايات المتحدة الامريكية صحبة حلفائها الغربيين وموّلتها الأنظمة الخليجيّة المستبدّة للقضاء على ثورات الشعوب العربية التي انطلقت من تونس وإعادة نظام الاستبداد من جديد وإن كان بلبوس جديد ووجوه مختلفة.

قدرنا أن نعيش زمنا تحقق فيه الصهيونيّة بمساندة الغرب الصليبي الحاقد أهدافها من دون أن تطلق رصاصة واحدة أو تقدّم ضحيّة واحدة وأن يقوم العرب والمسلمون بهذه المهام فيتقاتلون ويدفعون بخيرة شبابهم إلى ميدان التناحر والموت بأسلحة مدفوعة الثمن من مداخيل البترول العربي، صنعت في معامل بالكيان الصهيوني أو أمريكا أو روسيا أو الصّين.

قدرنا أن نعيش زمن رداءة النخب العربية وبيع الذمم وقدر الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط أن تواصل نضالها وتبحث من جديد بين جثث أبنائها وبناتها وروائح البارود الأمريكي عن طريق للحريّة والانعتاق وعن نخبة جديدة تحمل هموم هذا الوطن وتضحّي في سبيل بنائه على أسس سليمة بعيدا عن الايديولوجيات المستوردة والتبعيّة العمياء للآخرين.