خواطر

بقلم
اسماعيل بوسروال
ما أشبه الليلة بالبارحة: ذكرياتي مع الانقلاب العسكري في الجزائر 1992

 كنت في بداية التسعينيات أشتغل متفقد تعليم في جهة الجنوب الغربي التونسي وأقيم في مسكن على ربوة مرتفعة في مدينة سبيبة (القصرين ) الجميلة والغنية بحقول التفاح ...حقول التفاح التركي الاصل أنشأها نظام التعاضد في بداية تشكله ..وهيّأ لها مناطق سقوية أنعشت المزارعين ...وإنّها من المظاهر القليلة الناجحة للتعاضد. 

مرتفعات سبيبة مجاورة لمرتفعات تالة الشهيرة حيث تتغطى تلك الجبال بثلج ناصع البياض يدوم أيّاما يُرسل بردا قارسا نقاومه بالغذاء الدسم والحار ...
كان الوضع السياسي في تونس في قمة الاحتقان حيث أعلن النظام النّوفمبري عن اكتشاف «انقلاب عسكري» دبّره ضباط اجتمعوا في «برّاكة الساحل»، جعله سببا لاعتقال من يرى فيه شكلا من أشكال معارضة النّظام .
كان الضّغط مسلّطا على شخصي من أكثر من فريق أمني يتّصل بي مباشرة ...كما أن «جناحا» في حزب التجمع المنحل لم يدّخر جُهدا في كتابة «التّقارير الكاذبة» في شأني ... وهو أسلوب يعتمده الجواسيس المدنيّون بالتنسيق مع جهاز المخابرات لتأكيد تُهم افتراضية تحتاج إلى دليل ملموس ...لا سيما وأنّ الجوار الجغرافي بين القصرين وسيدي بوزيد موطني، يجعل من السّهل تنقّل المعلومة الاستخبارية من شخص إلى آخر (مع التأكيد على وجود جناح نظيف في حزب التجمع في تلك اللحظة وفي ذلك المكان) . 
لم تكن ثمّة إمكانية لالتقاط فضائيات، كما أن النظام يراقب كل حركة أو كلمة . فكّرت في كيفية فكّ العزلة القاتلة، فاقتنيت جهازا لالتقاط برامج التلفزيون الجزائري لأتابع الانتقال الديمقراطي والحوارات السياسيّة الحيّة التي كانت تبثّ بين الحين والآخر على أمواج الإذاعة الجزائرية ...
كنت أتابع بشغف رحى النقاش السياسي الدّائر بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ ( عبد القادر حشاني – رابح كبير – محمد سعيدي ...) و جبهة القوى الاشتراكية (حسين آيت أحمد - العربي أيت مقران... ) وجبهة التحرير الوطني ( عبد الحميد مهري – احمد طالب الإبراهيمي -...) والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ( سعيد سعدي ) وحزب العمّال ( لويزة حنون )...وأحزاب أخرى ومتحاورون عديدون ...كنت أتابع بشغف ما يدور في الفضاء الإعلامي الجزائري وأتحول إلى التلفزيون التونسي فأجد نفسي كأنني انتقلت من كوكب في القرن العشرين  إلى كوكب آخر في القرن العاشر حيث الرّأي الواحد  ...
كنت أمنّي النّفس بنجاح التّجربة الجزائريّة في الانتقال الدّيمقراطي بطريقة سلمية رغم الخطاب غير المطمئن لبعض قادتها ولكن لها رموز هويتها جزائرية محلية غير مرتبطة بأي صلات دوليّة ...كنت أنتظر بلهفة نتائج تلك الانتخابات على الوضع المنغلق في تونس ليشهد انفتاحا  تفرضه التّحوّلات الجيوستراتيجية. 
كنت أتبادل بين الحين والآخر مع بعض أصدقائي الحديث عن تلك الأوضاع ومقارنتها مع ما يدور في تونس وكان من بين أصدقائي شخص من مدينة القصرين  ينتمي فكريا إلى اليسار وتسمح له وظيفته الإدارية والسياسية بالإطلاع على الملفات الأمنية للأفراد ( ويوجد في اليسار من هم استوعبوا قبول الآخر في تلك اللحظة وفي ذلك المكان). كانت نقاط الاتفاق بيننا كثيرة ...واستغرب مني في البداية أن أقبل نقد الخطاب السياسي الديني ...واستغرب مني «إقراري» بأن خطاب جبهة الإنقاذ ليس ناضجا بالشكل الكافي ...والتقينا عند الإقرار باختلاف الحركة الإسلامية في الجزائر عن حركة النهضة الإسلامية في تونس...وانّه لكل شعب خاصياته وظروفه وحاجاته ...وكان حديثنا فيه نوع من الرّهان حيث بينما كان يقول لي « ستفشل تجربة الجزائر وسيوضع جماعة الفيس في السجن وسيتم مزيد السّحق والمحق في تونس» ، كنت أقول له « ستنتصر الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات التشريعية ...وستأتي الفيس إلى تونس لتحرّرنا منكم» ...وأضيف له قائلا: «إذا فازت الفيس في الجزائر فأنا في شوق أن أرى أثر ذلك على النظام في تونس»...فيسخر منّي بأسلوب ودّي طبعا قائلا: «وأين فرنسا؟ وأين أمريكا؟»...فأعانده مستدلاّ بـ «إرادة الشعوب التي لا تُقهر وأن المنطقة العربية ستنال حظّها من تقرير المصير والديمقراطية»... وينتهي بنا اللقاء في كل حين على تمسّك كلّ فرد بالرّهان.
أُجريت الدّورة الأولى للانتخابات التشريعية في الجزائروأُعلن عن نتائجها في 26 ديسمبر1991 وفازت الجبهة الإسلامية بـ188 مقعدا من أصل 380 مقعدا وبقي التّنافس على بقية المقاعد في الدّور الثّاني ...كنت سعيدا ولكن في حذر...أسعدني تفوّق (الفيس) ولكنّني في ذات الحين كنت متخوّفــا من تهوّر بعض قادة الجبهة المندفعين. كان شوقي يزداد فقط لمعرفة أثر ذلك على «الانغلاق» في تونس ...شرع وزير خارجية تونس في جولة عربية ودولية لحشد التأييد لتونس لمواجهة الحكام الجدد في الجزائر وكأنّ النظام التونسي كان مقبلا على حرب ...كنت أستمع بانتباه إلى الإذاعات الفرنسية وهي تحلّل الأوضاع وتتكهّن بتدخّل الجيش ...فاستغربت تلك التحاليل ...اشتريت جريدة الصباح التونسية ذات يوم  وكان العنوان البارز في صفحتهــا الأولى ( عنوان أول صغير وتحته عنوان كبير وبارز يشير إلى ما يلي) : بعد فوز جبهة الإنقاذ في الدور الأول للانتخابات التشريعيــة في الجزائـــر: هل يقبل الجيش الوضع الجديد؟ 
بدأت أدرك التّناغم التّام بين المحطّات الإذاعية الفرنسية والصحف والمحللين والمخابرات في فرنسا وتونس حول عدم قبول نتائج الانتخابات ...تابعت التلفزيون الجزائري واستمعت إلى قادة المعارضة الذين تحصلوا على عدد قليل من المقاعد وهم يطالبون «بوقف المسار الانتخابي» واستغربت تصريح رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية في تنكّر تام لما كان يقول حول الديمقراطية عندما قال « مايلزمش يكون ثمّة دور ثان للانتخابات التّشريعية».
بعد أيام، وفي مساء 11 جانفي 1992 قدّم التلفزيون الرّسمي الجزائري كلمة مقتضبة للرّئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد أعلن فيها استقالته ولكن قبل استقالته وقّع على مرسوم حلّ المجلس الشعبي الوطني الجزائري ( البرلمان ) ...وهو إجراء غريب ...إنّها عملية هادفة إلى منع انتقال الرئاسة إلى عبد العزيز بلخادم رئيس المجلس الشعبي الوطني لأنه مصنّف قريبا من التّيار الإسلامي وإن كان  من قادة جبهة التّحرير الوطني. كما أنّ استقالة الرئيس وحلّ البرلمان في نفس الوقت تهدف لإحداث حالة غير منصوص عليها في الدستور ... .
تمّ تشكيل «مجلس أعلى للدّولة» يتكون من خمسة أعضاء  ( محمد بوضياف منفي في المغرب -علي هارون وزير حقوق الإنسان –علي الكافي عن منظمة المجاهدين – التيجاني هدّام إمام مسجد باريس  – اللواء خالد نزار وزير الدفاع ) – وهو مجلس رئاسة يحيلنا الى طريقة التّسيير السّوفياتية بعد عزل الرّئيس «خروتشوف» عندما تكوّنت قيادة ثلاثية من ( بودغردني وكوسيغين وبريجنيف :أمين الحزب ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة ) ... 
هاتفتي صديقي اليساري من القصرين قائلا : «مبروك عليك (هنيئا لك) الجبهة الباردة القادمة من الشمال ...»...واسترسل في نوبة ضحك خفيف ...قبل أن  يواصل قائلا بأسلوب الفكاهة السّاخرة  الرّاقية  : «ها إنّك أنت الذي ربح الرّهان ...وفلوس الرّهان حرام ...»  
احتفى نظام 7 نوفمبر وشركاؤه في الغنيمة، من نقابيين انتهازيين ومثقفين ووصوليين ويساريين وديمقراطيين مزيّفين  بانقلاب العسكر على المسار الانتخابي في الجزائر...سقطت مقولاتهم الكاذبة عن الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. 
أخذ نظام 7 نوفمبر نفسا عميقا ... وواصل حملته الشّرسة واللاأخلاقية واللاّ قانونيّة  على أنصار الحركة الإسلامية من المدنيين فكان الاعتقال والسجن والتعذيب والمنع من الشغل و...و...و...كانت الانتقادات غائبة عن الوعي ...فلا تسمع للاتحاد الاوروبي صوتا ولا لمنظمات حقوق الانسان تنديدا،في حين كانت أساطيل الحقوقيين الأوروبيين والامريكان تتحرك بسرعة البرق إذا تمّ المساس بحرية صحفي مستهتر بالقيم الاسلامية ...لأنه يعزف على أنغام الغرب الصليبي الحاقد (....)
في 2013 ...وبعد ثورة الحرية والكرامة في تونس ...وبعد انتخابات 23 اكتوبر 2011 ...وبعد إيجاد مؤسسات منتخبة في مرحلة انتقالية تمهّد للتداول السلمي على السلطة ...شهدت تونس محاولات يمكن وصفها بالانقلابية لأنّها تنكّرت لمقولاتها حول الديمقراطية والمدنية والديمقراطية، جنرالاتها الإعلام العمومي والخاص واليسار الاستئصالي الذي لا يشبه صديقي اليساري سنة 1992 ...محاولات انقلابية تعيد لي ذكريات العشريّة السوداء التي عاشتها الجزائر بعد إفشال المسارالديمقراطي سنة 1992، أصوات تكرّس الدسّ الكاذب وتستخدم نفس أدوات النظام النوفمبري في التشويه المتعمد والقصدي للاخبار والمعطيات ضد التيار الاسلامي والمحالفين معه  لتبرير حركة انقلابية لا تعترف بالانتخابات من حيث المبدإ ...
وهنا تتشابه الأحداث وتتكرّر المشاهد فنفس الأساليب التي التجأ إليها النظام النوفمبري سنتي 1991و 1992 هي ذاتها أدوات الانقلابيين سنة 2013. هذه الأصوات هي نفسها المهللة للانقلاب العسكري في مصر التي انبرت في تلفيق الأكاذيب ضد الإخوان – فقط لأنهم يختلفون عنهم - وهي أصوات ضد المعتصمين السلميين في رابعة العدوية مبررة الجرائم البشعة التي ترتكبها الطغمة العسكرية الفاشية في مصر بما يؤكد وقوف الزمن بالفكر اليساري الانتهازي وفشله في ادعاء الديمقراطية لأن من يبرّر جرائم الدم أكّد موت الضمير لديه. 
ان تبرير انقلاب عسكري في مصر 2013 والاحتفاء به من قبل النخب اليسارية في تونس هو تكرار للمشهد سنة 1992 عندما احتفى اليسار التونسي من اعلاميين ومثفقين ونقاببين بالانقلاب العسكري في الجزائر ....وما أشبه الليلة بالبارحة