همسات

بقلم
يسري بوعوينة
اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم

 من أراد أن يتعلم فنون السياسة والتخطيط الإستراتيجي وحتى الحرب وأن يأخذ عبرا من دروس التاريخ في السلطة وإدارة الحكم فعليه بمصر فهي اليوم تقدّم للعالم دروسا في مجالات شتى....اهبطوا مصرا لتروا المظاهرات وصناعة الأزمات والصراع السياسي..وأهم من ذلك لتروا الانقلاب...انقلاب 30 جوان...نعم هو انقلاب وانقلاب سافر حتى لو ارتدى دثارا مدنيا واختبأ تحت ستار «الشعب يريد»....هو انقلاب مهما حاولت أجهزت الدعاية العسكرية إيهامنا بالعكس أو طبّل الإعلام الفاسد لهذه العملية التي هدمت أسس الديمقراطية في مصر وأعادتها بامتياز إلى حقبة المجرم المخلوع مبارك.

تمنيت في قرارة نفسي أن يحمي محمد مرسي الشرعية التي ظنّ أنها مانعته من الخصوم والأعداء حتى لو اضطر لتقديم تنازلات...تمنيت لو وافق وأسرع إلى حلّ الاستفتاء وحتى لو خسر السلطة فهو قد حافظ على مسار الانتقال الديمقراطي الذي هو الأمانة الحقيقيّة التي منحتها له الجماهير وليس الشرعية التي ليست سوى وسيلة....إن السياسة الناجحة ليست تلك التي تحقق فيها كل المكاسب فهذا مستحيل ولكنها تلك التي تنجح من خلالها في تجنب أكبر قدر من الخسائر خاصة بعد قراءة الظروف الموضوعية التي تحيط بك والتي كانت كلها تلعب ضد الرئيس مرسي حينها إلا أنه وبدفع من جماعة الإخوان المسلمين اختار طريق التحدي ووصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.
أخطأ مرسي ومن وراءه فأنقض الجيش على الفرصة الذهبية وقاد انقلابا مذهلا يحصل ربما لأول مرة في التاريخ..هذه المرة لم يخرج العساكر من الثكنات بل خرج الشعب إلى الساحات بتحريض من الجيش الذي لعب من وراء  ستار حركة تمرّد..لم تخرج القوات المسلحة حاملة سلاحا ناريا ولكنها أخرجت جماهير الشعب في مسيرات احتفالية بهيجة يخيّل إليك معها أن كل مصر تبدو في الشارع...على عكس ما يعتقد الإخوان فهم ليسوا التيار المستهدف من هذا الانقلاب ولكنه المسار الانتقالي كله..لقد وضع الجيش بذرة التدخل في السياسة وعزل كل من يتعارض مع سياسة صقور الجنرالات وسيصبح هذا التدخل سنة حميدة وقد يأتي يوم يتولى فيه حكم مصر زعيم من التيار القومي لا يلبث الجيش أن يطيح به مثلما أطاح بمرسي فقد حصل الجيش على صكّ على بياض ليتدخل متى شاء في العملية السياسية و الذريعة دائما موجودة وهي احترام الإرادة الشعبية التي تذكّرني باحترام حقوق الإنسان الذريعة التي يلج منها الغرب إلى أي بلد يرفض الانصياع لأوامره.
لم يسبق في التاريخ أن وقعت ثورة بمباركة الشرطة والجيش والإعلام والقضاء والمجتمع المدني والمؤسسة الدينية بفرعيها المسيحي والإسلامي...كيف يمكن لكل هذا الطيف أن يكون على كلمة رجل واحد؟ لا يمكن أن نصدّق أن هذا الإجماع الوطني الموهوم هو من ثمار الصدف..إن عملا جبارا كهذا يستلزم توافقات وخططا ومشروعا متكاملا ليتحقق على أرض الواقع خاصة وأنه ليس من الهيّن أن تنزع رئيسا للبلاد من منصبه فهو ليس رئيسا للبلدية أو محافظا والأكيد أن تنسيقا كبيرا جرى قبل الإطاحة بمرسي وخطة الإعداد لهذا اليوم الموعود كانت تجري على قدم وساق في غفلة من الجميع.
من يحكم مصر اليوم ؟ من الغباء أن نعتقد أن المدنيين هم من يسيّرون دواليب الدولة، فالرجل القوي في البلاد الآن اسمه عبد الفتاح السيسي ومعه وزير الداخلية، أما رئيس الجمهورية المؤقت عدلي منصور ومعه رئيس وزرائه «حازم الببلاوي» (والأصح أن نقول البلاوي التي تنهمر كالمطر على مصر) فهما يؤدّيان دور الكومبارس..لا يستطيع الرئيس نفسه أن يفعل شيئا دون استشارة حتى لا نقول أمر الفريق السيسي..مصر عادت إلى حضن العسكر الذين يؤازرهم الأمن المركزي ويا له من تحالف يبشّر بخير بين العصا والرشاشة... وجوه السلطة في مصر الآن مدنيون ولكنها ليست سوى مسحة الماكياج التي تخفي تجاعيد الجنرالات ولا أدري كيف ستضمن السلطة كهذه انتخابات حرة ونزيهة وشفافة أو كيف تنجح في انتقال ديمقراطي تحت ظل الرشاشات.
الإعلام في مصر شكل حجر الأساس لبنيان الانقلاب. فقد شنّت بعض الوسائل الإعلامية حملات بلا هوادة ضد الرئيس مرسي، مستعملة أحيانا التزييف والكذب وسياسة الكيل بمكيالين..لم تنفك وسائل الإعلام تتباكى على المواطن المصري «الغلبان» الذي فشل مرسي في أن يوفر له الأمن والغذاء والرعاية الصحية وتكررت حوادث انقطاع البنزين والكهرباء و»العيش» مع موجة غلاء وهروب للمستثمرين...الجميع يدرك أنه لا يوجد أحد قادر على إخراج مصر من أزماتها في ظرف أقل من عام، لكن الإعلام استغلّ القضايا الاجتماعية لينفر المواطن البسيط من الرئيس مرسي ومن الثورة أصلا ويمهّد المواطن نفسيا للانقلاب الذي ما إن وقع حتى غابت كل هذه القضايا والشعارات عن  مختلف وسائل الإعلام الذي أصبح آخر همّه حاجيات المواطن وغلاء المعيشة وعادت الكهرباء وشبكات الماء للعمل بصورة طبيعية كأن شيئا لم يكن وبقدرة قادر سكت باسم يوسف -الذي جعل من السخرية من مرسي خبزه اليومي- عن الكلام المباح ولم نعد نسمع له كلمة حول السيسي وعدلي طرطور وبقية الطابور الخامس.
الشرطة في مصر هي التي قمعت الشعب طيلة فترة حكم المخلوع مبارك..نتذكر جميعا حادثة الشهيد أحمد سعيد وكيف قاومت بشراسة ثوار 25 جانفي ثم كيف اختفت عن الأنظار بعد إسقاط مبارك تاركة الشعب يواجه مصيره بنفسه أمام قطعان البلطجية..بعد تسلم الرئيس مرسي للسلطة صار الخبز اليومي للصحف الحديث عن سقوط الداخلية في قبضة الإخوان أو أخونة الشرطة ومشاركة بلطجية الإخوان في حفظ الأمن وهذا ما كذّبته الأحداث فبمجرد عزل مرسي تواجدت الشرطة في كل مكان لحماية «الثورة» (و هي أول ثورة في التاريخ تحميها الشرطة) عكس ما وقع خلال ثورة 25 جانفي. ثم قامت قوات الأمن المركزي بارتكاب مجازر الحرس الجمهوري والنهضة ورابعة العدوية، متسببة في سقوط شهداء أكثر بكثير من أولئك الذين سقطوا خلال أيام المخلوع المجرم مبارك إضافة إلى بروز لافت لظاهرة البلطجية الذين يبدو أن عددهم يفوق عدد أعوان الأمن بالزي الرسمي...لقد جرت العادة أن تسحق قوات الأمن الثورات ولكن ما رأيناه في مصر يشذّ على القاعدة وهذا إما دليل على أن الشرطة في بلاد الكنانة طيبة جدا ومتسامحة جدا وإما أن ما حدث في مصر لم يكن ثورة ولكن انقلاب وهذا هو الأقرب للظن.
يبدو أن يوم القيامة قد اقترب...كيف لا وقد أصبحت السعودية داعية للديمقراطية وحقوق الإنسان..هل تصدقون أن الدولة التي لا تملك دستورا ولا تجري فيها انتخابات وسجونها مفتوحة للمعارضين وأصحاب الأقلام الحرة..هذه الدولة هلّلت وباركت انقلاب العسكر باعتباره تتويجا للإرادة الشعبية وإنجازا تاريخيا لشعب مصر في طريقه نحو الديمقراطية...نفس هذه الدولة هي التي خرس لسانها عن النطق بخصوص ثورة 25 جانفي بمصر وتستضيف بين ظهرانيها المخلوع التونسي معزّزا مكرّما...منذ متى كان»الملوك المتألّهون « يعطون دروسا في الديمقراطية؟ ثم كيف يرضى المصريون أن تدنّس بلادهم بالتدخّل السعودي السافر في شؤونها ؟ منذ متى كان الثوار يضعون أيديهم في أيدي الطغاة والديكتاتوريين؟ أليست هذه السعودية التي توصف بالاستبداد والرجعية فما بال «ثوار 30 جوان» ارتموا في أحضانها ؟ لقد وصف الرئيس الراحل أنور السادات حكام السعودية بأنهم ليسوا عمالقة ولكنهم أقزام يجلسون على كومة من النقود و قد أثبت التاريخ صحة كلامه فحكام السعودية أقزام ولولا  آبار النفط وتجار الدين لما حكموا الحجاز يوما واحدا..إن السعوديين إذا دخلوا ثورة أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة..و كذلك يفعلون وانظروا إلى مصر وسوريا واليمن..ثلاث ثورات كاملة قضى عليها التدخل السعودي والبقية تنتظر..لماذا لم نر الكرم السعودي والأموال الخليجية تتدفق على مصر قبل الآن؟ طبعا الكلام حول الأخوة والأشقاء والعروبة والإسلام ومرور مصر بظرف دقيق هو للاستهلاك الإعلامي وما يبقى هو المصالح السعودية أو بالأحرى مصالح العائلة الحاكمة السعودية...لعن الله ثورة تباركها السعودية.
لقد وقع ما وقع وعزل من لا يملك وتولى الأمر من لا يستحق  استشهد من استشهد وأريق الدم المصري في الشوارع وفي صحراء سيناء وعادت مصر إلى الخلف سنين عددا وهلّل الملوك الخنازير ورقصت إسرائيل فرحا وخرج مبارك من السجن واستبدل المصريون الذي هو أدنى بالذي هو خير..لا أقصد نظام مرسي بنظام السيسي..و لكني أقصد حكم الصناديق وقوة الحجة بحكم البنادق وحجة القوة.