قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
الحوار أو الصدام

 حدثان من جملة أحداث أخرى كثيرة كان لهما بالغ الأثر في نفسي  كلاهما حدث فى الأسبوعين الأخيرين أحدهما عام والآخر شخصي ليس لأهميتهما فهما قد لا يثيران الاهتمام أصلا ولكن لرمزيتهما. أما الحدث الأول فكان لقاء مع أحد الأصدقاء الجبهاوين الإنقاذيين من مريدي «الوطد» التقينا لنحتسي قهوة بعد افتراق طويل كان اللقاء لقاء صديقين على الأقل فى ظاهره وزميلين حتى ولكنه للأسف الشديد كاد يؤدى الى عكس المبتغى منه. 

لم تكن معرفتي بالرجل سطحية أوحديثة وإنما جمعتنا فصول الدراسة وهموم مهنية وأشياء أخرى كثيرة وكان بيننا ودّ يتّصل حينا وينقطع حينا غير أن معرفة كل واحد منا بالآخر كانت عميقة حقا والحقيقة أننى ومنذ لقائنا الأول أفصحت له عن التباين الواضح فى انتماء كل واحد منا الى ما ارتآه من مدرسة فكرية وسياسية وكان يقيني صدقا أن الإختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية، غير أنني اكتشفت فى اللقاء الأخير أن الإختلاف في الرؤى قد يفسد الودّ كله وهذا ما نغّص علي حقيقة إذ أيقنت أن بعض الناس لا تعنيه كل القيم والأفكار التي يؤمن بها والمتعلقة بالتنوع والحوار والتشارك وغيرها وأن ما يعنيه هو فقط إنتماءه الحزبي والفكري، بل إن الرجل لم يدخر جهده في التأكيد على أنه لا مجال للتعاون مع أمثالي لأننا أعداء الوطن،  أعداء الإنسان، أعداء الحرية، عملاء للأمركان، مخربون للوطن ....
بدأ لقاءنا بسيل عارم من السّباب، يبدوا في ظاهره صادرا عن مزاح بين صديقين مختلفين في الإنتماء وفي الأفكار ولكنه كان في باطنه ينطق بحقيقة ما يؤمن به الرجل ولا يستطيع إخفاءه. عبثا حاولت أن أؤكد له أنه انحرف عن كل أفكاره السابقة وأننا اتفقنا منذ زمن بعيد أن ما يجمعنا هو الوطن الواحد والمصير الواحد وبأن معرفته القريبة بي لا بدّ أن تدفعه لمراجعة أفكاره وبأن وضع الجميع في سلّة واحدة  مسألة عبثية ولكن هيهات  فقد كان عنده ما يشبه العمى التام بل العمى بعينه.
أما الحدث الثاني فكان الرسالة  التي أرسلها السيد سامي ابراهم الى ألفة يوسف على هاتفها الجوال ومضمونها أنه يتعاطف معها بعد علمه بورود اسمها على قائمة الإغتيالات التي أصدرتها وزارة الداخلية ولم يكن الرجل في ما كتب من رسالة وفي ما عبر عنه من مشاعر واقعا تحت طائل النفاق أو حتى مضطرا لما فعل وإنما أراد أن يعبّر عن حقيقة تعاطفه من جهة وعن نبل ذلك التعاطف من جهة أخرى وهو على أي حال ليس نكرة ولا متطفلا على الشأن الثقافي فهو باحث معروف ورئيس لمركز بحثي معروف أيضا. والمفارقة ليست في الرسالة القصيرة التى أرسلها على الهاتف الشخصى لألفة يوسف مما يبعد عنه أي شبهة للرياء وإنما المفارقة فيما كتبته هي في الرد عليه.
أنا لا أعرف الرجل معرفة شخصية وإنما التقيته مرة واحدة لقاء عابرا لم أزد فيه على السلام حين  ترأس هو ندوة أقامها منتدى الفارابي للدراسات والبدائل وحاضر فيها الأستاذ فتحي التريكـي. ورغم هذه المعرفة السطحية، إلا أنني أستطيع أن أؤكد أن الرجل منفتح حقا، بعيد عن الدغمائية يبحث عن التأسيس لبديل ثقافي متصالح مع الثورة والهوية ولكنه أيضا مفكر يرى في الآخر شريكا في الوطن ومساهما في الحقل المعرفي إسهاما لا يلغي الإختلاف ولكن يستوعبه ويحوله الى مجال للإثراء ولا أدل على ذلك من كون المحاضر يومها مفكر يساري معروف أين منه ألفة يوسف نفسها.
المفكرة ألفة يوسف قالت أنها لا تريد أي تعاطف من أمثاله وأنها لم تتعاطف مع الإسلاميين حين سجنوا والأنكى أنها لن تتعاطف معهم بأي حال من الأحوال وهي للعلم باحثة في الحقل الإسلامي تدّعي أن لها رؤية مختلفة للإسلام وآراءه رؤية حداثية تنظر الى النص بأدوات الحاضر و...غير أنني وأمثالي لا نفهم كيف هو إنعكاس هذه الحداثية في الرؤى على الواقع إذ تبدوا لنا هي ومن هم معها من أمثالها إقصائية متعجرفة  حدّية في حقدها على المختلفين معا الى الدرجة التي تمتنع فيها حتى عن قبول رسالة تعاطف من مفكر وباحث وإنسان.
كلا الحدثين تواترا وبينهما أحداث أخرى كثيرة من شاكلتيهما والمحصلة واحدة، حقد دفين ما يفتأ يكبر ومرض عضال لا أمل في شفاءه وإدعاء لامتلاك الحقيقة لا مزايدة على زيفه رغم العناد، فهل نستطيع أن نبني وطنا يسعنا جميعا بهكذا سلوك ؟وهل ثمّة من ضرورة للحوار إذا كان العقل الذي نريد محاورته عقلا دغمائيا إقصائي بطبعه؟ كم علينا أن نهدر من الوقت ومن الطاقة في تجنّب الصّدام الذي سيأتي لا محالة ما دام الحال هو الحال؟ ألم يدفع الوطن كله ثمنا غاليا لغياب الوعي بأن الصراع الفكري إذا تحول الى صراع سياسي شرس لا يمكنه أن يؤدي إلى إلغاء الآخر وإن جرّ عليه المآسي وصنوف العذاب؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير تحتاج الى إجابة واضحة وإلى عقل غايته التأسيس للمشترك والتطبيع مع الإختلاف إذا كنا نريد حقا العيش في فضاء رحب من الديموقراطية والتعدد وإلا فالدكتاتورية قادمة لأن الإقصائيين لن يكون بوسعهم الإقصاء وتفعيل أحقادهم من دون الإستعانة بالقوة التي لا يملكونها في أنفسهم ومن ثم فلا مناص لهم من الإستعانة بمن يمكّنهم من تحقيق مأربهم وليذهب الوطن الى الجحيم.
كان لا بد لي من لقاء صديقي الذي كان للأسف لدودا حتى تنعقد الحجة للذي يقبل الآخر حقيقة لا زيفا وقد انعقدت لي بعد طول سجال  وكان لا بد للمفكر والباحث سامي ابراهم من ابداء تعاطفه حقيقة لا زيفا حتى يتبين الرّشد في ما فعل من غي ما فعلت، بقي أن نؤكد أن الصدق في القول والعمل لا يمكن أن يتحول الى انبطاح واستجداء ، فهذا الوطن لنا جميعا بإرادتهم أو بدونها. أما إذا استمروا في غيّهم فلا بدّ من وضع النقاط على الحروف بأي طريقة أرادوا حتى لا تتكرر المأساة وما مصر ولا الأيام الخوالي منا ببعيد.