قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
فرقان بين الحياة والموت

 من يشاهد صور اقتحام ميداني النهضة ورابعة العدوية لا يشعر بأنه إزاء اقتحام اعتصام من البشر العزّل وإنما يظنّ نفسه أمام مشهد حرب دبابات وطائرات ومنجنزرات وآليات وجنود مدججين بكل الأسلحة. ليس هذا فحسب وإنما جاءوا وهم مستعدّون تماما للخوض في دماء الناس بغضّ النظر عن الأعداد الهائلة للشهداء والجرحي. لاشك أنه جرى التحضير لهذه الحرب جيّدا طيلة فترة الاعتصام ولا شك أن المعتصمين أخذوا على حين غرّة إذ لم تنته الوساطات والمفاوضات بعد. لا يستطيع أي إنسان بينه وبين الإنسانية وشيجة ما، أن يمرّ على مشاهد الجثث المسجات فى الأكفان أوتلك الملقاة داخل المكان من دون أن تعتصره مشاعر الألم عصرا أو يأخذه طوفان البكاء. ولن يكون بوسع الشرفاء من الناس أن ينسو الجثث المتفحمة للمحروقين أحياءً أو أمواتا قبل أن تنقضي سنين طويلة، أما ذوا الشهداء وأحبتهم فلن ينسوا أبدا ما جرى مهما مرت عليهم من سنين. 

إن يكن الهدف من كل هذا القتل إحداث صدمة لدى المعارضين والمؤيدين على حد السواء، فإن الصدمة قد حصلت ولكن مآلاتها لن تحدد فى مدى قريب وقد كان الجنرال فى أول ظهور له أشبه ما يكون برجل ميت، وهذا دليل على كونه لم يحصل على ما يريده من قتل الناس. كما بدا الجنرال منهارا مرتبكا خائفا ولم يستطع رغم طول الخطاب الذى ألقاه أن يبدو مقنعا ولا غرو أن الغلبة في حرب قذرة كالتي حصلت ستكون لجيش بعدة الجيش المصري وأمن ظلّ لعقود طويلة يعيش على افتعال الأزمات في مواجهة الشعب خدمة للطاغوت، ولكن أية غلبة ؟ وأي نصر؟ إن أبسط العارفين يعرف أن هذا الجيش الهمام قد خسر فى إحدى معاركه ما يقرب من مائة ألف من جنوده وتولى فارّا لا يلوي على شىء ولن يعطيه ادعاءه النصر على عزل من شعبه إلا مزيدا من الهوان ولا يذهب في ظن أحد أن جيشا فى هذا العالم مدعوما بجيش آخر من الشرطة وجيش ثالث من المنحرفين وقطاع الطرق لا يستطيع أن يقتل آلافا من البشر العزل فى بضع ساعات ولذلك فقد كان لزاما عليه أن يستعين بآلة إعلامية ضخمة تعدّ له المعركة وتحيل هزيمته وجرائمه إلى نصر، فهل أفلح أو أفلحت ؟ شخصيا لا ينتابني أيّ شك في كونهم لم يفلحوا، بل يزدادون مع الساعات والأيام خزيا. ومن يرقب المشهد من قريب فى الحدود المصرية لا بد أن يدرك حجم الاستهانة التى أصبح يقابل بها، فلم يعد الإسرائيليون مثلا يعيرونه أي وزن وهذا فى اعتقادنا سيجعل الأمر أكثر خطورة وربما يجري الآن الإعداد الإعلامي والسياسي لحرب قادمة ستكون هذه المرة مع الجوار الفلسطيني وما أسهل أن يجرّ جيش مهزوم غرقت أقدامه في العار إلى هزيمة جديدة.
ليس أمام الإسلاميين من الإخوان وغيرهم، ولا أمام من يناصر قضيتهم العادلة سوى التعالي على الجراح، فما حدث ليس بدعا من الفعل وكتب التاريخ تحفل بذكر المجازر وما من مجزرة هزمت إرادة الناس  وعليهم أن يدركوا أنهم خرجوا منتصرين هم والإسلام السياسي. أما هم فقد استطاعوا أن يصلوا إلى الحكم بواسطة الإرادة الشعبية ولم يتورطوا فى دماء غيرهم وخاضوا المعركة بالوكالة عن الوطن كله مدافعين عن حق الشعب فى الاختيار الحرّ وفي الحياة الكريمة بعيدا عن أي تبعيّة  لم ينصبوا المشانق لخصومهم ولم يقتلوهم غيلة بل حموا حقهم في التعبير الحرّ عن إرادتهم. لم يصموهم بالإرهاب ولم ينزعوا عنهم رداء الوطنية ولم يستبيحوا قتلهم أو يبيحوا إقصاءهم، كل ذلك وسط حرب متوحّشة مفتوحة عليهم بالليل والنهار من أعداء الداخل والخارج حتى جاء الانقلاب مشفوعا بما حدث من مأساة ، فلن يكون  بوسع المشككين في مقولات الأخوان من هنا فصاعدا أن يقولوا بأنهم أعداء الديمقراطية أو أنهم أعداء حقوق الإنسان أو يصفوهم بأعداء الحرية أو بازدواجية الخطاب لأن ممارساتهم في السنة التى مرت دلت على غير ذلك ولا يدّعي ذلك إلاّ من لا يريد أن يلقي السمع وهو شهيد، إذ تبيّن الآن لكل ذي بصيرة أن كل دعوات الإخوان للحوار والمصالحة والتشارك فى القرار والحكم، تم إفشالها بغاية إفشالهم وحتى يتسنى الكيد لهم بافتعال الأزمات وصولا الى المحطة المناسبة التى يتم فيها الانقضاض عليهم وإخراجهم نهائيا من المشهد تحت أي مسمى وإن يكن مقاومة إرهاب لا وجود له أصلا ولا دلّت عليه الأقوال والأفعال.
أما الإسلام السياسي فقد خرج هو أيضا منتصرا لأسباب عدّة، فلم يعد هناك أي مجال للتشكيك في كل مقولاته فإذا سلّمنا جدلا، وهو واقع الحال طبعا، بأنه يوجد إسلاميون متشددون وآخرون معتدلون فإن مقولات المعتدلين منهم قد زادها ما حدث في مصر رسوخا حيث أبان للناس مقدار الصدق الذي في هذه المقولات. وفي المحصلة فإن اللإسلاميين المعتدلين هم فعلا دعاة دولة مدنية تحترم حقوق الإنسان احتراما تاما وتؤمن بالتداول السلمي على السلطة عن طريق الانتخابات الحرة والنزيهة 
أما المتشددون منهم فقد أبانت لهم الأحداث أنه لا بد من إجراء فرز حقيقي داخل تيار اللإسلام السلفي بين من كان ولاءهم للدّين والوطن ومن كان ولاءهم للدولار والخارج وبين من تتيح له أفكاره وقراءته للنصّ الديني وللتاريخ المرونة اللازمة لإنتاج فكر إسلامي ليس غريبا عن العصر أو استحقاقات الراهن السياسي والاجتماعي ، ومن ليس باستطاعته إلا المزيد من الغربة عن الأوطان والأزمــان في هدر متواصل للطاقات وهذا لعمري أكبر كسب للإسلاميين إذ تتيح لهم صدمة بهذا الحجم فرصة تاريخية للتفاعل مع دينهم ومقولاتهم. 
لم يزد الجنرال عن كونه قتل بالنيابة عن أسياده ليهلك عن بينة أما الإسلاميون ومنهم الإخوان فسيحيون عن بينة وثمّة فرق جلي عند هؤلاء وهؤلاء بين الحياة والموت.