الكلمة لأهل الإختصاص

بقلم
د.محرز الدريسي
الديمقراطية: التسامح أساسها والتوافق جوهرها

 لا يشك أحد أن الشباب هي الفئة المهيأة بمنطق العدد و بروح العزيمة وبطبيعة الإيمان العميق الذي يسكنها، و حرارة تطلعها نحو المستقبل وقابليتها للتجدد والتجديد، ولما كان الشباب الطاقة الحية في المجتمع، وحاملا للآمال والطموحات، فلا يمكن التأسيس لتقاليد حوارية وثقافة ديمقراطية دون تشريكه. ومن هذا المنظور تقر مجمل السياسات التي تعتمدها مختلف بلدان العالم بهذه القوى كقاطرة للتغيير وعامل للتحول لا يمكن إقصاؤه أو تهميشه، فالحديث عن مفهوم التغيير الاجتماعي يرتبط وثيق الارتباط بموضوع الشباب ومنظومة القيم. والمجتمعات الإنسانية في كل مرحلة من مراحل تطورها تتحرك وتنمو لتواكب المستجدات سواء كان ذلك في نطاق المؤسسات أو في مجال المثل والمعايير. وتعد فترة الشباب فترة مرتبطة بالتنشئة والإعداد والتكوين، بغاية التدريب واستيعاب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، تهدف إلى ترسيخ صورة الشباب كفاعل أساسي في مشروع التحول الاجتماعي، وجسر للتواصل، ومقوم للحوار الثقافي  والسياسي، وعامل على تقريب الفجوة بين الرؤى ووجهات النظر.

و لا تزال مساهمة الشباب في الثورة التونسية المجيدة نموذجا على انخراطه الميداني ومؤشرا على حيويته ونجاعته ، ولا يعنــــي ذلك أن بقيـــــة الفئات العمرية لم تشارك في الحراك الثوري من كهول وشيوخ وحتى أطفال، بل إن الشباب كما أفهمــــه لا يختزل في الســـن ولا في فئة عمرية محددة بل يعبر عن حركية وموقف ورؤية. ولذا فإن الثورة صنعتها الجماعة و"النحن" الباحثة عن تماسك مجتمعي مغاير وعن ذاتية وطنية أكثر انجازا وفاعلية، ونطمح أن يساهم السياق الثوري في تغيير إيجابي لمضمون المفاهيم والقيم في الأذهان وفي الأعيان . فهل يمكن للثورة أن تمتد إلى صياغة عقد سياسي واجتماعي ينبني على التوافق؟

وهل بالإمكان أن تترسّـــخ قيـــم التوافــــق والتحـــاور في صميم الحراك المجتمعي؟

هل باستطاعة الشباب التونسي أن يرتقي إلى مستوى إدارة خلافاته وحتى صراعاته بطريقة تفاوضية؟

كيف يمكن ترسيخ أساليب الوساطة كثقافة ونمط مجتمعي في حل مشكلاتنا أيّ كانت طبيعتها وأيّ كان مصدرها؟

 

مكنتنا الثورة من فرص لتجاوز مأزقنا التاريخي وإعادة صياغة الاجتماع المدني والاجتماع السياسي، و هي فرصة متاحة للدخول إلى الحداثة السياسية، وتواجهها في المقابل خمس تحديات رئيسية:

(1) الانتقال من دولــة غير مؤسســـة على مبدأ أخلاقي وقانوني إلى دولة مؤسسات وقانون،

(2) الانتقال من دولة أبوية ”مشخصنة“ إلى دولة ديمقراطية ومنفتحة على الجميع.

(3) الانتقال من دولة تستند إلى الولاء والانتماء الشخصي ومنطق ”الشللية“ إلى دولة تستند إلى الانتماء للوطن وللمصلحة العامة،

(4) الانتقال من أنظمة مغلقة تندمج فيها الدولة بالحزب الحاكم وذات طابع أبــــوي إلى أنظمة سياسية مؤسسة على التعددية والمشاركة الشعبية،

(5) الانتقال من ثقافة الإقصاء والتهميش والعنف المكشوف والخفي إلى ثقافة السلم والاحترام.

 

يلامس الحراك الثوري مجتمعاتنا ومؤسساتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، وهي في حالة من التهافت والهشاشة و الخراب شبه المطلق، من حيث أزمة انتماء وأزمة هوية أحدثت شرخا في الثقافة الوطنية بين التجاهل والتقديس وبين الاستئصال والتقليد. مع غياب الديمقراطية في بلدنا، وهو غياب مضاعف، فالديمقراطية غائبة ليس فقط على مستوى السياسة وأساس الحكم وأسلوبه، بل غائبة على مستوى الثقافة والقيم والسلوك والمدرسة والأسرة... ولذا فإن التعاطي مع هذه التحديات ومواجهتها يمنح الحراك الشعبي عمقه و ملامح ابتكارية، وآفاق تدريبية يعطي للتحول السياسي أرضية اختمار تاريخي بإعداد شروط إمكان تحقق الانتقال الديمقراطي وبناء الديمقراطية بما هي جوهر الحداثة ومقدمات تحققها.

وقد أتاحت لنا الثورة عبر اختيار صناديق الاقتراع كآلية والانتخاب كوسيلة لحل الخلافات السياسية، وشكل المجلس التأسيسي آلية مؤسسية لاستكمال  تحقيق أهداف الثورة، مع صعوبات حقيقية وتعثرات في تأسيس مناخ الحرية وتجذيره. ولهذا فإن التوصيف الدقيق للمرحلة، أننا لم ندخل- بعد- إلى مرحلة الديمقراطية، واعتقد أننا في مرحلة ما بعد الاستبداد وما قبل الديمقراطية. لقد تم تحرير السلطة  أو يبدو الأمر كذلك ، فإن المطلوب في الفترة القادمة تحرير العقل والشعور والقناعات من الإقصاء ورفض التنوع. وأنه من الضروري الانتقال من التفكير النظري إلى التفكير العملي في الديمقراطية، حيث نفترض أن الديمقراطية كإنشاء تنظيري وبناء مؤسساتي تجسم جوهر الحداثة، وأن الحداثة هي التي تضفي الأنسنة والعقلنة على أسس الشأن السياسي، من جهة مبادئه وآليات اشتغاله. وهو ما تفطن إليه رواد المدرسة الإصلاحية العربية من أن الحرية تفضي إلى الديمقراطية وأن الديمقراطية تتأسس على الحرية، و أن التحديث السياسي مدخل لا مناص منه

للحداثة المجتمعية وللنهوض الفكري والمجتمعي، وأن الحداثة السياسية تؤدي إلى الرقي المجتمعي وإلى التقدم والنهوض.

 

فهل تمكننا الثورة عن طريق المسار السياسي الانتخابي وما أفرزته من نتائج في الدخول إلى الحداثة السياسية بما تعنيه من إلغاء الاستبداد في النظر وفي القناعات وفي الواقع عبر تأسيس تعاقد اجتماعي جديد يلم الشرخ الاجتماعي ويعيد بناء التضامن المجتمعي ويؤسس الاجتماع السياسي على عقلانية التعدد في كل المجــالات. ولا ترتبط ثقافة السلم والاحترام والتعايش المشترك بمجرد قرار دستوري وإن كان يؤسسها ولا بقرار سياسي وإن كان ييسرها ويفتح أمامها الأبواب،وإنما هي في حاجة إلى كل ذلك مع تحديث القيم عبر التنشئة الاجتماعية والمؤسسات المدنيــة والمنظومـــة الثقافية من أجل ترسيخها وتجذيرها والتدريب عليها. فثقافة السلم كما أفهمها أن ”السلم الإجتماعي“ ضد حالة ”التنابذ والتنافي“، وهي تعني أيضا السلام مع النفس ومع الآخر و مع البيئـــة...، وثنائية الثقافـــة والسلم أو هذا التركيب يدل أن السلم ينبني على الثقافة، وأن الثقافة دعم للسلم، وأن السلم ثمرة التربية التي تثمن الحوار والتفاوض والوساطة كأسلوب لحل الخلافات والنزاعات، وترسم كيفية نبذ العنف مهما كان شكله ولونه كطريقة في حل الخلافات والصراعات. وهو ما يؤكد أن البناء الديمقراطي وتوسيع منظومة المشاركة ليست إجراءات تقنية للإدلاء بالأصوات على أهميتها، أو مؤسسات سياسية داعمة للديمقراطية وعمارة دستورية وقضائية، (محكمة دستورية- إعلام حر ومستقل و فاعل-...) بل تنبثق من قناعة بأن الحرية حق مقدس وحق طبيعي، وأن الديمقراطية ترتبط بالإحساس بالمواطنة كمبدأ يشرك كل الأفراد دون استثناء ودون وصاية في بناء الإطار الاجتماعي وتأسيس السلطة والشأن العام. وأن نجاح التجربة الديمقراطية في ترجمة قيمها إلى خطط وبرامج ومشاريع فاعلة، وسلوكات اجتماعية يسودها التسامح والاحترام لمن هو مختلف عنا أو يختلف عنا .

 

إننا في مفترق طريق تاريخي، فالديمقراطية لم تستقر بعد ولم تتحول إلى قاعدة في الوعي وفي الشعور وفي الواقع، وأن ضمانتها أن تتحول إلى حركة اجتماعية وثقافية وتربوية تؤمن بالتعدد والاختلاف وتتفق على قيم وآليات فض النزاعات وصياغة رؤية توافقية لكل ما هو موضع اختلاف .ولهذا فنحن في حاجة إلى تجديد العمل السياسي والفعل المدني، وبالتالي إعادة بناء النخب السياسية، التي يمر بالضرورة بتجديد القيم والمعايير وأساليب العمل وطرق إدارة التباينات. فالديمقراطية لا تعني التعددية فقط، بل مجموعة من القيم العميقة والمبادئ الأصيلة التي لا بد وأن تترسخ في الفكر والسلوك، وأن تتجذر في الوعي والممارسة، ومن بين القيم قيمة المواطنة وقيمة المساواة التي تتأسس على ثقافة التوافق. مما يجعل بناء الوحدة الوطنية يتم على أسس ديمقراطية حقيقية، يجنب إهدار الطاقات، ويحولها إلى قوّة دفع كبيرة للعمل الوطني والفعل المدني وقوّة انجاز ، وصولا إلى صياغة مشروع وطني تاريخي.

 

إن الديمقراطية ليست ”آلية“ أو ”إجراءات“ بل هي روح تسري وثقافة تتجسم في انسنة الإنسان وجعل السياسة ميدانا ”للتنافس“ والتعبير عن الأفكار والبرامج وقبول الآخر وإدارة الجدل والحوارات، وهي في الأخير تعبير عن الإرادة العامـــة أو ”إرادة الجماعة“ وقبول الاختلاف. وتتطلب نظريا الاشتغال عليها ثقافيا، بصياغة أفكار ورؤى تقرّ بالاختلافات والتناقضات والتنوع والصراع والتنافس و كأخلاقية عامة تستند إلى الاحترام وقبول المختلف ، وعمليا، بإنشاء مؤسسات وهياكل وآلية إدارة الحوار والتصرف في التباينات بين القوى والمصالح والنزاعات.

 إن ثقافة السلم ليست مجرد ثقافة نظريــة كمــا قـــد يتصــور البعــض وإنما هي ثقافة نظرية (قيم ومبادئ ومفاهيم) وثقافة سلوكية (مواقف ومشاعر واتجاهات عملية وسلوكيات) متمازجتان ومتكاملتان. العلاقة بين الثقافة النظرية والثقافة السلوكية في ثقافة السلم علاقة تبادلية، وتعزيز متبادل. وتلعب الثقافة النظرية دورا توجيهيا أساسيا في تشكيل السلوك السلمي. و ثقافة السلم قابلة للنماء والاستمرار كما هي قابلة للتدهور والاضمحلال، ومع أن لكل من النماء والتراجع أسبابه وعوامله فان عوامل الإنماء والاستمرار لا تتوافر إلا بتوافر جهد تدريبي واع، بينما يكفي لتوافر عوامل التدهور مجرد غفلة المجتمع المدني عن أهمية السلم والعمل من اجله، ولعل ذلك يفسر لنا ارتباط حالات تحسن السلم في المجتمعات. إن مفهوم ثقافة السلم، شأنه شأن أي مفهوم ثقافي آخر، هو نتاج للثقافة القائمة وانعكاس لها، وبالتالي يتطور ويتوسع مع تطور وتوسع الثقافة، ويتنافى ذلك مع أي زعم بإمكان تقديم مفهوم نهائي ثابت لثقافة السلم. و تسيطر أحيانا على البعض، أفرادا وجماعات، مفاهيم أو نظريات صراعية معينة ولكنها تدفع بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تبني العنف أو إقراره في سلوكه.

 

يمر مجتمعنا بمرحلة دقيقة يطلق عليها البعض مرحلة الانتقال الديمقراطي والتي تتطلب لا فقط صياغة دستور وبناء الدولة على أسس ديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكن تتطلب ترسيخ ثقافة التسامح بل قبول الاختلاف. وأن شبابنا يحتاج إلى التدرب على تشرب الاختلاف والتعاطي مع المغاير والتوافق مع المختلف، وأن المواطنة لا تبنى على الإقصاء وأن الهوية الذاتية تتضمن الاختلاف ،و تنطلق من قناعة بأن التعدد هو الأصل وأن الاختلاف هو الثراء، وأن التماثل والتشابه مرادف للجمود والعطالة، وأن تونس تحتاج أن تُنشئ قيم التسامح وضمير حي وشخصية وطنية تبنى على الشرعية التوافقية الضامنة لتماسك المجتمع وصلابة مشروعه الوطني.