في النقد الادبي

بقلم
رشيد وديجى
إدوار الخراط بين سمات الحساسية الجديدة و الكتابة عبر النوعية في الرواية الجديدة

 إن الكتابة الإبداعية – لسبب أو لآخر – أصبحت اختراقا لا تقليدا واستشكالا لا مطابقة وإثارة للأسئلة لا تقديما للأجوبة، فليس « في الفن نقاء ... وليس  في الفن أنماط ونماذج مصفاة ... لا يمكن أن يكون هناك في الفن خانات محددة، لكن هناك سمات عامة يمكن أن نستخلصها. ووظيفة الناقد أن يستخلص هذه السمات العامة لكي يفرق بين منحى في الرؤية وآخر»(1)، لقد استفادت الحساسية القديمة عطاءها في رأي « إدوار الخراط»، ربما لأن موجة الواقعية التي اكتسحت الساحة الأدبية قد اثبت انحصارها وقصورها معا، على الرغم من أنها تركت لنا آثارا متعددة و باقية، فقد هيأت الظروف لنضج و ازدهار الحساسية الجديدة، وذلك بتأثير من معطيات الواقع الاجتماعي . 

إن ما يهمنا في هذا العرض هو السمات والملامح التي تتسم بها التجربة الحداثية الروائية،  أو على حد قول إدوار الخراط ترهنان على مهاجمة المستحيل « إنني أنشد المستحيل في العمل الفني». 
(I) سمات الحساسية الجديدة في الرواية:
    يحدد الناقد في كتابه «الحساسية الجديدة» تقنيات وسمات هذه الحساسية في الرواية، نقدمها كالآتي: 
* كسر الترتيب السردي الاطرادي .
* فك العقدة الموروثة التقليدية . 
* الغوص بالداخل لا التعلق بالظاهر . 
* تحطيم سلسلة الزمن السائر في خط مستقيم . 
* تراكم الأفعال المضارع والماضي والمحتمل معا. 
* تدمير سياق اللغة السائد المألوف، وهدم بنيتها، ورميها نهائيا خارج متاحف القاموس . 
* توسيع دلالة الواقع لتستوعب الحلم والأسطورة والشعر. 
* مساءلة الشكل الاجتماعي القائم .
* اقتحام مغاور ما تحت الوعي . 
* استخدام صيغة  «الأنا» لا للتعبير عن العواطف والأشجان، بل لتعرية أغوار الذات وصولا إلى تلك المنطقة الغامضة المشتركة التي يمكن أن تسمى الذات الجمعية أو ما بين الذاتيات . 
* دمج اللغة التسجيلية لغة الوثائق، والصحف، والتقارير مباشرة بشكل أو بآخر داخل الرواية . 
* الإصاتة بمعنى استخدام الحرف بشكل متكرر . 
* مهاجمة المستحيل، والمستحيل هنا بالتحديد هو « عبور الفجوة بين الموسيقى كصوت بحث، وبين الدلالة اللغوية، ودمجها معا» (2) .
 وبصفة عامة، أصبح اللجوء إلى الشعر هو الملاذ والخلاص من الرتابة والابتذال والمهانة التي يتسم بها الواقع الخارجي المحيط بنا، كما أن انعدام الشعر في الواقع أصبح يستدعي ضرورة وجوده  في الفن،و على نفس النمط امتهان اللغة أصبح يستلزم الاحتفاء بها (3) .
فعلى الفنان كيفما كان نوعه أن يقيم عالما فنيا جديدا له قوانين ومعاييره، ومنطقه الخاص، يؤكد من خلاله انهيار الحاجز التقليدي، فنا يندمج وينصهر فيه الحلم و الصحو، الواقع و الخيال، الظاهر والباطن ومستواه أعلى مما حققه القدمى .
 لقد أدت هذه التقنيات والتغييرات إلى هدم البنية التقليدية وأحلت محلها بينة جديدة أكثر انسجاما من روح العصر وأكثر تعقيدا، وبالتالي أكثر فاعلية وتأثيرا « هناك نوع جديد من البناء يحتاج الى نظرة جديدة وتحليل جديد، ويستدعي  متلقيا ... لا يوجد النص  إلا بمشاركة إيجابية وخلق من القارئ»(4) . وهذا النوع من البناء أطلق عليه «إدوارد الخراط» اسم « الكتابة عبر النوعية» (5)، أو بمصطلح آخر النص المفتوح . 
(II) الكتابة عبر النوعية ( Trans - Générique ) 
في الرواية الجديدة :
كانت الشعرية في مجال القصة والرواية بصفة خاصة، والنثر بصفة عامة، رداءة وعملا مشينا، فقد كانت العادة النقدية السارية أن للشعر وقتا ومجالا ومواصفات، وأن للنثر مقاما وسمات لا يجب أن يحيد عنها،  ولا أن يجور على خصائص غيره من فنون القول، وإذا امتزج الشعر أو النثر بعناصر من أجناس أدبية مغايرة يصاب بالتفسخ  و الهجانة، وكانت « اللغة الشاعرية في القصة مما يعتبر قصورا وجنوحا أو على الأقل خلطا لا يجوز»(6). أما الآن فالظاهرة المستحدثة والهامة التي تأكدت في اعتقادنا – في السنوات الأخيرة – هي ظاهرة الرواية القصيـدة والقصة القصيدة، وهذا ما يطلق عليه « إدوار الخراط» اسم «الكتابة عبر النوعية» وهي ظاهرة تسود في الكتابات الراهنة، حيث نجد أن نصيب السرد في العمل القصصي والروائي يتضاءل، ويزداد في المقابل نصيب الشعر. 
ويعرف الباحث ما أسماه «الكتابة عبر النوعية» كالتالي : 
1 – الكتابة التي تتضمن الأنواع التقليدية، تحتويها في داخلها وتتجاوزها لتخرج عنها « بحيث تصبح  الكتابة الجديدة في نفس الوقت قصة،  مسرحا شعرا» (7)، موظف الفنون الأخرى من تصوير وموسيقى ونحن وسينما ومعمار،  فهناك نوع من الهيمنة الشعرية على البنية السردية في القصة القصيدة(8). وتجدر الإشارة  - هنا – إلى أن بعض النقاد المعاصرين قد تنبه إلى هذه الحقيقة من ذلك إشارة  حميد لحميداني  في كتابه: «أسلوبية الرواية، مدخل نظري»  أثناء حديثه عن بلاغة الرواية، يقول: « ...الرواية من أكثر الفنون قدرة على استيعاب، وإدماج وسائل الأداء الإبداعية المنتمية إلى فنون أخرى، فهي تستخدم جميع الامكانيات المتاحة لدى الشاعر (استعارة، و كناية، و رمز، و أسطورة) ولدى المسرحي (حوار، و صراع درامي، و تصوير المشاهد) ولدى الرسام (هندسة المواقع) وما يتبعها من تشكيل للحيز المكاني، كما أنها إلى جانب ذلك تعتمد على العلاقات المنطقية والرياضية إلى جانب استفادتها المباشرة  في التاريخ والفولكلور، والسينما، والخطب والحديث اليومي العادي»(9) . 
2 – اللغة ذاتها تستطيع أن تكون الحدث، وتشكل دراما كاملة، ومن الممكن أن يحل الوصف دون حكاية محل الحدث، وتكون له نفس فعالية الحدث وتشويقه وتطوره الدرامي « وطبيعي أن اللغة والوصف هنا ليس مجرد كلمات، ولا مجرد رصد للظواهر بل فيهما ما هو أعمق وألصق بالنفس وبالواقع على السواء»(10). 
3 – هذه الكتابة ليست شيئا متاحا أو قريبا سهل التناول إذ يجب مع بداية كل تجربة من هذا النوع التفرقة الصارمة بين الفوضى والحرية، و بين الإبداع والتخبط، وفي هذا الصدد نورد قانون(11) الرواية الجديدة الذي وضعه الان روب غرييه « A.R. Grillet» اعتمادا على آراء وأحكام جمهور النخبة، ويمكن تلخيص هذا القانون في العناصر الأربعة التالية : 
* إن الرواية الجديدة تقنن قوانين رواية المستقبل . 
* إن الرواية الجديدة تضرب صفحا عن الماضي .
* تسعى الرواية الجديدة إلى الموضوعية الكاملة . 
* إن الرواية الجديدة المتميزة بصعوبة قراءتها تتوجه فقط إلى       المتخصصين . 
ويشير غرييه أننا إذا أخذنا بعين الاعتبار كل نقطة على حدة من هذه العناصر، سيكون ممكنا القول بأن الرواية الجديدة ليست نظرية ولكنها بحث (12). 
4 – تظل الأنواع التقليدية قائمة باعتبارها تاريخا، وباعتبارها إنجازا ثابتا ومكتسبا، ولا يصح التخلي عنه باعتباره تراثا . 
وفيما يتعلق بهذه النقطة يتساءل «إدوار الخراط» هل نظل أبد الدهر أسرى لمواصفات تاريخية سابقة، أم أن الفن بذاته، وبتعريفه هو مغامرة مستمرة، واختراق مستمر، ومهاجمة للمستحيل (13)؟ . 
نجد الإجابة على هذا الإشكال في كتابه «مهاجمة المستحيل» مع تعريف آخر للكتابة العابرة للأنواع؛ فإذا كان يحث على عدم التخلي عن الأنواع التقليدية باعتبارها تراثا، فإنه في هذا الكتاب المشار إليه يرى أن هذا النوع من الكتابة هو الذي يعبر ويتجاوز المواصفات التقليدية للأنواع الأدبية. ويبسط هذا المصطلح – الكتابة عبر النوعية – على النحو التالي « ... نجد الآن في المغامرة الفنية والمتصلة والمستمرة والضرورية بطبيعة الحال أن القصة القصيرة مثلا يجب أن تفيد من منجزات المسرح ... ليس في هذا ما حاوله «توفيق الحكيم» أو ما أسماه « المسراوية» بل أعني شيئا أعمق وأكثر تركيبا وأكثر بعدا ... نجد أن الرواية على سبيل المثال أيضا يمكن أن توجد في أجواء شعرية سارية، ومخامرة ، وشديدة الفعالية والتأثير ... إننا نجد أن المواصفات التقليدية والحدود القاطعة بين كل نوع ونوع بل بين كل فن وفن قد تهاوت ... وأنه من الممكن أن يفيد كل نوع وكل فن من منجزات الفنون  الأخرى . بهذا المعنى وببساطة يمكن أن تتصور معنى أو صفات أو خصائص ما نسميه الكتابة عبر النوعية»(14) . 
إذن، فالقصة أو الرواية في تصور« إدوار الخراط» قابلة لاحتواء عدة فنون وأجناس أخرى مغايرة تحتويها وتتجاوزها في الوقت نفسه،
فهي خليط مركب تراهن على مستويات من الرمز، والإيحاء، و الانزياح، كما تعكس ذلك لغة الشعر . 
تتضمن الموسيقى واللوحات التشكيلية ولها نسق خاص «يمكن في النهاية الميل به إلى هذا النوع أو ذاك، دون أن يندرج تحت هذا النوع أو ذاك» (15). فالساحة الآن مفتوحة على مصراعيها للمغامرة الإبداعية التي لا تعيد إنتاج الموروث؛ فليس ضروريا الاعتناء بمحاكاة ما كان بالأمس ولكننا بالأحرى ملزمون بالمضي أكثر إلى الأمام (16).
 إن المواصفات القديمة أصبحت عاجزة على إنتاج الجديد والمغامرة التي يدعو إليها «الخراط» ليست شكلية فحسب، بل الشكل كما هو معروف لا ينفصم عن الرواية «الرؤية»، ونلمس ما يقصده بالرؤية من خلال حديثه عن الرواية – القصيدة حين يقول :«فالرواية – القصيدة ... موضوعة في صياغة شعرية، لا أقصد بالشعرية مجرد الاستعانة بالتشبيهات الملحقة أو الاستعارات أو نحو ذلك، هذا ضروري  أو هذا طبيعي، أو هذا مسلم به، ولكني أقصد بالشعرية نوعا من رؤية العالم، وحتى مساءلة العالم في صياغة هي أقرب إلى روح أو جوهر الشعر، ولا تسألني ما هو جوهر الشعر ؟ لأن هذا لا يتبدى إلا في العمل الفعلي نفسه» (17). 
ويبدوا من خلال هذا الكلام أن مفهوم الشعرية لدى « إدوار الخراط « يختلف عن مفهوم الوظيفة الشعرية عند «رومان جاكبسون» الذي أدرك أنها «موجودة في جميع الفنون الإبداعية» (18)، ورغم ذلك « ظل يلح على قيمة الشعر المنظوم على حساب الأنواع الأدبية الأخرى» (19)، الشيء  الذي دفع «ميكائيل ريفاتير» «Michael Riffaterre» إلى تغيير مفهوم « الوظيفة الشعرية لدى «رومان جاكبسون» بمفهوم الأسلوبية حتى يمكن للفنون الأخرى غير الشعر أن تجد نفسها ضمن هذا    المصطلح» (20). 
    قد يكون من المفيد أن نشير هنا أيضا إلى كتاب آخر «لإدوار الخراط» يحمل عنوان «أصوات الحداثة»(21)، لتبيان آليات وطرائق السردية الشعرية « التي تسري فيها دماء الحكي جنبا إلى جنب في تيار واحد مع التأمل والنجوى، و دفقات البصر الشعري، عن طريق تقنيات شتى تحمل رؤى، أو رؤية واحدة للعالم» (22). 
ونوجز هنا خصوصيات السردي - الشعري في تصوره . 
* التعمق في الحفر، والنقش، والوشم، والرسم . 
* التخلل « L’intercalation» والتفريق بين مقومات النص لتندرج في نظم ما . 
* حركة بداية النص هي في الوقت نفسه نهايته، ونهايته توحي وتبدو كأنها بداية . 
* الحركة الانعكاسية المتصلة بين الخارج و الداخل، ومن الداخل إلى الخارج سواء كان ذلك في شكل النص، أو في مادة موضوعه هي نفس الحركة المتصلة بين قطبي الوشم والمحو، بين النقش و الدثور في تراوح غير منقطع . 
*التعدد المستمر والشكل الملتبس إيحاء إلى التباس الهوية – هوية النص -؛ نحن أمام مزج بين مجموعة من الهويات لا يفقد أي منها خصائصها المميزة ولا تفصلها هذه الخصائص على غيرها . 
* تعدد مستويات النص مما يشكل إيقاعا خاصا به، النص قابل لاحتواء مستوى الحياة اليومية المألوفة، ومستوى استرجاع ما مضى، وأخيرا مستوى الراهن الذي يتجاوز الآن و الأمس معا ويدنوا من حافة اللازمنية . 
* وينتج على ذلك ويتخلق معه في الوقت نفسه تعدد مستويات                اللغة : اللغة العامية العادية، والفصحى الدرجة السائدة، والفصحى التراتبية، واللغة الشعرية الإيحائية، والموسيقية البالغة الرقة و الوقع . 
* غواية الاخفاء : وهي تقنية رؤيوية لا تقتصر على ترك الفراغات والبيضات في الحكي والتعليل، بل تبحر إلى ما هو أعمق حتى يستخفي النص أو يكاد اختفاء تاما يوشك التواصل معه على الانقطاع . 
* التضاد بين التشتت والانتظام، بين التشظي والاكتمال اندراجا في نظم ما، نظم الأسماء- نظم الأماكن – نظم القول (23) .
وينطبق هذا الاقتراح في نظر « إدوار الخراط» على كتابات شابة جديدة مثل : «نصر الحلواني»  و«محمد حسان» و«سعد الدين حسن» و«منتصر قفاش» . حيث يستنتج من دراستـــــه لـ «ملاقـــــاة»  وهي « لمنتصر القفاش»  ما يلي في «ملاقاة» ... تضافر اليوم العادي المبتذل مع الشعري الصوفي، أو الملحق، أو التأملي، ومرة أخرى هناك أكثر من تجاور وأكثر من تداخل بل يدخل اليومي المبتذل في صميم نسيج العمل ككل ومن تم يرتفع ... إلى أن يكون هو نفسه شعريا، فانظر كيف يصاغ الحوار، نتفا تصاغ مأخوذة من حياة كل يوم، فيتساوق ويتناغم و يتناغم مع التراثي و الصوفي، بحيث تكون في التعددية وحدة كامنة» (24) .
الحواشي
(1) إدوار الخراط : الحساسية الجديدة: مقالات في الظاهرة القصصية، دار الآداب، بيروت، 1993، ص 15 .
(2) المرجع نفسه، ص 30.
(3) نفسه، ص  344 .
(4) نفسه، الصفحة نفسها .
(5) إدوار الخراط : الكتابة عبر النوعية : مقالات في ظاهـــــرة « القصة- القصيدة» ، دار شرقيات،   ط I، 1994.
(6) إدوار الخراط : الكتابة عبر النوعية، مرجع مذكور، ص  14.
(7) المرجع نفسه، ص 13 .
(8) نفسه، الصفحة نفسها .
(9) حميد لحميداني : أسلوبية الرواية، مدخل نظري، منشورات دراسات سال، البيضاء، 1989 ، ط1، ص  82.
(10) إدوار الخراط : الكتابة عبر النوعية، مرجع مذكـــــور، ص 14.
(11) هذا القانون ليس صارما وحاسما أو بديلا للقوانين الموروثة.
(12)
A.R. Grillet : Pour un nouveau roman , édition de minuit, collection critique , 1961,    p  73.
(13) إدوار الخراط : الكتابة عبر النوعية، مرجع مذكور، ص 14.
(14) المرجع نفسه، ص  113 .
(15) نفسه، ص 115 .
(16)
A. R. Grillet : pour un nouveau roman, op.cit, p115.
(17) إدوار الخراط : مهاجمة المستحيل، مرجع مذكور، ص 127.
(18) حميد الحمداني : أسلوبية الرواية ، مرجع مذكور، ص 67 .
(19) نفسه، ص 67.
(20) نفسه، الصفحة نفسها.
(21) إدوار الخراط : أصوات الحداثة، دار الآداب بيروت، ط I، 1999 .
(22) إدوار الخراط: مهاجمة المستحيل مرجع مذكور، ص  149.
(23) إدوار الخراط : أصوات الحداثة : اتجاهات حداثية في القص العربي، دار الآداب، بيروت، 1999، ص149 .
(24) المرجع نفسه، ص 149.