الادب الهادف

بقلم
عبداللطيف العلوي
التّفويـــض . !!!.

 بُنيَّ الصّغِيرَا ...

بنيَّ الّذِي ربّما لنْ أراهُ غدًا يَكبُرُ ..
حين تقرَأُ هذي الرّسالةَ سوفَ أكونُ ابتعَدْتُ كثيرَا ...
على فرَسِ الموتِ ياولدِي ، 
وحملتُ معي صورًا لا تُعَدُّ لما سوفَ تُصبحُ حين تصيرُ كَبيرَا ..
ستعرفنِي يا حبيبي ..
بما سوفَ يبقى على وجْهِ أمّكَ من وجع الذِّكرياتِ
بأقمصتي في الخزانةِ ، والصّورِ الباهتاتِ القليلةِ ..
بالكتبِ السّاهراتِ على مكتبي ، 
والقليلِ الّذي سوف يذكر جيرانُنا الطّيّبون إذا حدّثُوا عن حياتي ..
وأعرفُ أنّي سأُخْلِفُ كلّ الوعودِ ..
وقد لا أراكَ – كما كنتُ أحلمُ – تَدْرُجُ مثلَ الإوزّ على وهنٍ
أو تَحُثُّ المسيرَ 
وقد لا أراكَ تمدُّ إليَّ أصابعَ خضراءَ تلهو بلحيتِيَ المهملَهْ
أو تنطُّ على كتفي أو تُكَرْكِرُ 
أو تتخفَّى وراءَ السّتائرِ ثمّ تفاجئنِي زاهِيًا مستطيرَا ..
وقد لا أعيشُ لأسمعَ أوّلَ حرْفينِ يَكْتَمِلانِ على شفتيكَ 
فيرتعش القلبُ من نسمةٍ في الهجيرِ تفوحُ عبيرَا ..
ستسمعُ يا ولدي عن بلادٍ تُسَمَّى مَجازَا برابعةَ العدويّةِ ،
بعد سنينَ ستبردُ أفئدةُ الشّهداءِ ، 
وتثّاقلُ الخُطواتُ على صدرِ إِسْفَلْتِها المُثخنِ بالدّماءِ ...
سيَمضِي عليها الكَثِيرُونَ مُسْتَعْجِلِينَ
ولنْ يَقِفُوا لحظةً ليشُدُّوا على كتِفٍ مُوهَنٍ كان يومًا هناكَ ، 
أو امرأةٍ فاضَ ملحُ الأنوثةِ من صدْرِها
فسقتْ نخلَها في يبابِ المواسِمِ دمعًا غزيرَا ..
ستسْمَعُ عنها القليلَ غدًا – ربّما – أو كثيرَا ..
ولكنّ تاريخَها سوفَ يكتبُهُ الرَّاقِصُونَ على شرفِ المذْبَحِ العسْكَرِيِّ .. 
بألسنةٍ لا يجفُّ عليها نقيعُ الخيانةِ ..
إن سَجدتْ كفَرَتْ وإذا غرغرتْ أغلظتْ باليمين لتشهدَ زُورَا
وكانت لنا يا حبيبي بلادٌ ككلِّ العبادِ
وكنّا نهيمُ بها.. ، نُشعلُ الشّمسَ من بحرِهَا الأُرْجُوَانِيِّ كلَّ صَباحٍ 
وكنّا صغارًا ...نفتّشُ عن شكلِها في الخرائطِ مثلَ العصافِيرِ بين الشّجرْ 
ثمّ نهتفُ حين نعلِّمُهَا بالأَصَابِعِ : ها هِي بلادي ... 
مجلّلةً بالحرير كوجهِ القمرْ ..
و كنّا على خفْقِ راياتِها في السّمَاءِ..
نردّدُ كالشّعراءِ : 
بأنّا إذا ما أردنا الحياةَ...
فلا بدّ أن يستجيبَ القدرْ 
كبرتُ على عجلٍ يا حبيبي و أثخَنْتُ في حبِّها 
صار كلُّ الّذِي أرتَجِيهِ من اللهِ بيْتًا بها أو حَصِيرَا 
وأن أَسْتَزِيدَ فيرزُقَنِي منْ ثَرَاها كما يَرْزُقُ الطَّيْرَ فِيها
فآوِي إلى نَجْمَتِي في المَسَاءِ عزيزًا شَكُورَا
وأن لا أَغصَّ بِرِيقِ المَذلّةِ في الحَلقِ أو في الرَّغِيفِ 
و لا يَتَعَفَّنَ قلبي كَسَقْطِ المَوائدِ فوقَ الرَّصِيفِ 
وأن أحتفي مرّةً باكتمالِ الرَّبِيعِ ولوْ مرّةً ..
بعد خمسين عامًا يَجيءُ الرَّبيعُ بها كلَّ عامٍ بطعمِ الخَرِيفِ 
فهل كان هذا الّذي أرتجِيهِ كثيرَا ؟؟؟
صَحَوتُ على دَبكَةِ العَسْكَرِيِّ يُعِدُّ سِلاَحَهْ 
ومَا كانَ يومًا عَدُوِّي 
أنا من عجنْتُ له الخبزَ من كفِّ جوعي وقوتِ صِغَاري 
وضمَّدْتُ يومًا جِرَاحَهْ
ومَا كانَ يومًا عَدُوِّي 
وقلتُ لمنْ جاء يتركُ عندي وصيّتَهُ : لاتخفْ ..
سوفَ تخْجَلُ تلكَ الرَّصَاصَاتُ من دَمِنا والمَدافعُ والطّائراتُ 
سيخْجَلُ من دمِنا العَسْكَريُّ ويُرْخِي جناحَهْ ..
ومَا كانَ يومًا عَدُوِّي 
ولكنّه اليومَ صارَ المُفَوَّضَ باسمِ المَلاَيِينِ في قَتْلِ إِخْوَتِهِمْ سَاجِدِينَ 
و جاء ليذبَحَنِي فوقَ سُجَّادَتِي
بوثائِقَ رسْمِيَّةٍ من سِجِلِّ الحُكُومَةِ تُثْبِتُ شرْعِيَّةَ المَجْزَرَهْ 
والّذي فوَّضَ اليومَ ربَّ الجُنُودِ ليَقْتُلَنِي ..
لم يَكُنْ لي عَدُوًّا لِكَيْ أحْذَرَهْ ..
كان بيتُهُ في حيِّنَا الفَوْضَوِيِّ قُبَالَةَ بيتِي 
وكنتُ إذَا غَابَ أحْرُسُهُ دونَ أنْ أُخْبِرَهْ 
كان يعشَقُ فيرُوزَ مِثْلِي ويشهدُ أنْ لاَ إلاَهَ سوَى اللهِ خَالِقِنا 
ويُرَبِّي على سَطْحِ بيتِه زَوْجَ حَمَامٍ يُطَيِّرُهُ في المساءِ على سَطْحِ بيتِي 
ويأكُلُ مِلْحِي وزَيْتِي ..
ويشحَذُ فِي غَفْلَتِي خِنْجَرَهْ 
لم يَكُنْ لي عَدُوًّا لِكَيْ أحْذَرَهْ ..
كانَ في قَاعةِ الفَصْلِ يومًا جَلِيسِي 
يُشَاكِسُنِي ويُشَارِكُنِي لُمْجَتِي وكِتَابِي 
وكان يَغَارُ إذا ما رآني أَشُدُّ على كفِّ طفلٍ سِواهُ
وكان رفيقَ الشّبابِ 
فماذا إذنْ غيّرَهْ ؟؟
لم يَكُنْ لي عَدُوًّا لِكَيْ أحْذَرَهْ ..
كان يلبسُ فولتيرَ والمتنبّي ورابطةَ العالَمِ الاشْتِرَاكِيِّ والأمَمَ الثّائِرَهْ
كان شيخَ البيَادَةِ والمرقَسَ الأرْثُذُوكْسَ ووَرِاثَ أحزَانِ نوبلَ
 والنّاصريَّ الّذِي اسْتَنْصَرَهْ
كان يُنْشِدُ مثْلِي : بِلاَدي بِلاَدي ....
ويَهتِفُ مِثْلِي : نَكِيدُ الأَعَادِي ..
و يَدْعُو لمُؤْتَمَرٍ صحَفيٍّ إذا عَثَرَتْ بَغلةٌ في العِرَاقِ
و يَدْعُو إذا انتحرتْ قطّةٌ ، للحدادِ ..
ولكنّه اليومَ فَوَّضَ ربَّ الجُنُودِ ليَقْتُلَنِي فوقَ سُجَّادَتِي ، ساعةَ الفَجْرِ 
بِاسْمِ الحداثةِ واللاّئكيّةِ والدّولةِ المدنيّةِ والكَهَنُوتِ المُعَظَّمِ ،والحُرَّةِ الفاجِرَهْ
لم يَكُنْ لي عَدُوًّا لِكَيْ أحْذَرَهْ ..
فاحترِسْ يا حبِيبِي إذا قِيلَ يومًا : دمٌ واحدٌ أو غدٌ واحدٌ أو يدٌ واحدهْ ...
هم يُرِيدُون أرْضًا لَهُمْ وحدَهمْ ..
ويُريدُونَ شَعبًا لهُمْ وحْدَهُمْ ..
وإلاهًا لهمْ وحدَهُمْ ..
وحياةً لهم وحدهُمْ ..
و بلادًا يُحَرِّرُهَا الجَيشُ والأمنُ والبلطجيّةُ من لِحْيَتي وكتابي وسُجَّادَتِي الطّاهرهْ
فاحترِسْ يا حبيبي الصّغيرَا ..
وإنْ أنتَ يومًا مررتَ برابعةَ العدويّةِ ، فاخلَعْ حذاءَكَ ياولدي ..
وترفّقْ بأرْواحِنا السَّاجِدَاتِ على خَدِّ إِسْفَلْتِها النّازفاتِ ..
ستبقَى معلّقةً في رقابِ الّذينَ أضَاعُوا البلادَ وباعُوا الضّميرَا
وسِرْ في دُرُوبِ الحَياةِ كما تَشتَهِي أن تسيرَا
ولكنْ .. تذكّرْ فقطْ .. 
أنْ تمُوتَ ، إذا حَانَ وقْتِ المَمَاتِ ، كبيرَا ...