نقاط على الحروف

بقلم
محمد الطرابلسي
قراءة في فشل الإنقلاب على الشرعية في تونس

 مقدمة

منـــذ أن حدث إنقلاب المؤسســـة العسكريـــــة فــــي مصــــر على الشرعية الإنتخابية، ٱشتغلت آلة الثورة المضادة في تونس محاولة إستراد ما حدث في مصر وإستنساخ الإنقلاب وإسقاطه على النموذج التونسي، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل من الوهلة الأولى بإرادة شعبية ترفض العودة إلى الوراء. إذ كان العديد من الأطراف يطالبون بحل مؤسسات الدولة ( الحكومة والمجلس التأسيسي ) والعودة بنا إلى الصفر، وهذه الحالة لا يمكن تسميتها بإسم آخر سوى « محاولة إنقلابية فاشلة ». 
من هم قادة الإنقلاب ؟
عند قراءتنا  لما كتبه الدكتور محمد ضيف الله في تقديمه لكتـــاب « معالم الثورة المضادة في تونس : الإعلام التونسي نموذجا » للكاتب عادل السمعلي، نفهم جيّدا كيف توفرت الأرضية الملائمة للمحاولة الإنقلابية إذ يقول في هذا الإطار : « إن المتابع للشأن الوطني يتذكر أن أعداء الثورة قد سدّوا على أنفسهم الأبواب في الأيام والأسابيع الأولى من الثورة، ثم بدؤوا يتحسسون ملابسهم ويفتحون نوافذهم، ثم بدؤوا يتواصلون، ثم شرعوا في إعادة تنظيم صفوفهم. وهاهم اليوم يتحركون على كل الواجهات تقريبا، يخططون ويموّلون ويأمرون وينفذون، وتتحرك وحداتهم القتالية في تناغم تام. يظهرون هنا على الشاشات كخبراء ومحللين، و ينتشرون هناك في جنح الظلام يخربون، وها هي أعمالهم تشير إليهم، كما لو أنها تصدر عن زر واحد. ومع ذلك فقليلون هم من يشيرون إليهم...» .
وهذا الوضع تتحمل فيه الحكومة قسطا كبيرا من المسؤولية بإعتبارها منحتهم الفرصة للعودة والنشاط من الباب الكبير وسمحت لهـــم بتكويـــن أحزاب في ظل بطء عملية المساءلة والمحاسبـــة. هؤلاء « رموز النظام السابق » هم قادة الإنقلاب والثورة المضادة اليوم، وقد سخروا كل الإمكانيات لإجهاض طموحات الشعب التونسي الذي يريد الحياة، إمكانيات إعلامية وسياسية وإقتصادية وإدارية وغيرها، فليس من السهل على منظومة فاسدة ٱمتد نفوذها أكثر من نصف قرن أن ترمي المنديل وتترك برامجها التعسفية بين عشية وضحاها. و وقع في هذا الإطار تأسيس منظمة « تمرّد » وهي إمتداد لمثيلتها في مصر، وهي منظمة إنقلابية إرهابية بإعتبار أن ليس لها أي صفة قانونية تسمح لها بالنشاط والتحرك، ولحسن حظ تونس أن هذه المنظمة لم تلقى مساندة شعبية وفشلت في إستراد الإنقلاب العسكري الذي حدث في مصر.
هل هذه آخر أوراق الثورة المضادة ؟
كنا قد تعرضنا في مقال سابق نشر في مـــارس 2011 بموقع « الحوار نت» بعنوان « الثورة التونسية و مسلســـل المؤامــــرة » إلى مختلف ردهات المؤامرة التي تحاك ضد الثورة التونسية ، إبتداءا بمحاولة الإلتفاف على الدستور وتنصيب الوزير الأول زمن بن علي محمد الغنوشي رئيسا مؤقتا وصولا إلى تولي الباجي قايد السبسي رئاسة الحكومة الإنتقالية التي سبقت إنتخابات 23 أكتوبر، وكان أغلب وزراء هذه الحكومات الإنتقالية رموزا للنظام السابق حاولوا الإلتفاف على الثورة وكانت الساحات العامة عبارة عن جدار صدّ في وجه كل محاولة إنقلابية على المسار الثوري. وٱنتهى بنا الأمر إلى طرح سؤال مفاده « هل ٱنتهى مسلسل المؤامرة على الثورة التونسية ».
و الواضح في مجريات الأحداث أن مسلسل المؤامرة على الثورة لم ينته فتعددت أجواء الإحتقان السياسي والصراع الإيديولوجي ولكن هذا الإحتقان والصراع كان مفاده إستهداف التيار الإسلامي المتجذر في الواقع التونسي، خاصة بعد فوز حركة النهضة بغالبية المقاعـــد في المجلس الوطني التأسيسي. 
وبدأت آلة الأحزاب الفاشلة في الإنتخابات تشتغل، يبرّرون مداخلاتهم في وسائل الإعلام بتخوفّهم على حرية المرأة ويتهمون الإسلاميين بالرجعية والتخلف بدعوى أنهم سيعودون بالبلاد إلى عصور الجاهلية الأولى. كانت هذه الورقة الإنقلابية الأولى  للمعارضة اليسارية والعلمانية ، و ذهب بهم الأمر إلى الحكم بفشل الحكومة قبل أن تبدأ أشغالها ، فهل هذا هو التنافس النزيه الذي تقوم عليه الديمقراطية؟ وكانت فعلا ورقة فاشلة لم تلقى تجاوبا شعبيا بحكم تجذر الحركة الإسلامية في المجتمع التونسي وإنفتاحها على رهانات المستقبل. هذه ورقة أولى فاشلة وبعدها ظهرت محاولات أخرى لإجهاض الثورة الهدف منها بث الفتنة والفرقة في صفوف الشعب وإبطال عملية الإصلاح السياسي والإقتصادي.
وبذلك دخلت محاولات الإنقلاب على الشرعية مرحلة ثانية تعتمد على الإغتيال السياسي ذهب ضحيتها اثنين من خيرة مناضلي المعارضة ، المناضل اليساري شكري بلعيد رحمه الله والمناضل القومي محمد الإبراهمي رحمه الله. وفي إعتقادي فإن أجواء الإحتقان السياسي والإجتماعي والإنفلات الأمني التي تسبب فيها دعاة الديمقراطية ورموز النظام السابق وفرت الأرضية الملائمة للإرهاب للقيام بمثل هذه الجرائم البشعة .
وبعد بداية الحرب على الإرهاب في جبل الشعانبي التي ذهب ضحيتها عدد من الجنود البواسل، أصبحت التهم موجهة مباشرة من المعارضة إلى الحكومة، فلا تستمع من المعارضـة غير كلمة « الحكومة قتلت»، فهل من مصلحة الحكومة إغتيال الشخصيات والإخلال بالأمن العام؟ و بدأ إستخدام الورقة الأخيرة للإنقلاب، ورقة تدعو إلى حل المجلس الوطني التأسيسي واستقالة الحكومة، الأمر الذي دفع ببعض النواب إلى الإنسحاب من المجلس الوطني التأسيسي وتنظيم ما يسمى بإعتصام الرحيل فهل من المسؤولية الوطنية أن نطالب بحل مؤسسات الدولة الشرعية التي أشرفت مهامها على النهاية؟ . و تصدى أنصار الحكومة و شرفاء البلاد إلى هذه المحاولة الإنقلابية الأخيرة ونزل مئات الآلاف من الجماهير إلى الشارع نصرة للشرعية ومطالبة بالوحدة الوطنية للوقوف في وجه هذا العدو المشترك ألا وهو « الإرهاب » . و هكذا باءت هذه المحاولة بالفشل ولا نعلم هل هي الورقة الأخيرة أم لا ؟
ماهي الدروس من محاولة الإنقلاب على الشرعية في تونس ؟
المطلوب اليوم من كل الأطراف السياسية حكومة ومعارضة والأطراف الإجتماعية مراجعة تصوراتها بإعتبارها قد فشلت جميعها في تمثيل الشعب، والجلوس على طاولة الحوار للخروج من الأزمة           وصياغة سيناريو لإنقاذ البلاد دون المساس بالتجربة الديمقراطية التي تعيشها البلاد والوقوف عند عوامل الفشل الآتي ذكرها بكل موضوعية دون تعصب.
عوامل فشل الحكومة:
- الحكومة فشلت في العديد من الملفات خاصة الإقتصادية والإجتماعية و لم تكن في مستوى تطلعات الشباب المعطلين عن العمل الذين هم في تزايد مستمر، ولم تقدّم البدائل التنموية لحلّ الأزمة، بدائل تستند إلى تشخيص الواقع تشخيصا موضوعيا يقوم على تحديد الأهداف العاجلة والآجلة للمسيرة الإقتصادية . 
- الحكومة فشلت لأنها أغرقت البلاد في الديون، ووصل بها الأمر إلى الإقتراض من صندوق النقد الدولي بمعنى أنها أصبحت عاجزة عن تسديد النفقات العمومية.
- الحكومة فشلت في إحتواء الخطاب السياســـــي في الشــــارع من خلال ضعف تأطير قواعدها و أنصارها  وإنتشار مظاهر التعصب.
- الحكومة فشلت في طرح منوال للمصالحة الوطنية يفتح آفاقا جديدة للحوار يجمع جميع الفرقاء السياسيين مع الأطراف الإجتماعية، دون تنازل عن مسار المحاسبة ومعاقبة المفسدين في الأرض.
عوامل فشل المعارضة: 
- المعارضة فشلت في المشاركة في عمليات الحوار الإيجابي مع الحكومة الذي من شأنه أن يعيد الأمل لأنصارها .
- المعارضة فشلت لأنها لم تستطع إلى حد الآن تقديم بدائل واضحة للأزمة الإقتصادية والإجتماعية التي تعيشها البلاد، وٱقتصر دورها فقط على المطالبة بحل مؤسسات الدولة المنتخبة، الأمر الذي يتنافى مع مبادئ الديمقراطية التي يطالبون بها ويزعمون أنهم يمثلونها ويدافعون عنها بإسم الشعب.
- المعارضة فشلت لأنها كانت أمام فرصة تاريخية لتوسيع قواعدها الشعبية و لكن الآن قضت على كل فرصة من شأنها أن تعيدها إلى المشهد السياسي بسبب إنصهارها في المؤامرة الإنقلابية ومطالبتها بحل الحكومة والمجلس التأسيسي.
و لكن في هذا الإطار يمكن إستثناء « تيار المحبة » الذي يقوده السيد الهاشمي الحامدي ، الذي إستطاع  أن يتعامل إيجابيا مع الأزمة من خلال مبادرته « بالإنتخاب لا بالإنقلاب » ، ويمكن إعتباره التيار الوحيد في المعارضة الذي تصرّف نشطائه بذكاء وكانوا واعون بخطورة المؤامرة الإنقلابية التي كانت تحاك ضد البلاد لأجل عودة النظام السابق.
كما أن موقف «حركة وفاء» كان إيجابيــا من خلال تأكيدهـــم على حاجة البلاد لمؤسسات دائمة منبثقة عن الإنتخابات .
فالدرس الأول المطلوب فهمه اليوم هو أن هذا الفشل للحكومة والمعارضة من شأنه أن يغذي حالة الإحباط في الأوساط الشعبية. فجزء كبير من التونسيين بات يشعر بالقطيعة بينه وبين النخب السياسية، وساد لديه شعور بأن الثورة قد سرقت منهم  وأن أهدافها الأساسية مثل الشغل والكرامة والتنافس النزيه على السلطة ٱندثرت ولم تعد من أولويات هذه النخب السياسية .
أما الدرس الثاني فهو مطلوب من الجميع بعد فشل هذه المحاولة الإنقلابية مراجعة توجهاتها والبحث عن سبل جديدة لإستعادة ثقة الشعب و ذلك بوضع رزنامة واضحة للإستحقاقات القادمة والإنكباب على مشاكل الناس الحقيقية كالشغل والتنمية الجهوية المتوازنة. وذلك بتشريك أكبر عدد ممكن من الأحزاب السياسية في الحكم دون مساس بالمجلس الوطني التأسيسي.
ختاما 
بعد فشل هذه المحاولة الإنقلابية ، أصبحت المصالحة الوطنية خيارا إستراتيجيا لا مفر منه، شرط أن تكون مصالحة شاملة بين جميع الأطراف: مصالحة بين الحكومة والمعارضة من ناحية، ومصالحة بين النخب السياسية والشعب من ناحية أخرى. ولكن يجب أن لا تكون هذه المصالحة على حساب عملية المحاسبة العادلة  أو على حساب قانون تحصين الثورة الذي يعتبره البعض عقوبة جماعية . فإما أن نعيش جميعا في ظل هذا الوطن كإخوة أو نغرق جميعا دون إستثناء كأغبياء.
المراجع
السمعلي عادل : معالم الثورة المضادة في تونس، مجموعة مقالات، دار النشر المغاربية ، 200 ص.
الطرابلسي محمد 2011 : الثورة التونسية ومسلسل المؤامرة، موقع الحوار نت .
جين شارب2009 : من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، الدار العربية للعلوم، بيروت.