مقالات في التنمية

بقلم
نجم الدّين غربال
مقاربات لمواجهة الفقر

 تعاني فئات عريضة من البشرية ويلات الفقر وتتجرع أصناف الحرمان في الوقت الذي تتمتع فيه فئات أخرى بامتيازات تمويلية منحها لها نظام مالي تقليدي لا يعترف إلا بمن هو قادر على توفير ضمان أو له دخل قار، متجاهل أو غير معتبر لتلك الفئات التي يعوزها الضمان و لا تملك ما يسدّ حاجاتها الأساسية يوميا، رغم أعدادها الهائلة حتى سقط هذا النظام في أتون الأزمات بعد أن سقط أخلاقيا بفقدانه الحسّ الإنساني والبعد الاجتماعي.

كما ظل الاقتصاديون ومن ورائهم السياسيون الطريق زمنا طويلا في قراءتهم للواقع وفي عملية تشخيصه باعتمادهم على رؤية نقدية للأمور، غير آخذين في الحسبان الاعتبارات السياسية والفلسفية والاجتماعية.
ولقد سادت تلك المقاربــــة النقديــــة الغيــــر واقعيـــة عقــــودا إلى أن وصل كثيــــــــر من الباحثيــــن إلى إقــــرار محدوديتها على المستوى المنهجـــي. فعلى سبيل المثــــال، قــــام كـــــل مــــن جــــــون ميشال هوريـــاز (Jean Michel Hourriez) وبرنــــارد لاقري (Bernard Legris)  ببحث عنوناه «المقاربة النقدية للفقر: منهجا ونتائج» (L’approche monétaire de la pauvreté : méthodologie et résultats) وصلا من خلاله إلى القــــول بأن « كل الاعتبارات النظرية والنتائج الميدانية تؤكد محدودية القيس النقدي والإحصائي للفقر على المستوى المنهجي» ففي إطار النهج النقدي تعرف الأسرة الفقيرة أنها تلك التي يكون دخلها أقل من عتبة محددة تتطور وفق مستويات العيش وهذه المقاربة تعتمد على اتفاقات حصلت لتعريف الدخل وتحديد السقف. فالدخل هنا هو الدخل النقدي المتوفر بدون أن يؤخذ بعين الاعتبار مكونات أخرى محددة في مستوى عيش الأسرة وبالتالي لا يعكس هذا الدخل دائما مستوى العيش الحقيقي لعائلة ما لأنه يتجاهل ممتلكاتها ولا يدخل في الحسبان التضامن الاجتماعي وعوامل أخرى غير مرئية كالإنتاج العائلي وشبكة العلاقات للعائلة فضلا عن أن الاعتماد على الدخل السنــــوي لا يقدم لنا معطيات على استمرار الفقر من عدمه.
كما بين الإحصاء محدودية هذا النهج حين أظهر أن نسبة الفقر «النقدي» الجملي ثابتة بالرغم من أن أعداد الفئات الفقيرة والمعدمة في ازدياد. فالفقر المرتبط بالبطالة وكذلك ببطالة أصحاب الشهائد يتضاعف ويتفاقم في أكثر من بلد كفرنسا مثلا في ثمانينات القرن الماضي إلا أن هيكل السكان الفقراء عرف تغيرا عميقا وتزايد التفاوت بين الفقراء ذاتهم كما شمل الفقر الفلاحين وأصحاب الحرف وصغار التجار والأطفال والعائلات ذات الكثافة العددية والفقراء الغير فاعلين والمعوقين والعاطلين عن العمل المحبطين والفقر الناتج عن العمل الغير قار ...  
واقتنع الكثير بالفائدة والحاجة الماسة للأخذ بعين الاعتبار مقاييس بديلة أو إضافتها لمقياس الدخل كالسكن والاستهلاك والتجهيزات والمؤشرات الذاتية وغيرها.
وإذا تحولنا إلى شرق العالم وجدنا أنفسنا ضمن دائرة تأثير أحد أهم محاربي الفقر في العالم البروفسير البنغالي «محمد يونس» أستاذ الاقتصاد والمتحصل على جائزة نوبل للسلام 2006 ومؤسس «بنك الفقراء» أو «بنك القرية»( Grameen Bank) سنة 1983.
لقد بدأت فكرة إنشاء البنك منذ سنة 1976 وتطورت حتى أصبحت مشروعا قائم الذات بحلول سنة 1983 ومنذ ذلك الحين فتح هذا المشروع الطريق أمام تنمية فكرة القروض الصغرى لفائدة الفقراء.
انطلق «محمد يونس» من قناعة مفادها أن « ليس الفقراء هم الذين صنعوا الفقر» وأن الفقراء في حاجة إلى بنك خاص بهم نظرا لان البنوك التقليدية بالشروط التي تضعها لا يمكن إلا أن تكون بنوكا للأغنياء باعتبارها تقوم على أساس أن « كل ما كانت لك أموال بإمكانك أن تتحصل على المزيد» لذلك وعلى النقيض تماما أقام بنكا للفقراء على أساس أن «كل ما كنت في حاجة إلى المال كل ما كانت الأولوية لك للحصول عليه» وهذا المبدأ موجه أساسا لكل من ليس له عمل أو أرض أو دخل وكان يقول «البنوك التقليدية بنوك الأغنياء بينما بنكنا ينتمي للفقراء».
إن المقرضين في هذا البنك هم مالكي هذا البنك وهم ليسوا في حاجة لا إلى تأمين ولا إلى ضمان ولا إلى ترسانة قوانين فكل مؤسسي «بنك الفقراء» ينطلقون من رفض آلي لتطبيقات النظام البنكي التقليدي ويتمسكون بالعلاقات التعاونية القائمة على الثقة.
إن موارد هذا البنك متأتية من المودعين أنفسهم وهم المقرضون ولهم ثقة في اقتصادهم والقروض تقدّم من الأموال المودعة في حدود 75 % و25 % المتبقية ودائع يحتفظ بها البنك فالكل ممول من طرف البنك وبنك الفقراء لا يقترض البتة.
إن السداد مضمون نظرا لأن « الثقة تولد الثقة» في ثقافة محمد يونس ومن انتهج نهجه. فضلا عن أن الفقراء يحترمون تعهداتهم وهذا ما أظهرته التجارب إذ أن نسبة السداد بلغت 99.5 % مما يؤكد خطأ الاعتقاد بأن الفقير لا يسدد دينه.
لقد أنشأ إذا «محمد يونس» بنكا لمواجهة الفقر ويعد هذا البنك اليوم 8.5 مليون عضو :97 % منهم نساء ومنذ نشأته أقرض أكثر من 12.5 مليار دولار وتدخل في أكثر من 50.000 قرية في العالم كما تمكن «بنك الفقراء» والذي هو مؤسسة للقروض الصغرى من انتشال 65 % من بين 8.5 مليون حريف لديه من الفقر.
لقد كان «بنك الفقراء» هذا ولا يزال ملاذا للمستغيثين ممن يطلب الإعانة حيث يخاطبهم محمد يونس بالقول « بـ 12 دولار يمكنكم أن تدخلوا عالم الأعمال» وذلك عبر اقتناء بعض السلع والمتاجرة فيها ولقد شمل برنامجه هذا 70.000  مستغيث مستفيدين من قرض يتراوح ما بين 12 إلى 15 دولار متبوع بقرض أكبر وهكذا دواليك.
و من الأهمية بمكان أن نحدد الموجهين الذين يقودان تدخل «بنك الفقراء» فيما يلي : 
(1)   ضرورة الاعتقاد بأن لا مبرر لوجود الفقر وأنه من الممكن العيش في عالم بلا فقر.
(2)  إعطاء كل فرد يعيش على هذا الكوكب كل التقدير والاهتمام انطلاقا من قناعة مفادها أنه صاحب قدرات والمطلوب إعطائه الإمكانية والأدوات التي بها يعبّر عن قدراته تلك وهذا على نقيض النظام البنكي التقليدي الذي لا يقرض إلا من له مال والحال أن ملايين من البشر بدون موارد وبدون شغل وجدوا أنفسهم مهمشين ومقصيين.
إن الحديث عن قدرات الإنسان يتقاطع مع نهج «آمارسياسان» الفيلسوف والاقتصادي الهندي الأصل والمتحصل على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1998 القائم على القدرات.
و قد رأى «سان» أنه من اجل وضع حدّ للفقر لابد من تنمية تعترف بقدرات الأفراد قدرات عرفها بـ «حرية استعمال كل ما هو مادي ولا مادي بهدف اختيار نمط حياته» ومثال ذلك للإنسان حق في الشغل ولكن حتى يكون هذا الحق فعلي و يكون الإنسان قادر على العمل لا بد أن يمتلك قدرات كالعلم والتكوين ووسيلة تنقله إلى مكان العمل إلى غير ذلك .
و لقد اهتم «سان» في منتصف سبعينيات القرن الماضي بالمجاعات وخاصة تلك التي فتكت ببنغلاداش سنتي 1972 و1973 وذهب ضحيتها 3.5 مليون نسمة ولفت انتباهه أن المجاعة حلّت رغم أن الجهة تملك موارد لا باس بها كما أنه اصطدم بالرؤى التي اختزلت الفقر في جانبه النقدي والمعتمدة على ملاحظة مستوى الدخل وتطوره بالنسبة للفرد في مختلف الدول.
لقد وصل «سان» إلى قناعة مفادها أن الفقر ليس مسالة أجور بل هو شديد الارتباط بالحرية التي تمكن الفرد من مستوى صحي وتعليمي يقدر بهما على عدم الوقوع في براثن الفقر.
أقام «سان» أطروحته إذا على القدرة وكذلك على الرغبات الفردية وأهمية دمجها في العملية التنموية. كما اشتغل على التوفيق بين هدفين كانا متنافرين في تصورات الاقتصاديين وهما النجاعة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية إلى أن وصل إلى أن العلاقة بين الفرد والمجموعة علاقة مفصلية وكذلك هي العلاقة بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للحياة في المجتمع كما عرف التنمية في كتابه (التنمية حرية) على أنها «مسار توسعي للحريات الأساسية الفردية» جوهره تزايد قدرات الفرد التي عرفها بمجموعة من الحريات الحقيقية التي تمكنه من استغلال قدراته وتوجيه وجوده.
أضاف فكر «سان» إذا إلى الثروة النقدية في معرفة مستوى حياة الأفراد الإمكانات الاجتماعية وكذلك السياسية المعروضة على الفرد والتي ترتبط مباشرة بحالته الصحية ومستواه التعليمي فضلا عن إمكانية الإدلاء بصوته في الانتخابات المحلية والوطنية لذلك كانت الديمقراطية مركزية في تفكيره.
إن تحسين حالة الرفاهة للسكان لا تتوقف على نمو الإنتاج و تراكم رأس المال حسب «سان»  بل تشترط أيضا توسيع الحريات الأساسية كهدف ذو أولوية وموجه محدد للتنمية،  إذا نحن أمام محاولة جريئة للمصالحة بين الانشغال بتحقيق النمو وتوفير المتطلبات الإنسانية والأخلاقية.   
إنها مقاربة غير كميّة للفقر إذ أنها لا تتمحور حول الدخل النقدي بل تثري فهم ظواهر الفقر وتقدم تعريفا له متعدد الأبعاد يتدخل فيه الفرد والمجموعة وكذلك العوامل الاقتصادية و الاجتماعية والسياسية.
لقد أثر «سان» بمقاربته هذه على طريقة قيس الفقر وتجسد ذلك بمؤشر التنمية البشرية (I D H) الذي اقره برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية سنة 1990 وأصبح يأخذ بعين الاعتبار كل من مستوى الحياة والتعليم والصحة و يقاس على قاعدة مؤشرات ثلاث :
(1)  مؤشر صحة سكان البلد المعني والذي يقاس بالأمل في الحياة عند الولادة مما يحيل على الإكتفاء من الحاجات المادية الضرورية للبقاء على الحياة ( الحصول على الماء والخدمات الصحية الأساسية).
(2)  مؤشر مستوى التعليم بالأخذ في الحسبان معدل مدة التمدرس للكهول الذين تجاوز سنهم 25 عاما وكذلك المنتظر بالنسبة للأطفال في سن الدراسة أخذا في الحسبان الإكتفاء بالحاجات اللامادية (القدرة على المشاركة في الحوار وفي أخذ القرار... ).
(3)  مؤشر مستوى الحياة الذي يقاس بالدخل الفردي الخام و الذي يحتوي العناصر الأخرى الغير محتواة في المؤشرين السابقين ( القدرة على الحركة، الفعل الثقافي والرياضي...).
كما طور برنامج الأمم المتحدة هذا المؤشر حين أخذ في الحسبان مستوى التفاوت «I D H I»  داخل المجتمع معتبرا أنه بتوفر شروط المساوات التامة يكون المؤشرين متساويين يعني أن:
I D H  = I D H I
و كلما كان المؤشر الذي يأخذ في الحسبان التفاوت أقل من مؤشر التنمية البشرية كلما كان التفاوت أكبر : I D H  > I D H I